في النصف الأخير من القرن السابع عشر، كتب الموسوعي الإنجليزي توماس براون “متاحف مغلقة ” Musaeum Clausum؛ قائمة متصورة لـ”كتب استثنائية وأعمال أثرية و لوحات ونوادر مختلفة لم يسبق لشخصٍ يعيش في الوقت الحالي أن رآها أو نادرًا ما حصل ذلك” . وتستطلع كلير پريستُن هذه القائمة الاستثنائية في ظل السياق الأوسع لانشغال عصر النهضة بالكنوز الفكرية المفقودة.
وفي عصر استرجاع البيانات، حيث تستطيع الوصول إلى أي شيء مطبوع على الإنترنت ومحفوظ هناك إلى الأبد، وحيث تتأجج المخاوف الحديثة بكثرة المعلومات، يجدر بنا أن نتذكر بأن فقدان الكتب والتحف الفنية كان أمرًا مأساويًا حتى عهد قريب في تاريخ البشرية. أحرق الرومان مكتبة البطالمة العظيمة في الإسكندرية في القرن الأول الميلادي، وهي مجموعة حكمة قديمة أسطورية كانت خسارتها تؤرق ثقافة النهضة. وكان العلماء الأوروبيون في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وفي خضم عملية الإحياء المذهلة للكتابة الكلاسيكية، مدركين تمامًا لما كان غير قابلٍ للاسترداد وحتى ما هو مجهول بالنسبة لهم.
كان السير توماس براون (1605-1682) باحثًا، وجعلته خبرته الواسعة في مجالات مختلفة مثل، علم الأجنة وعلم التشريح وعلم الطيور والتاريخ والأدب القديم وعلم أصل الكلمة وعلم الآثار المحلية والصيدلة ومشاركته في المشروع البيْكوني Baconian)) لإنقاذ المعرفة من الاعتقادات الخاطئة وعمليات المسح التي تراكمت منذ هبوط الإنسان، حساسًا للغاية لمثل هذه الخسائر. ويبدو أن “المتاحف المغلقة” Musaeum Clausum ؛قائمة صغيرة سوداوية وهزلية في الوقت ذاته، تدمج آراء بداية العصر الحديث حيال ندرة الكنوز الفكرية الثمينة.
المتحف المغلق ( Musaeum Clausumالمكتبة الدفينة) هي قائمة وهمية لمجموعة تحتوي على كتب وصور وأعمال فنية. وشكلت هذه المجموعات (وقوائمها المفصلة) ظاهرة شائعة في عام 1500 وحتى عام 1700 وما بعدها. جمعها النبلاء والسادة من باب المشاركة الكيِّسة بالمعرفة وإظهار الثراء والعلم أيضًا. كما جعل العلماء مجموعة من النباتات والحيوانات والمعادن بمثابة متحف أو”مكنز” للعالم الطبيعي ليتسنى لهم تسجيل نتائجهم وتنظيمها. أما المجموعات الإمبراطورية والملكية فقد كانت أميريةً في روعتها وندرتها ونفقتها الهائلة: وقد لا تحتوي هذه على عينات طبيعية تاريخية فقط، وإنما أيضًا على الحليّ والتذكارات من الأماكن النائية وتحف من الطبيعة والفن وقطع مهمة تاريخيًا. فمثلًا، حافظ التحنيط على حيوان الباسيليق في غرفة مشتركة مع شوكة من تاج المسيح وأغطية الرأس ذات الريش وأسلحة تنتمي إلى القبائل الأمريكية الأصلية. فيأخذ براون هذه التقاليد الخاصة بالتجميع ويصنع منها قائمةً للأشياء العجيبة التي اختفت.
ولا تتحدث قائمة براون للمتحف المفقود فقط عن التبعثر والتناثر والفقدان، بل أيضًا عن الغرابة والكوميديا. ومن بين وثائقها، رسائل وأعمال أرسطو وأوفيد وشيشرون، وسرد لبعثة هانيبال في جبال الألب “أكثر دقة من رواية ليفي” التي يُزعم أنها تُنبئُنا عن نوع الخل الذي استخدمه لشق الأحجار في طريقه. ولعل أهم واحدةٍ من بين هذه الرسائل هي رسائل سينيكا إلى القديس پولس، وهي مراسلات، ستصافح شوق الرواقيين المسحيين إن وجدت.
فتُظهر إحدى الصور وهي “جزء كبير من غواصة” قاعَ البحر الأبيض المتوسط والأعشاب البحرية التي تنمو هناك، وتصفُ ثانيةٌ معركة ضوء القمر بين فلورنسا والأتراك، وتظهر أخرى وهي “قطع” جليدية أو ثلجية مناظرَ طبيعية رائعة وغريبة تسكنها حيوانات القطب الشمالي الغريبة. وتعرض الصور الأخرى نيران قسطنطينية العظيمة وحصار ڤيينا واحتلال فوندي ومعاهدة كولونيا، بالإضافة إلى الصور والرسوم الكاريكاتورية، وحتى كلاب السلطان أحمد.
وقد تكون التحف هي الفئة الأكثر غرابةً وعشوائيةً في المجموعة، حيث ستجد كلَّ شيء، من بيضة نعامة منقوش عليها مشهد من معركة الكازار، إلى حجرٍ نديٍّ يشفي الحمى، وإلى خاتمٍ عُثِر عليه في بطن سمكة (عُرف بأنه الخاتم الذي يتزوج به دوق البندقية البحر كل سنة)، وجسدٍ محنط للأب كريسبين من تولوز، ومعركةِ الضفادع والفئران (Batrachomyomachia, or the Homerican) الموصوفة بدقة في عظم منقوش من فك كبير لسمكة الكراكي الرمحي.
ويعد عمل براون واحدًا من الأمثلة العديدة على هذا النوع، أعني القائمة الوهمية. وكتَبَ دون مثالًا واحدًا وضمَّنَ رابليه مثالًا واحدًا أيضًا في روايته غارغانتوا وبانتاغرول. وعلى الأغلب، كانت تعد مثل هذه الأعمال محاكاة ساخرة صريحة للفضول المُتَعلَّم وتقليدًا ساخرًا لمجموعات عشوائية رآها جون إيڤلين بأنها ليست أكثر من مجرد “فوضى غير مفهومة” لكن ربما يكون براون، على الرغم من أنه يدرك عبثية بعض مواده وأنه على نحو جليّ يسعى لأن يضفي طابعًا هزليًّا في بعض منها، مهتمًا أكثر بفلسفة الآثار القديمة والماضي والمعرفة القائمة حيث أُعيد إحياؤها من ويلات الزمن والنسيان وحُفِظَت.
وكانت غاية براون، مثل أتباع الفلسفة البيكونية الحديثة، الإصلاح واستجلاء الحقيقة وقراءة “المتاحف المغلقة”Musaeum Clausum وكأنه استدعاء شجي لما كان من الممكن أن يكون موجودًا في مجموعة أسطورية مثل مكتبة الإسكندرية. وقد لا يظهر أقوى تعبير لهذا الحزن في أعمال معينة أو في النصب التذكارية للعظماء، بل في جثة الأب كريسبين المثيرة للشفقة، الذي دفن منذ عهد بعيد في مدافن كورديليرز في تولوز حيث تكون جلود الموتى جافة ولا تفسد إذ من الممكن أن يُميَّزَ أصحابها حتى بعد مضي فترة طويلة، ومع هذا النقش، ها هو كريسپِن مرة أخرى. والأب المجهول الآخر كريسپِن، الذي يعد راهبًا عاديًّا كان اسمه فقط هو تاريخه. خلَّدَهُ الجو الغريب للمدفن وليس بسبب إنجاز أو ميزة. ويعد بقاؤه فقط من خلال مظهره الخارجي والذي يمكن “التعرف عليه حتى بعد مضي فترة طويلة”، مجرد ظاهرة علمية، وليس بنصب تذكاري صُنعَ لشخص ما.
فيستجدينا هذا النقش الملكي بأمر زجري مهيمنٍ أن ننظر من جديد إلى ما لم يكن يومًا مميزًا أو أمرًا لا ينسى في المقام الأول. وإن الموضوع المفضل لدى براون، هنا وفي أماكن أخرى، هو عشوائية التذكر، ولهذا حُفظ الأب كريسپِن، الذي يعد خلودًا عشوائيًّا للماضي، فقط ليضيع مرة أخرى مع المجموعة التي حَوَتْه.
وقبل عشرين عامًا مضى، كتب براون عمله الرائع “Urne-Buriall”، وهو بحث في العادات الجنائزية. وفيه طرح سؤاله لماذا يجب أن يكون لدينا تسجيل لمرثية حصان هادريان وليس عن هادريان نفسه؟ أو ما إذا كانت ذكرى أفضل الرجال ما تزال حية؟ “أو ما إذا لم يكن هناك أشخاص مميزون منسيون أكثر ممن يظلون مذكورين في الوقت الحالي؟” وحرك هذا الإحساس الدائم بكثرة الأشياء المنسية، والتي ما يزال يُذكَر منها القليل جدًّا، براون وغيره من علماء بداية العصر الحديث الذين كانوا يجرون عملية تخليصٍ لانتعاشٍ فكريٍّ .
بقلم: كلير بريستون | ترجمة: لمياء العريمية | تدقيق: عهود المخينية | المصدر