كيف تُنشئ طفلًا قارئًا: والد ماري شيلي حول التربية وكيف يُمكن لحُب الكُتب منذ الصغر أن يقود للسعادة الأبدية

خلال السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر، تزوّج الفيلسوف السياسي الراديكالي والمؤلف وليام جودوين من المؤلفة والفيلسوفة السياسية الراديكالية كذلك ماري ولستونكرافت، مؤسسِة ما سيعرف لاحقًا بالحركة النسوية. وحينما كانت ولستونكرافت حاملًا بابنتهما التي ستصبح لاحقًا مؤلفة الرواية الأشهر فرانكشتاين، بدأ جودوين بتدوين محادثاتهما الليلية حول تربية أبناء سُعداء وأذكياء وخلوقين في سلسلة من المقالات التي نُشرت لاحقًا في كتاب The Enquirer: Reflections on Education, Manners, and Literature . بيد أن عنوان الكتاب المُراعي لحدود اللباقة الجورجية والفيكتورية، يحمل في مضمونه عملًا راديكاليًا، يضرب بالبديهيات الجورجية والفيكتورية عرض الحائط، سابقٍ لأوانه في استشراف مبادئ العلوم الإنسانية والنفسية الحديثة للتربية، والتي لم يكن لها وجود في زمن جودوين.

وليام جودوين. بورتريه جيمس نورثكوت. (المعرض الوطني للصور ، لندن.)

يكتب جودوين:

إن الهدف الأسمى للتعليم، كغيره من أية عملية أخلاقية، هو إنشاء أجيال تُركّز على سعادة الفرد في المقام الأول. فإذا كان الفرد سعيدًا، سيكون كل بني جنسه سعيدًا.

وفي هذه العملية التعليمية الهادفة لسعادة الإنسان الصغير، يؤكّد جودوين على أهمية غرس حُب الكتب والأدب في الأطفال منذ حداثة سنهم، والذي على حد قوله سيُلهمهم لتبني عادات تتسّم بالتحليل والاجتهاد، وسيؤهّل عقولهم الصغيرة لتكون نشِطة ومستعدة لتلقي التعليم. وبالرغُم من استخدامه للُغة مُتحيّزة للجنس الذكري كما هو الحال في تلك الفترة- التي كانت لتستشيط لاستخدام أورسولا كيه لي غوين الساخر لكلمة رجل كضمير عام- يكتب جودوين حكمًا خالدة حول حقيقة التربية بأسلوب شاعري يُلامس القلب: 

يتحدد مصير المرء ما إن كان سيصبح مُشرقًا نيّرًا أو مُظلمًا كالحًا باهتمامه بالكُتب والقراءة منذ حداثة سنه. من يُحب القراءة يستطيع أن يمتلك كل شيء، كل ما يتمناه من حكمة الدهر وقوة العمل.

فن بينغ تشو من سرعة الوجود: رسائل إلى قارئ شاب. متاح كنسخة مطبوعة.

يُبحر جودوين في فكرة أن الكتب لا تمنحنا الحكمة الكامنة بين صفحاتها فحسب؛ بل إنها الوسيلة التي تمنح أذهاننا شيئًا من عقل كاتبها، وتُوقد في أذهاننا حسًا جديدًا من الواقعية والعقلانية :

تُشبع الكُتب فضولنا المُتقد بطرقٍ عدّة. تجبرنا الكتب على التفكّر، على التنقّل بين نقطةٍ وأخرى. إنها تمنحنا أفكارًا مُباشرة من زوايا مختلفة، تقودنا بدورها إلى أفكارٍ غير مُباشرة. حينما نقرأ كتابًا جيّدًا، نكون في حضرة أعمق وأنضج التأملات، وأسعد الجولات داخل عقلٍ استثنائي. من الصعب أن تعتاد على رفيقٍ بهذه الروعة دون أن تبدأ في التأثر بروعته ومشابهته مع الوقت. حينما أقرأ لثومسون، فإنني أُصبح ثومسون، وحينما أقرأ مِلتون، أصبح مِلتون. أجد نفسي تتلوّن وتتغيّر بلون الكتاب الذي أقرؤه، وتصطبغ بصبغة الكاتب الفكرية في كل مرة. إن المرء الذي يجد لذته الخاصة ودهشته المتجددّة بين أرفف المكتبات، يتذوّق أشهى النكهات من أطباقٍ لا تُعّد ولا تُحصى. يُكوّن مع الوقت ذائقة مُتفرّدة، تستطيع أن تُميّز أطياف النكهات المختلفة، ويصبح ذهنه مُرهفًا مُتقدًا، واعيًا بكل انطباع، شاحذًا ذكاءه وحدسه. ويعجز الحساب أمام قدرته الخارقة على التفكير المتنوّع، وتغدو ملكاته- سواءً ملكة التفكير المنطقي أو الخيال- قويّة مفعمة بالحيوية.

فن لوفرا أميت من سرعة الوجود: رسائل إلى قارئ شاب. متاح كنسخة مطبوعة.

وبعد أن قدّم لنا كنزًا ثمينًا حول فوائد القراءة الجمّة، يأخذ جودوين بأيدينا نحو أهم مقوّمات تنشئة طفلٍ قارئ. يبني جودوين آراءه الأساسية حول تربية الأطفال من منطلق التعامل مع الطفل كإنسان كُفئ في هذه الحياة وليس أداةً نتحكّم بها، وأن نكرمه بالحقيقة التي يستحقها عوضًا عن إغراقه في نفاقٍ زائف وحبسه خلف جدار حصين يفصله عن الواقع وحقائقه المُقلقة بدافع الحماية. وعن ذلك يكتب:

على الطفل أن يبدأ في التعايش مع العالم الحقيقي مبكرًا إلى حدٍ مُعيّن، بأن ينخرط مع أقرانه ومخلوقات هذا الكون الشاسع، وكذلك الحال مع أصناف الكتب التي يقرأها. وليس من الجيّد أن يُحبس خلف قضبان الواقع، متروكًا بين قبضتي خياله، والذي أجمع عُظماء الفلاسفة في أقوالٍ مأثورة علميًا وأخلاقيًا، بأنه فعل يُحجّر القلب البشري، ويقصيه ويعيقه عن مُمارسة بشريّته المُستحقّة. امنح طفلك الثقة إلى حدٍ معقول، واتركه يخوض صراعاته الداخلية في بعض الأحيان لاختيار طريقته المُثلى للقراءة. اسمح لقلبه أن يخوض عراكات الأدب بشتى صنوفها.

وبعد قرنين من الزمن، ستُردّد الشاعرة البولندية فيسوافا شيمبورسكا الحائزة على جائزة نوبل ذات الفكرة في تأملاتها الرائعة حول الحكايات الخيالية وحتمية الخوف.

فن فيوليتا لوبيز من “سرعة الوجود: رسائل إلى قارئ شاب”. متاح كنسخة مطبوعة.

وحول الفكرة الدافئة التي يعرفها كُل قارئ نهم في أعماقه، أننا نسوق أنفسنا للكُتب التي نقرأها، وبأن كل ما نأخذه منها هو ما نحتاجه من الأساس، يقول جودوين:

إن ما تمنحه لنا الكُتب، لا يكمن في المحتوى فحسب؛ بل في قابلية قلوبنا وأذهاننا لاستقبال كُل ما تمنحنا  إياه الكُتب بحب حينما نتلقاه.

وللاستزادة حول ذات الموضوع، نرشّح لكم مقال A Velocity of Being: Letters to a Young Reader – الذي يضم تشكيلة من الرسوم الفنيّة التي تُعدّ امتدادًا لأفكار جودوين حول قيم القراءة التي تمنح الحياة بُعدًا جديدًا، بالقراءة لـ 121 كاتبًا شكّلوا حياتنا كما نعرفها اليوم. كما نرشّح قراءة منظور ريبيكا سولنيت حول البُعد الثقافي ليومنا الحاضر الذي خلّفته ماري وللستونكرافت في how books solace, empower, and transform us


بقلم: ماريا بوبوفا | ترجمة: منال الندابية | تدقيق: مريم الغافرية | المصدر

Exit mobile version