من الصعبِ الاعترافُ بالوحدة، ومن الصعبِ تصنيفها، كالاكتئاب، الحالة التي تتقاطعُ معها الوحدة غالبًا، حيثُ من الممكن أن تتغلغلَ إلى أعماقِنا
كيفيةُ التحررِ من هذا السجن وإعادة العيش في مساحةِ الثقةِ والحبِ هو ما تستكشفهُ أوليفيا لاينغ في “المدينة الوحيدة: مغامراتٌ في فن البقاء وحيدًا” . وهي ليست كأية مذكرات، إنها مذكراتٌ استثنائية. إنها من النوع الذي يُقال عنه أكثرَ من مذكرات، إنها في منتصفِ الطريقِ الواصلِ بين مذكرات هيلين ماكدونالدز “H Is for Hawk“ ومذكرات فيرجينيا وولف: سردٌ غنائيٌ للخوضِ في اغترابٍ ذاتي، جسديًا ونفسيًا، ترسمُ فيها لاينغ خريطةً للوحدةِ على أنها “مكانٌ مأهول: بل مدينةٌ في حدِّ ذاتها”.
بعد الصدمة العاطفية المفاجئة التي تعرضت لها خلال فترةٍ رومانسيةٍ امتازت بالابتهاج الشديد، تركت لاينغ موطنها الأصلي إنجلترا وأخذت قلبها المحطم إلى نيويورك، “تلك الجزيرة المزدحمة، المكونة من الصخر والخرسانة والزجاج”. كان الشعور العميق بالوحدة الذي عانت منه يوماً بعد يوم هناك جعلها خائرةَ القُوى.. وللمفارقة، كانت دعوةً غريبة لتعيش الحياة. في الواقع، إن اختيارها لمغادرة المنزل والتجول في مدينة أجنبية هو في حد ذاته استعارة غنية للطبيعة المتناقضة للوحدة. الطبيعة التي تحركها أجزاءٌ متساويةٌ من القلق والذهول، قادرة على تحويل المرء إلى متشردٍ طوعًا وكائنٍ منعزلٍ في آنٍ واحد، ومع ذلك فهي بطريقة أو بأخرى مختبر حيوي لاكتشاف الذات. ووجدت أن هُوَّة الوحدة يمكن أن “تدفع المرء نحو التفكير في بعض أكبر الأسئلة في ماذا يعني أن تكون على قيدِ الحياة”.
تكتبُ:
كانت هناك أشياءٌ تحترق أمامي، ليس فقط كإنسانةٍ مستقلة، ولكن أيضًا كمواطنةٍ في هذا العصرُ المتسارع . ماذا يعني أن نكون وحيدين؟ كيف نعيش إذا لم نكن مرتبطين بشكلٍ وثيقٍ مع إنسان آخر؟ كيف نتواصل مع الآخرين، خاصةً إذا كنا نواجهُ صعوبةً في الحديث؟ هل يمكن أن يكون الحُب علاجًا للوحدة؟ وإذا كان كذلك، فماذا يحدث إذا اعتبرنا أجسادنا أو حياتنا العاطفية منحرفة أو متضررة، إذا كنا مرضى أو غير محظوظين بصفةِ الجمال؟ وهل تساعدنا التكنولوجيا في مواجهة كل هذه الأشياء؟ هل تقرّبنا من بعضنا البعض أم تحبسُنا خلفَ الشاشات؟
تسعى لاينغ، التي تجرّعت هذا الألم العاطفي الحاد، إلى الحصول على العزاء في أعظم الحكماء المناهضين للوحدة في الثقافة الإبداعية في القرن العشرين. من هذه الطائفة المنتقاة للوحدة – بمن فيهم جان ميشيل باسكيات، وألفريد هيتشكوك، وبيتر هوجار، وبيلي هوليدي، ونان غولدن – تختار لاينغ أربعة فنانين كرفاقها الذين يرسمون التضاريس المجهولة للوحدة: إدوارد هوبر، و آندي وارهول، و هنري دارجر، وديفيد ووجناروفيتش، الذين جميعهم “خاضوا صراعًا مع الوحدة والقضايا المصاحبة لها في حياتهم وفي أعمالهم أيضًا”.
على سبيل المثال، إنها تعتبر وارهول فنانًا لطالما رفضتهُ حتى وقعت في شباك الوحدة. (“لقد رأيتُ لوحاته المطبوعة على الشاشة، الأبقار والرئيس ماوس ألف مرة، واعتقدتُ أنها كانت فارغة وخالية، متجاهلةً إيّاها كما نفعل في كثير من الأحيان مع الأشياء التي نظرنا إليها ولكننا فشلنا في رؤيتها بشكل صحيح”.)
تكتبُ:
فن وارهول يجوبُ الفضاءات بين الناس، يُجري تحقيقًا فلسفيًّا كبيرًا للبحث في أمور القُرب والبُعد، والأُلفة والنُفور. ومثلهُ مثل العديد من الأشخاص الوحيدين، كان يُحب اقتناء الأشياء، ليحيط نفسه بالممتلكات، لتكون بمثابةِ الحاجزِ الذي يحولُ بينه وبين متطلبات الألفة البشرية. وخوفًا من الاتصال الجسدي، كان نادرًا ما يُغادر منزله دون أن يحملَ مخزونًا من الكاميرات والمسجلات، ليستخدمها في التحكم في التفاعلات من حوله وينعزلُ عنها: هذا التصرفُ الذي ألقى الضوء على كيفية استخدام وانتشار التكنولوجيا في القرن الحالي الذي يسمى بعصرُ الاتصال.
كان نتاج التعمقُ في نسيجِ التجربة الشخصية لـ لاينج تساؤلات حول طبيعة وسياق وخلفية حياة هؤلاء الفنانين الأربعة وأعمالهم التي تتسمُ بطابع الوحدة. ولكن مثلما سيكون من غير المُنصف وصف تحفةِ لاينغ بأنها “مذكرات” فقط ، سيكون مجحفاً أيضاً تسمية هذه السلسلة “تاريخ الفن”، لأنها على العكس من ذلك، هي نوعٌ من “حاضر الفن” – تأملاتٌ أنيقةٌ وواسعةٌ في كيف يكون الفنُّ حاضرًا معنا، وكيف يدعونا لأن نكون حاضرين مع أنفسنا ويشهدُ على ذلك الحضور، مما يخفّف من وطأةِ وحدتنا في هذه الحالة.
تتفحّصُ لاينغ الشكل المُحدد و المُنتشر للوحدة بعينِ مدينةٍ تسودها الإنسانية:
تخيل أنك واقفٌ بجانب النافذة ليلاً، في الطابق السادس أو السابع عشر أو الثالث والأربعين من المبنى. تكشفُ المدينة لك عن نفسها كمجموعة من الزنازين، مائة ألف نافذة، بعضها مظلمة وبعضها يشّعُ بالضوء الأخضر أو الأبيض أو الذهبي. في الداخل، يسبحُ الغرباء ذهابًا وإيابًا، ويهتمون بأعمال ساعاتهم الخاصة. يمكنك رؤيتهم، لكن لا يمكنك الوصول إليهم، وبالتالي فإن هذه الظاهرة الحديثة الشائعة، والحاضرة في أي مدينة في العالم في أي ليلة، تنقلُ حتى إلى أكثرِ الأشخاص ألفةً رعشةً من الوحدة، وهي مزيجٌ غير مريحٍ من الانفصال والتعرّض.
يمكن أن تشعر بالوحدة في أي مكان، ولكن هناك نكهةٌ خاصةٌ للوحدة التي تأتي من العيش في مدينة محاطة بملايين الأشخاص. قد يعتقد المرء أن هذه الحالة كانت مناقضةً للحياة الحضرية، أي للوجود الجماعي للبشر الآخرين، ومع ذلك فإن مجرد القُرب المادي لا يكفي لتبديد الشعور بالعزلة الداخلية. من الممكن – بل وحتى – من السهل أن يشعر المرء بالعزلة وعدم التكرار في نفسه أثناء العيش مع الآخرين. يمكن أن تكون المدن أماكن منعزلة، وبالاعتراف بذلك، نرى أن الوحدة لا تتطلب بالضرورة العزلة الجسدية، بل تتطلب غياب أو ندرة الاتصال، أو القرب، أو القرابة: عدم القدرة، لسبب أو لآخر، على إيجاد نفس القدر المطلوب من الألفة. أن تكون تعيسًا نتيجةً لعدم رفقة الآخرين كما يصفُ القاموس الكلمة. في هذه الحالة، لا عجب أن يصل الإنسان إلى مرحلة من التمجيد في ظل وجود حشدٍ من الناس.
مع استمرار العلماء في الكشف عن الآثار الفسيولوجية للوحدة، ليس مثيرًا للدهشة أن تؤدي هذه الحالة النفسية بأبعاد جسدية تقريبًا، والتي تصورها لاينغ بوضوح:
ما معنى أن تشعر بالوحدة؟ إنها مثل الشعور بالجوع: أن تكون جائعًا بينما يستعد كل من حولك لتناول وليمة. إنه شعورٌ مخجلٌ ومثيرٌ للقلق، وبمرور الوقت تظهر هذه المشاعر للخارج، مما يجعل الشخص الذي يشعر بالوحدة أكثر عزلةً وأكثر غربة. إنه شعور مؤلم، كما تؤلمنا المشاعر، وله أيضًا عواقب جسدية لا يمكننا رؤيتها داخل الجسد المغلق. يتصاعد هذا ليصبح باردًا كالثلج وجلياً كالزجاج، يحيطُ بك ويجتاحُك.
هناك بالطبع بَون شاسع بين العزلة والوحدة – اتجاهان داخليان مختلفان جذريًا تجاه ذات الظرف الخارجي المتمثل في الافتقار إلى الرفقة. إننا نتحدث عن “العزلة الخصبة” باعتبارها إنجازًا تنمويًا ضروريًا لقدرتنا الإبداعية، أما الوحدة فهي عقيمة ومدمرة؛ تقتلُ الرغبة في الإبداع. أكثر من ذلك، يبدو أنها تشيرُ إلى فشلٍ وجودي – وصمةِ عارٍ اجتماعية ذات فروق بسيطة تتناولها لاينغ بشكل جميل:
من الصعبِ الاعترافُ بالوحدة، ومن الصعبِ تصنيفها، مثلها مثل الاكتئاب، الحالة التي تتقاطعُ معها الوحدة غالبًا، حيثُ من الممكن أن تتغلغلَ إلى داخل أعماقِ الانسان، بقدرِ ما تكون جزءًا من كيانه مثل الضحك بسهولة أو امتلاك شعر أحمر. ثم مرة أخرى، يمكن أن تكون عابرة، تتداخل وتخرج كرد فعل للظروف الخارجية، مثل الوحدة التي تلي الفجيعة أو التفكك أو التغيير في الدوائر الاجتماعية.
من الممكن أن تخضع الوحدة أيضًا للتشخيص المرَضِيِّ لتعتبر مرضًا، مثل الاكتئاب، مثل الكآبة أو القلق. لقد قيل بشكلٍ قاطعٍ أن الوحدة لا تخدم أي غرض … ربما أكونُ مخطئةً، لكنني لا أعتقدُ أن أي تجربةٍ تُعد جزءًا كبيرًا من حياتنا المشتركة خاليةً تمامًا من المعنى، أو بدون أن تُضيف أي ثراءٍ وقيمةٍ من نوعٍ ما.
من خلال الاطلاع على كتابات فيرجينيا وولف التي لا تُنسى في يومياتها حول الوحدة والإبداع، تتوقعُ لاينغ ما يلي:
قد تأخذك الوحدة نحو تجربة واقع لا يمكن الوصول إليه بطريقةٍ أخرى.
سائرةً على غير هدى ووحيدةً في المدينة التي تعِد سكانها “بـ هدية الخصوصية مع إثارة المشاركة“، تنتقل لاينغ إلى زويتروب، عبر المنازل المؤقتة – منازل فرعية وشقق الأصدقاء وأحياء مختلفة مستعارة، مما يضخّم الإحساس بالآخرين والاغتراب فحسب، لأنها مجبرةً على إنشاء “حياةٍ بين أشياءِ شخصٍ آخر، في منزلٍ أنشأه شخصٌ آخر ومنذ فترة طويلة”.
ولكن تكمنُ هنا استعارة لا مناصَ منها عن الحياة نفسها – فنحن، بعد كل شيء، نُضفي طابع وجودنا من مدينةٍ ومجتمعٍ وعالمٍ كان موجودًا هناك لفترة أطول بكثير مما كنا عليه، وقد رُتِبت الأشياء بالفعل بطريقةٍ قد لا تكون على ذائقتنا، وقد لا تكون هذه هي الطريقة التي سيتم بها تصميم المبنى الخارجي والداخلي إذا قمنا بذلك من الصفر بأنفسنا. ومع ذلك، فقد تُركنا لنكيّف أنفسنا مع منزلٍ بالطريقة التي هو عليها، بطريقةٍ غير كاملةٍ وأحيانًا قبيحة تمامًا. إن مقياس الحياة يرتبط بقدرتنا على التكيف – والاستقرار في هذا المنزل المستعار غير الكامل، ومقدار الجمال الذي يمكننا صنعهُ مع القليل من التحكم في تصميمه الذي قد نملكه.
ربما هذا هو السبب الوحيد الذي جعل لاينغ تجدُ فترة راحة من الوحدة، وإن كانت مؤقتة، في نشاطٍ مدفوعٍ بفعل الرغبة في مغادرة هذا المنزل المستعار: المشي. في مقطعٍ يُذكّرنا بالغناء الرائع لروبرت، والسر في تغذية الروح أثناء المشي، كتبت:
في ظروفٍ معينة، يمكن أن يكون التواجد في الخارج، وليس الملاءمة، مصدرًا للرضا بل وحتى للمتعة. هناك أنواع من العزلة توفر لنا فترة راحة من الوحدة، راحة بقالبِ عُطلةٍ إن لم يكن علاجًا. أحيانًا بينما أسيرُ، أتجول تحت دعامات جسر ويليامزبرغ أو أتبعُ النهر الشرقي على طول الطريق إلى الهيكل الفضي للأمم المتحدة، كنتُ أنسى نفسي البائسة، أصبحتُ أتجول بمتعةٍ وأسبحُ على غير هدى مع تيارات المدينة، بدلًا من كوني مَساميّة كالضباب وبلا حدود.
ولكن مهما كان شكل المركز الداخلي الأكثر صلابة الذي قدمهُ هذا الهروب المتجول إلى العزلة، فقد كانت صلابةً هشّة:
لم أشعر بهذا الشعور عندما كنت في شقتي، وإنما عندما كنت في الخارج فقط، سواء كنت بمفردي تمامًا أو مختلطةً في حشدٍ من الناس. في هذه المواقف شعرتُ بالتحررِ من ثقل الوحدة المستمر، والإحساس بالخطأ، والانفعالات حول وصمة العار والحكم والظهور. لكن الأمر لم يتطلب الكثير لتحطيم وهم نسيان الذات، ليس لإعادتي إلى نفسي فحسب وإنما إلى الإحساس المألوف المؤلم بالنقص.
في الفجوة بين نسيان الذات واكتشاف الذات، وجدت لاينغ نفسها منجذبة إلى الفنانين الذين أصبحوا رفقاء دربٍ لها في رحلةٍ نحو الوحدة وبعيدًا عنها. هناك إدوارد هوبر في لوحته Nighthawks الأيقونية المتوهجة بلون اليشم الغريب، والتي كتبت عنها لاينغ:
لا يوجد لون في الوجود له القدرة على التواصل بقوة مع الاغتراب الحضري، وتفتيت البشر داخل الصروح التي ينشؤونها، مثل هذا اللون الأخضر الباهت البغيض، الذي ظهر فقط مع ظهور الكهرباء، والذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمدينة الليلية، ومدينة الأبراج الزجاجية، والمكاتب الفارغة المضيئة و لافتات النيون.
[…]
كان المطعم مكانًا أشبه بالملجأ، بالتأكيد، لكن لم يكن هناك مدخل مرئي لهذا المطعم، ولا توجد طريقة للدخول أو الخروج منه. كان هناك باب داخل الجزء الخلفي من المطعم، ربما يقود إلى مطبخ غير ظاهر. لكن من جهة الشارع، كان المطعم مغلقًا تمامًا: إنه أشبه بحوضٍ مائيٍّ عصريّ، زنزانة زجاجية.
[…]
أخضر على أخضر، زجاج على زجاج، مزاجٌ يتسعُ ويولّدُ القلق كلما طالت فترة بقائي.
كان لدى هوبر نفسه علاقة متضاربة مع التفسير الشائع بأن الوحدة كانت موضوعًا محوريًّا في عمله. على الرغم من نفيهِ في كثير من الأحيان أنه كان اختيارًا إبداعيًا متعمدًا، إلا أنه اعترف ذات مرة في مقابلةٍ ما: “ربما أكون وحيدًا”. لاينغ، التي تجعل اهتمامها وحساسيتها حتى مع أدق نسيج للتجربة، هي من تجعل الكتاب رائعًا للغاية، تأخذ في الاعتبار كيف أن اختيار هوبر للغة يجسد جوهرُ الشعور بالوحدة:
إنها صيغة استثنائية. أن تكون وحيدًا لا يشبهُ الاعتراف بالوحدة. في حين أن هذا المقال المتواضع وغير المحدد يشير إلى حقيقة أن الوحدة بطبيعتها تُقاوَم. على الرغم من أنها تُشعِر بالعزلة الكاملة، وأنها عبءٌ خاص لا يمكن لأي شخص آخر أن يختبره أو يشاركه، إلا أنها في الواقع دولة مجتمعية يسكنها كثير من الناس. في الواقع، تشير الدراسات الحالية إلى أن أكثر من ربع البالغين الأمريكيين يعانون من الوحدة، بغض النظر عن العرق والتعليم والعقيدة، بينما أفاد 45% من البالغين البريطانيين بأنهم يشعرون بالوحدة إما غالبًا أو أحيانًا. يُعد الزواج والدخل المرتفع بمثابة رادع معقول، ولكن الحقيقة هي أن القليل منا مُحصّنٌ تمامًا من الشعور بشوق أكبر للتواصل أكثر مما نجد أنفسنا قادرين على إرضاء هذا الشعور. الوحيدون. مائة مليون قوي. لا عجب في أن تظل لوحات هوبر شائعة جدًا، ويتم إعادة إنتاجها بلا حد.
عند قراءة اعترافه السابق الذِكر، يبدأُ المرءُ في معرفة السبب الذي جعل عملهُ ليس مقنعًا فحسب، بل أيضًا عزاءً للآخرين، خاصةً عند النظر إليه بشكل جماعي. صحيحٌ أنه رسم، ليس مرةً واحدةً بل مراتٍ عديدة، وحدةُ مدينةٍ كبيرةٍ ، حيثُ يتم هزيمة إمكانيات الاتصال بشكلٍ متكررٍ من قِبل أدوات تجريد الصفات الإنسانية للحياة الحضرية. لكنهُ ألم يرسم أيضًا الوحدة كمدينة كبيرة، كاشفًا عنها كمكانٍ ديمقراطيٍّ مشترك، تسكنهُ العديد من النفوس، سواء طوعًا أو كُرْهًا؟
[…]
ما يلتقطهُ هوبر جميلٌ ومخيف. صُورَهُ ليست عاطفية، ولكن هناك اهتمامٌ غير عادي بها … كما لو كانت الوحدة شيئًا يستحقُ النظر إليه. أكثر من ذلك، كما لو أن النظر إلى الصور نفسها كان ترياقًا، طريقةً للتغلب على سحر الوحدة الغريبة والمقصيّة.
بالنسبة للفنانين المرافقين للاينج في رحلتها – بمن فيهم هنري دارجر، بواب شيكاغو المتألق، المُصاب بمرض عقلي، الذي جعلتهُ لوحاته المكتشفة بعد وفاته أحد أشهر الفنانين الخارجيين في القرن العشرين، والمبدع الموسيقي ديفيد وويناروفيتش، الذي كان ما يزال في الثلاثينيات من عمره عندما قضى الإيدز على حياته – غالبًا ما كانت الوحدة مصحوبة بآلام عميقة أخرى للنفسية: الخسارة. في مقطع يستحضر تصنيف بول جودمان لأنواع الصمت التسعة، تقدّم لاينج تصنيفًا للوحدة من خلال عدسة الخسارة:
الخسارة هي ابنةُ عمِّ الوحدة. إنها تتقاطعُ وتتداخلُ معها، لذا ليس من المُثير للدهشة أن يؤدي عملُ الحِداد إلى الشعور بالوحدة والانفصال. الموت أو الفناء وحيدًا. والوجود الجسدي وحيدٌ بطبيعته، عالقٌ في جسمٍ يتحركُ بلا هوادة نحو الاضمحلال والانقباض والهدر والكسر. ثم هناكَ الوحدةُ الناتجة عن الحرمان، ووحدة الحُب الضائع أو المُؤذي، وافتقادُ شخصٍ أو عدة أشخاص محددين، ووحدةُ الحِداد.
لكن وحدة الفناء تجدُ ترياقها في العزاء الدائم للأعمال الفنية الخالدة. كتب الفيلسوف آلان دي بوتون ومؤرخ الفن جون أرمسترونغ في بحثهما حول الوظائف النفسية السبع للفن ، “إن الفن يحملُ وعدًا بالكمال الداخلي” ، وإذا ما كانت الوحدة، على حد تعبير لاينغ، “توقٌ للاندماج، والشعور بالكمال”، ما أفضل إجابة لهذا التوقِ من الفن؟ بعد كل شيء، في الكلمات الخالدة لجيمس بالدوين “يمكن للفنان فقط أن يُخبرنا، وقد أخبرنا الفنانون فقط منذ أن سمعنا عن الإنسان، ما هو شعورُ أي شخصٍ يصلُ إلى هذا الكوكب لينجو منه.”
بالعودةِ إلى تجربتها، تكتب لاينغ:
هناك الكثير من الأشياء التي لا يستطيعُ الفن القيام بها. فهو لا يمكنهُ إعادة الموتى إلى الحياة، ولا يمكنهُ إصلاحُ الخلافات بين الأصدقاء، أو علاج الإيدز، أو وقف وتيرة تغير المناخ. ومع ذلك، لديه بعض الوظائف الاستثنائية، وبعض القدرات التفاوضية الغريبة بين الناس، بمن فيهم الأشخاص الذين لم يلتقوا أبدًا والذين يتسللون ويُثرُون حياة بعضهم الآخر. لديهِ القدرة على خلقِ المَوَدة. كما لديه طريقة لعلاج الجروح، والأفضل من ذلك، قدرته على التوضيح أنهُ ليست كل الجروح بحاجة إلى إلتئام وليست كل الندوب قبيحة.
إذا بدوتُ مصرةً فذلك لأنني أتحدثُ عن تجربةٍ شخصية. عندما أتيتُ إلى نيويورك كنتُ مبعثرة، وعلى الرغم من أن الأمر يبدو منحرفًا، فإن الطريقة التي استعدتُ بها الإحساسِ بالكمالِ لم تكن من خلال مقابلة شخصٍ ما أو الوقوعِ في الحُب، بل بالأحرى عن طريق التعاملِ مع الأشياء التي صنعها الآخرون، والاستيعاب ببطءٍ من خلال هذا الاتصال، حقيقة أن الوحدة والتَوق لا تعني أن المرء قد فشل، بل تعني ببساطة أنه على قيد الحياة.
ولكن مهما بدت الوحدة طابعًا شخصيًا للغاية، فإنها لا تنفصلُ عن الأبعادِ السياسيةِ للحياةِ العامة. وفي فقرةٍ ختاميةٍ تُذكّرنا بدعوة أودري لورد الرنانة لكسر صمتنا ضد الظلم البنيوي، تضيف لاينغ:
يوجد تجديدٌ يحدث للمدن، ويوجد تجديدُ يحدث للعواطف أيضًا، مع نفس تأثير التجانس، والتبييض والتخفيت. في خضم لمعان الرأسمالية المتأخرة، تُغذَى الفكرة القائلة بأن جميع المشاعر الصعبة – الاكتئاب والقلق والوحدة والغضب – هي ببساطة نتيجة لكيمياء غير مستقرة، ومشكلة يجب إصلاحها، وليست استجابة للظلم البنيوي أو، من ناحية أخرى، استجابةً إلى البنية الفطرية للتضمين، وقضاء الوقت، كما جسّدها ديفيد وويناروفيتش بشكل لا يُنسى، في جسدٍ مؤجَّر، مع كل ما يصاحبها من حزنٍ وإحباط.
لا أؤمنُ أن علاج الوحدة لا ينتهي في الغالب بمقابلةُ شخص ما.. أعتقد أن الأمر يتعلق بأمرين: تعلم كيفية تكوين صداقات مع نفسك، وفهم أن العديد من الأشياء التي يبدو أنها تصيبنا كأفراد هي في الواقع نتيجة لقوى أكبر من وصمة العار والإقصاء، والتي يمكن ويجب مقاومتها.
الوحدة شخصية، وهي أيضًا سياسية. الوحدة جماعية. إنها مدينة. أما فيما يتعلقُ بكيفية العيش فيها، فلا توجد قواعد ولا حاجة للشعور بالعار ، فقط نتذكر أن السعي وراء السعادة الفردية لا يفوق أو يبرر التزاماتنا تجاه بعضنا البعض. نحن في هذا معًا، هذا التراكم من الندوب، هذا العالم من الأشياء، هذه الجنة المادية والمؤقتة التي غالبًا ما تتخذُ وجه الجحيم. ما يهمُ هو اللطف. ما يهمُ هو التضامن. ما يهم هو البقاء في حالة تأهب، البقاء منفتحين، لأننا إذا عرفنا أي شيء مما سبقنا، فهو أن وقت ذلك الشعورِ لن يدوم.
المدينة الوحيدة The Lonely City هو كتاب متعدد الطبقات ومجزٍ إلى ما لا نهاية، من بين أفضل الكتب التي قرأتها على الإطلاق. إلى جانب ريبيكا سولنت Rebecca Solnit حول كيف نجد أنفسنا من خلال الضياع how we find ourselves by getting lost، ديفيد وايت عن تجلي الوحدة the transfiguration of aloneness، ألفريد كازين عن الوحدة وتجربة الهجرة loneliness and the immigrant experience وسارة ميتلاند عن كيف نكون وحدنا دون أن نكون وحيدين في how to be alone without being lonely.
شكرًا إيميلي
بقلم: ماريا پوپوڤا | ترجمة: موزة الريامية | تدقيق: مريم الغافرية | المصدر