نوعان من القصص التي نرويها عن أنفسنا

بقلم: إميلي سميث

يُنشئُ الإنسانُ سيرَ تاريخِه الشخصيِّ بأكملِه، التاريخُ الذي يحتملُ الرفعةَ بهِ أو إيقاعِه وجرِّهِ للأسفلِ، يمكننا تشكيلُ هذا التاريخ  كيفما نشاءُ، من أجلِ أن ننعمَ بحياةٍ ذات هدفٍ ومعنى.

جميعُنا رواةُ قصص – جميعُنا مرتبطون بقصةٍ ما، على حدِّ تعبيرِ عالمةِ الأنثروبولوجيا ماري كاثرين بيتسون، في كتابِ act of creation لتكوينِ حياتِنا. على عكسِ معظمِ القصصِ التي سمعناها، فإن حياتَنا لا تتبعُ نفسَ المسارِ وذلك لأن هوياتنا وخبراتنا قابلة للتغيرِ وبشكلٍ مستمرٍ. وبالإضافةِ إلى ذلك فإن سردَنا للقصصِ يعتمدُ على طريقةِ تفسيرِنا لها. فنحنُ نقومُ بالسردِ من خلالِ أخذِ الأجزاءِ المختلفةِ من حياتِنا وربطِها ببعضِها لنشكِّلَ قصةً متكاملةً تُمكِّنُنا من فهمِ حياتِنا بشكلٍ متكاملٍ. ويعتبرُ علماءُ النفسِ أنَّ هذا مصدر رئيسيٌ للمعنى.

يُعدُّ عالمُ النفسِ  دان ماك آدمز من جامعةِ نورث وسترن خبيرًا في مجالِ الهويةِ السرديةِ.

ويصفُ ماك آدمز الهويةَ السرديةَ بأنها قصةٌ نرويها عن أنفسِنا تكونُ نابعةً من الداخلِ – أسطورتنا الشخصية-  فهي أشبهُ بالأساطيرِ، هويتُنا السرديةُ تحتوي على أبطال وأشرار قد يساعدونَنا أو يعيقوننا، وتتضمنُ كذلك على أحداثٍ رئيسيةٍ تحددُ حبكةَ الروايةِ والتحدياتِ التي نتغلبُ عليها. عندما نريدُ أن يفهمَنا الناسُ نقومُ بمشاركةِ قصتنا معهم أو حتى جزءٍ منها. وعندما نريدُ  نحن أن نفهمَ الآخرين نطلبُ منهم مشاركةَ قصصهم معنا.

لا تُعدُّ قصةُ الحياةِ الفرديةِ تاريخًا مفصلاً لجميعِ الأحداثِ. فعوضًا عن ذلك، نحنُ نعرضُ ما يدعوهُ ماك آدمز بِخياراتِ السردِ. تتركزُ قصصُنا حولَ الأحداثِ الاستثنائيةِ في حياتِنا سواءً كانت أحداثًا جيدةً أو سيئة، وذلك لأنها تتمثلُ في الخبراتِ التي تُؤثرُ فينا والتي نستندُ عليها لتشكيلِ هويتِنا. ولكن قد تختلفُ تفسيراتُنا للأحداثِ. فعلى سبيلِ المثالِ قد تكونُ تجربةُ تعلمِ السباحةِ في الطفولةِ بِدفعٍ في حوضِ السباحةِ من قِبَلِ أحدِ الوالدينِ تُفسرُ لنا شعورَ المخاطرةِ اليومَ لرجلِ أعمالٍ. ولشخصٍ أخرَ، قد تكونُ التجربةُ ذاتُها هي سببُ كرهِه للقواربِ وعدمِ ثقتِه بشخصياتِ السلطةِ. بينما قد يتجاهلُ الشخصُ الثالثُ هذه التجربةَ باعتبارِها غيرَ مهمةٍ.

يحكي الأشخاصُ الذين يؤمنونَ أن لحياتِهم هدفا قصصَ النموِّ والمشاركةِ والقوةِ.

درسَ ماك آدمز هويةَ السردِ لأكثرَ من 30 سنة، وفي المقابلاتِ التي أجراها يقومُ بطرحِ الأسئلةِ على عيناتِ البحثِ لتقسيمِ حياتِهم إلى فصولٍ ومحاكاةِ أحاسيسهم مثلَ لحظةِ وصولِهم للقمةِ وهبوطِهم منها والأحداث التي غيرت مجرى حياتِهم أو بعضاً من ذكرياتِهم. كما يشجعُهم للتفكيرِ في معتقداتِهم ومبادئِهم الشخصية. وأخيراً، يطلبُ منهم التفكيرَ بعنوانٍ رئيسيٍ يدورُ حولَ قصتِهم. فالأشخاصُ الذينَ يتوجهونَ إلى المساهمةِ في بناءِ المجتمعِ ومستقبلِ الأجيالِ القادمةِ غالباً ما يرْووُنَ قصصًا عن التضحيةِ والفداءِ أو القصص التي تتقلبُ بين السيءِ والجيدِ. يحكي رجلٌ نشأَ في بيئةٍ فقيرةٍ لماك آدمز أن ظروفَهُ القاسيةَ كانت السببَ في تقربِه من أهلِه وتقويةِ العلاقاتِ ما بينهم. كما روتْ امرأةٌ كيف أن التجربةَ المروعةَ لرعايةِ صديقٍ مقربٍ وقتَ احتضارِه كانت سبباً في تجديدِ التزامِها لتكونَ ممرضةً، وهي الوظيفةُ التي تخلت عنها مسبقاً. هؤلاء الأشخاص يؤمنونَ أن حياتَهم لها معنىً وقيمةً أكثر من أولئك الذين يحكونَ القصصَ التي تفتقرُ من التضحياتِ.  

وعكس قصصِ التضحيةِ هيَ ما يُطلِقُ عليه ماك آدمز بالقصصِ المتغيرةِ والتي يعيشُ الناسُ فيها تقلباتٍ بين أحداثٍ جيدةٍ وسيئةٍ. ذكرتْ إحدى النساءِ قصةَ إنجابِها لطفلِها والذي كان أمرًا مُفرِحًا ولكنَّها أنهتْ القصةَ بوفاةِ والدِ الطفلِ الذي قُتلَ بعدَ ثلاثِ سنواتٍ. فالسعادةُ التي كانت تغمرُها حينَ أنجبت طفلَها تحولتْ إلى مأساةٍ. ولقد توصلَ ماك آدمز إلى أن الأشخاصَ الذين يرْوونَ القصصَ المتغيرةَ هم أقلَ إنتاجيةً أو أقلَ مساهمةً في المجتمعِ. كما أنهم أكثرَ عرضةً للإحباطِ والقلقِ أو الشعورِ بأنَّ حياتَهم غيرَ مستقرةٍ مقارنةً بأولئك الذينَ يروونَ قصصَ التضحيةِ.

قصصُ التضحيةِ والقصصِ المتغيرةِ هي نوعان من الحكايات التي نسردُها. وجدَ ماك آدمز  أن خلفَ قصصِ التضحيةِ أشخاصًا يؤمنونَ بأنَّ حياتَهم لها معنى ودائمًا ما يميلونَ إلى سردِ قصصٍ تُعرَفُ بالنموِّ، المشاركةِ والقوة. وهذا النوعُ من القصصِ يمكِّنُ الأفرادَ من التحلي بشخصيةٍ إيجابيةٍ، فهم قادرونَ على التحكمِ بحياتِهم ولهم شخصيةٌ محبوبةٌ، كما أنَّهم يحرزونَ تطورًا ملحوظًا في حياتِهم ومهما تعرضُّوا للتحدياتِ فهم قادرونَ على تجاوزِها بنتائجَ جيدة.

مجردُ إجراءِ تعديلٍ بسيطٍ في القصةِ لهُ تأثيرٌ واضحٌ على حياتِنا

تتمثلُ إحدى المساهماتِ البارزةِ لبحوثِ علمِ النفسِ والعلاجِ النفسيِّ في فكرةِ أنه من الممكنِ تعديلُ ومراجعةُ القصصِ التي نرويها عن حياتِنا حتى وإن كانتْ مقيدةً بالحقائقِ. يقومُ الطبيبُ النفسيُّ بالعملِ مع المرضى لمساعدتِهم في إعادةِ كتابةِ قصصِهم بطريقةٍ إيجابيةٍ. فمن خلالِ تعديلِ وتحليلِ القصصِ مع الطبيبِ النفسيِّ، يدركُ المريضُ أنه المسيطرُ الوحيدُ على حياتِه، وأنه يستمدُّ المعنى لحياتِه من التحدياتِ التي يواجِهُها. ومن خلالِ مراجعةِ البحوثِ العلميةِ تمَّ التوصلُ إلى مدى فعاليةِ هذا النوعِ من العلاجِ كمُضادٍ للاكتئابِ والعلاجِ المعرفيِّ السلوكيِّ . 

وقد توصلَّ آدم جرانت وجون دينتون في دراستِهما التي تمَّ نشرُها عامَ 2012 أن مجردَ إجراءِ تعديلٍ بسيطٍ في القصةِ قد يكونُ له تأثير واضحٌ على حياتِنا. طلبَ الباحثان من  جامعي التبرعاتِ في مركزِ الاتصالِ في الجامعةِ كتابةَ مذكراتِهم لمدةِ أربعةِ أيامٍ متواصلةٍ. في إحدى الحالاتِ، كمُستفيدين، طلبَ الباحثان من جامعي التبرعاتِ بأن يقوموا بتدوينِ آخرِ موقفٍ قامَ فيهِ أحدُ زملائِهم بمساعدتِهم في أمرٍ ما والذي أشعرَهم بالامتنانِ. وفي الحالةِ الثانيةِ، كمُتبرِّعينَ، كتبَ المشاركون عن موقفٍ ساهموا فيهِ بمساعدةِ  الغيرِ.

 

أرادَ الباحثان معرفةَ أيَّ نوعٍ من القصصِ يجعلُ الناسَ أكثرَ سخاءً. ومن أجلِ ذلك قاما بمراقبةِ سجلاتِ المكالماتِ المختصةِ بجمعِ التبرعاتِ، وعللَّ الباحثان ذلك بالقول بما أن جامعي التبرعاتِ يتلقونَ أجرًا ثابتًا بالساعةِ لقاءَ اتصالِهم بالخريجين وطلبِ التبرعات، فإنَّ عددَ المكالماتِ التي أجرَوْها خلالَ مناوبتِهم تُعدُّ مؤشرًا جيدًا على إيجابيةِ سلوكِهم الاجتماعيِّ  وتحسنِ الأخلاقِ.

بعدَ التحليلاتِ التي قامَ بها كلًّا من جرنت ودينتون، توصلا إلى أنَّ جامعي التبرعاتِ الذين شاركوا قصصَهم وهم يساعدونَ الآخرينَ، قد أجرَوْا مكالماتٍ أكثرَ بنسبةِ 30% مقارنةً بالمكالماتِ قبلَ التجربةِ، أما بالنسبةِ للأشخاصِ الذينَ يروونَ قصصَهم على كونِهم المستفيدينَ من مساعداتِ الآخرينَ  فلم يطرأُ أيُّ تغيرٍ على سلوكِهم.

تشيرُ دراسةُ جرانت ودينتون أن للقصصِ قدرةً على خلقِ معنًى لا يقتصرُ فقط على صياغةِ الحكايةِ. فالقصصُ التي رواها  المتبرعونَ عن تجربتِهم دفعتهم لتحسينِ سلوكياتِهم من خلالِ قضاءِ وقتِهم في خدمةِ قضايا أكبر، على الرَّغمِ من معرفةِ المتبرعينَ أنَّهم يروون قصصَهم كجزءٍ من الدراسةِ، لكنَّهم عاشوا تلكَ القصصَ بالفعلِ. من خلالِ إعادةِ صياغتِهم لسردِ قصصِهم، اكتسبوا هويةً إيجابيةً تقودُهم للعيشِ بحياةٍ ذاتِ معنىً وهدف.


بقلم: إميلي سميث | ترجمة: مريم النيادي | تدقيق الترجمة: مريم الريامي | تدقيق لغوي: لجين السليمي المصدر

Exit mobile version