إذا كنت تريد أن تعيش حياةً طويلة ومُرضية، فإنَّ عالِم الأعصاب دانيال ليڤيتين لديه بعض النصائح لك: ابقَ مشغولًا.
ما العمر المثالي للتقاعد؟
لا وجود له.
حتى وإن كنت معاقًا جسديًا، فمن الأفضل أن تواصل العمل، إما في وظيفة أو بصفتك متطوعًا. يبلغ لامونت دوزير -الكاتب المشارك لأغانٍ شهيرة، مثل “Heat Wave” و “Stop! In the Name of Love” و “Reach Out, I’ll Be There” (وأربع عشرة أغنية تصدرت قوائمَ بيلبورد (Billboard) ) – من العمر 78 عامًا وما زال يمارس الكتابة.
يقول: ” أستيقظ كل صباح وأكتب لمدة ساعة أو ساعتين”
“لهذا وضعني الرب هنا”
يرتبط قضاء الكثير من الوقت دون هدف بالتعاسة.
ابق مشغولًا! لكن لا تَشغل نفسك بالعمل المرهق أو المساعي التافهة، بل بالأنشطة الهادفة. استحدث الاقتصاديون مصطلح العودة للخدمة لوصف جماعات الناس ممن يتقاعدون، ثم لا يعجبهم ذلك ويعودون إلى العمل. يعود ما بين 25 و40 بالمئة ممن يتقاعدون لسوق العمل.
تقول نيكول ميستاس -الخبيرة الاقتصادية بجامعة هارڤارد: – تسمع أفكارا بعينها، السعي لتحقيق هدف ما، واستعمال العقل، بالإضافة إلى المشاركة الاجتماعية”.
تَذكَّر كلمات سيغموند فرويد بأنًّ أهم أمرين في الحياة هما الحب والعمل الهادف. (كان مخطئًا بشأن العديد من الأمور، ولكن يبدو أنه مصيبٌ في هذا الاقتباس).
لقد قابلت عددًا من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين السبعين والمئة للتوصل إلى فهم أفضل لما يُسهِم في الحصول على حياة مرضية. استمر كل واحد منهم في العمل. ورفَع البعض -مثل الموسيقيين دونالد فاجن من فرقة ستيلي دان (71 عاما) وجودي كولينز (80 عاما)- عبء عملهم. وعدَّل آخرون -مثل جورج شولتز (99 عاما) والدالاي لاما (84 عاما)- جداول أعمالهم لتناسب التباطؤ الناتج عن التقدم في العمر، ولكن في الأيام التي يعملون بها بشكل جزئي، ينجزون أكثر ممَّا ينجزه معظم نظرائهم الشباب.
يتطلب البقاء مشغولًا بأنشطة هادفة بعض الاستراتيجيات وإعادة ترتيب للأولويات. ترفض الكاتبة باربرا إرينريك (78 عاما) الفحوصات الطبية العديدة التي يطلبها طبيبها؛ لأنَّها لا تريد إضاعة وقتها في عيادة الطبيب لأمرٍ قد يضيف ثلاثة أسابيع إلى حياتها فقط. لماذا؟
“لأنَّ لديّ أمورًا أخرى لأفعلها. يبدو لي أنَّ هذا بدأ معي جزئيًا بنوع من المفاضلة: هل أريد أن أجلس في غرفة انتظار بلا نوافذ في عيادة الطبيب أو أن ألتزم بالموعد النهائي أو أذهب للمشي؟ لطالما اخترت آخر خيار.
سيسمح العديد من أصحاب العمل للموظفين الأكبر سنًا بتعديل جداولهم للاستمرار في العمل . ففي الولايات المتحدة الأمريكية، يُطلب من أصحاب العمل تقديم تسهيلات معقولة، مثل أوقات بدء العمل وانتهائه، وغرف الاستراحة، وحتى توفير سرير نقَّال لأخذ قيلولة، والتمييز العمري غير قانوني.
إنَّ التمييز العمري غير قانوني في كندا والمكسيك وفنلندا كذلك. تختلف القوانين حول العالم . يسمح الاتحاد الأوروبي عمومًا بإنهاء الخدمة في سن التقاعد (في ألمانيا، على سبيل المثال، كان عمر التقاعد مؤخرا 65عامًا وقد مُدِّد حتى عمر 67 عامًا). وفي كوريا الجنوبية، يُعدُّ عمر الستين العمرَ الإلزامي للتقاعد.
وفي دول أخرى، مثل أستراليا، تتجدد القوانين وتفسيراتها. (فعلى سبيل المثال، قضت المحاكم في أستراليا لصالح خطوط كانتاس الجوية التي أنهت خدمة طيّار في سن الستين، على الرغم من أنَّ هذا ينتهك قانون عام 2004م للتمييز العمري، إلا أنَّ المحكمة العليا حكمت بذلك وفقا لشروط اتفاقية الطيران المدني الدولي والتي تمنع قادة الطائرات ممن بلغوا 60 عاما أو أكثر من الطيران في خطوط جوية معينة؛ وبالتالي كان إنهاء خدمة الطيارين فوق عمر الستين قانونيًا).
أعتقد أننا بحاجة إلى العمل معًا لتغيير نظرة مجتمعاتنا تجاه كبار السن، لا سيما نظرته لهم في سوق العمل. تميل الثقافة التنظيمية للشركات في الولايات المتحدة الأمريكية للتمييز العمري. فمن الصعب على كبار السن الحصول على وظائف أو ترقيات. أقرَّ ثلثا العمال الأمريكيين بأنَّهم شهدوا أو تعرضوا للتمييز العمري في العمل. يجب على أصحاب العمل إدراك أنَّ توفير فرص للعمال الأكبر سنًّا يُعد تجارة رابحة وليس مجرد عمل خيري. تميل الفرق متعددة الأجيال التي تضم أعضاء أكبر سنًّا إلى أن تكون أكثر إنتاجية؛ إذ يعزز كبار السن من إنتاجية من يحيطون بهم وتتفوق هذه الفرق على الفرق المكونة من أعضاء من الجيل نفسه. كان بنك دويتشه في مقدمة مَن اتَّبعوا هذا النهج، وقالوا بأن الأخطاء غدت أقل من السابق، كما كَثُرتْ الآراء الإيجابية من الشباب والمسنين على حد سواء.
أصدرت العديد من البلدان قوانين تحظر التمييز في توظيف الأشخاص ذوي الإعاقة، بما في ذلك مرضى الزهايمر (على سبيل المثال، في الولايات المتحدة الأمريكية، كان هناك قانون الأمريكيين ذوي الإعاقة لعام 1990م، وفي المملكة المتحدة قانون المساواة لعام 2010م).
تسرد مؤسسة BrightFocus غير الربحية تسهيلات قد تكون مفيدة للعمال المصابين بمرض الزهايمر:
- إدخال رسائل تذكيرية في يومهم – مكتوبة أو شفهية
- تقسيم المهام الكبيرة إلى العديد من المهام الأصغر
- توفير تدريب إضافي عندما تكون هناك تغيرات في مكان العمل
- الحفاظ على مساحة العمل خالية من الفوضى
- تقليل عدد ساعات العمل اليومية أو الأسبوعية
- تغيير وقت العمل
واعترافًا بهذا، أصبح مطار هيثرو في لندن أول مطارٍ “صديق للخرف “في العالم، مع تخصيص ألف موظفٍ لخدمة ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يعانون من خلل إدراكي .شكَّل باحثون بجامعة جون كارول -وهي جامعة كاثوليكية خاصة تقع في مرتفعات الجامعة بولاية أوهايو الأمريكية- جوقة موسيقية متعددة الأجيال، تجمع بين الشباب وكبار السن المصابين بالخرف. غيَّر ذلك من سلوكيات الطلاب المشاركين، والذين تحدثوا عن الألفة التي أحسوا بها في الجوقة وتنمية الصداقات بين الأجيال. وبالغناء سويًا، شعر البالغون المصابون بالخرف بالانتماء والترحيب والتقدير والاحترام.
شُخِصت بات ساميت -مدربة فريق كرة السلة تينيسي النسائي الراحلة الحائزة أيضًا على الميدالية الفضية في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 1976م- بمرض الزهايمر في أغسطس عام 2011م. واصلت العمل وأنهت الموسم الرياضي حتى عام 2012م. قالت: “لن يكون هناك أي شفقة ناحيتي، وسأحرص على ذلك”.
إذا كانت مواصلة العمل في وظيفتك غير ممكنة بعد سن معين، وإذا كان أصحاب العمل غير مستعدين لتوظيف عمال أكبر سنًا، فما زال هناك طرق لإبقاء نفسك منشغلًا بعمل هادف. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، هناك برنامج Head Start وهي منظمة سمحت لجدتي بالدخول والقراءة للأطفال الفقراء. وفي مؤسسة AARP هناك برنامج Experience Corps الذي يؤهل كبار السن ليكونوا معلمين خصوصيين للأطفال ذوي الدخل المادي المنخفض في المدارس الحكومية.
كان للبرنامج تأثير إيجابي على الأطفال بالطرق التي تتخيلها: تحسن في القراءة والكتابة وارتفاع درجات الاختبارات وتحسن المستوي خلال الفصل الدراسي والسلوك الاجتماعي، وقد شمل هذا التأثير الإيجابي المتطوعين أيضًا. في إحدى الدراسات، شعر المتطوعون بالإنجاز أكثر من مجموعة من المشاركين في المجموعة الضابطة وأظهروا زيادة في حجم الدماغ للحُصَين والقشرة مقارنةً بالمرؤوسين الذين عانوا من تقلص حجم الدماغ. وينطبق هذا خاصةً على المتطوعين الذكور الذين أظهروا إبطال ثلاث سنوات من الشيخوخة على مدى عامين من التطوع. وكما لاحظت أناييس نن “تتقلص الحياة أو تتوسع على قدر شجاعة المرء” وهذا ينطبق على حجم الدماغ كذلك.
من الممكن أن تتحقق تلك الشجاعة وذلك الاتساع في الحياة بطرق متنوعة لأشخاص مختلفين: حضور دروس إلكترونية، مثل دروس من موقع Coursera أو Khan Academy (لكن تأكد من أنَّك تستطيع التفاعل لمناقشة ما تعلمته؛ لأنَّ التعلم في عزلة لا يتعدى إبقاء دماغك نشيطًا فقط)، أو الانضمام إلى (أو استضافة) نادي كتاب أو مجموعة تناقش الأحداث الحالية، أو التطوع في مستشفى، أو سؤال دار العبادة في الحي عمَّا يحتاجه، أو العمل في مطعم للفقراء.
هناك تأثير تحولي في مساعدة الآخرين. في روايته العار، كتب الكاتب الجنوب أفريقي الحائز على جائزة نوبل ج. م. كوتزي: “يواصل التدريس لأنَّه… يُعلمه التواضع، ويُريه من هو في العالم. السخرية لا تفارقه: إنَّ المرء الذي يُدرِّس يتعلم أكثر الدروس حماسةً، في حين أنَّ الذين يأتون للتعلم لا يتعلمون شيئًا”.
لقد لاحظت هذا مباشرةً في حياتي، على الرغم من أنني أحب الاعتقاد بأنَّ طلابي تجنبوا تعلم لا شيء. وربما لست ساخرًا، مثل كوتزي (أو على الأقل شخصيته في الرواية). أعتقد بأنَّ المعلم المناسب والمؤمن الحقّ بطفل أو كبير في السن يستطيع قلب التوازن لحياة ذلك الشخص، ومساعدته في التغلب على عقبات الحياة، ووضعه على مسار نحو السعادة والنجاح اللذان سيقودانه إلى الشيخوخة الناجحة. وهذا ما فعله معلمِّي معي.
نبذة عن الكاتب
د. دانيال ليـڤيتين هو عالم أعصاب وعالم نفس إدراكي ومؤلف لأفضل الكتب مبيعًا. وهو العميد المؤسس لكلية الفنون والعلوم الإنسانية في جامعة منيرڤا بسان فرانسيسكو، كاليفورنيا، وأستاذ فخري لعلم الأعصاب وعلم النفس في جامعة مكغيل. وهو مؤلف كتب This is Your Brain on Music وThe World in Six Songs و The Organized Mind وA Field Guide to Lies.
بقلم: د. دانيال ليڤيتين | ترجمة: نورة الدريهم | تدقيق: لمياء العريمية | المصدر