” للمرح قدرة لا يماثلها شيء في منح المرء فرصة الانعزال عما يكدّره وأن يسمو فوقه، حتى ولو لثوان قليلة فقط”.
إن القدرة على المرح والفكاهة في مواجهة أعتى الأعداء، تعمل كدرع واقٍ للصحة العقلية وأحد أشكال مقاومة الوحشية. وهذا ما يؤكده الطبيب النفسي النمساوي العظيم والناجي من الهولوكوست فيكتور فرانكل (26 مارس 1905 – 2 سبتمبر 1997) في مذكراته النفسية غير العادية ’الإنسان يبحث عن معنى‘ والتي صدرت عام 1946 لتصبح في قائمة أحد أعمق الكتب وأكثرها تأثيراً على الإطلاق. يزخر الكتاب بالحكمة حول الصمود في أحلك الأوقات وما يعنيه العيش في الحاضر.
يكتب فرانكل حول التمرد الداخلي والذي حافظ السجناء بواسطته على كرامتهم وعقلهم وحبهم للحياة في معسكر الاعتقال – عبر ممارسة الفنون في الخفاء، وقراءة الكتب المهربة: “
كان المرح في الواقع سلاحا آخر من أسلحة الروح في نضالها من أجل البقاء أو المحافظة على الذات. ومن المعروف جيدا أن المرح يستطيع أن يساعد المرء على الانعزال بوجدانه عن أي موقف وأن يعلو فوقه، حتى ولو كان ذلك لثوان قليلة فقط”.
ويروي الكاتب كيف ساعد صديقه في إدراك أهمية المرح والفكاهة كحيلة للحفاظ على الذات- وكونها مهارة مكتسبة، بالفنون- من خلال إيجاد حوافز للإبداع:
لقد درّبتُ بطريقة عمليَّة صديقاً لي كان يعمل في موقع إنشاءات قريب من موقع عملي على أن ينمِّي في نفسه روح الدعابة، فاقترحت عليه أن يتعهد كل منا أمام الآخر بأن يبتدع كل واحد منا في كل يوم حكاية واحدة تبعث على الضحك مما يتعلق بواقعة ما يمكن أن يحدث في أحد الأيام بعد فك أسرنا. وقد كان هذا الصديق جراحاً يعمل ضمن هيئة الأطباء بمستشفى كبير. وقد حكيت له الدعابة التالية استناداً إلى ما كان يجري في موقع العمل، حيث كان الحارس يحثنا على العمل بشكل أسرع فيصرخ فينا: “اعمل! اعمل!” “في أحد الأيام سوف تعود إلى حجرة العمليات لتجري عملية جراحية كبيرة في البطن. وفجأة سيقتحم الحجرة أحد المشرفين معلناً وصول كبير الجراحين بصياحه “اعمل! اعمل!”
ينقل فرانكل تجربته الشخصية من الخاص إلى العالمي، إذ يؤمن أن تجربته في معسكر الاعتقال ستضفي عزاءً أوسع للنضال البشري:
إن محاولة تنمية روح الدعابة ورؤية الأشياء من منظور مرح يعتبر نوعاً من الحيل المُتعلمة للتمكن من فن الحياة. إلا أنه من الممكن التدرب على فن الحياة حتى ولو كان في معسكر اعتقال، رغم أن المعاناة موجودة في كل مكان.
إن العثور على الفكاهة في أحلك الظروف ليس فقط أداة للبقاء، بل هو عمل إبداعي أسمى وتأكيد على الحرية الشخصية التي لا يمكن تعويضها. يكتب فرانكل:
“كل شيء يمكن أن يؤخذ من الإنسان سوى شيء واحد: آخر حريات الإنسان – أن يختار المرء موقفه في أي مجموعة من الظروف ، ويختار طريقه الخاص.
…
تلك هي الحرية الروحية- وهي التي لا يمكن سلبها من الإنسان – وهي التي تجعل الحياة ذات معنى وذات هدف. إن الحياة المتسمة بالنشاط تفيد في منح الإنسان فرصة لتحقيق القيم في عمل إبداعي، بينما تقدم الحياة السلبية القائمة على الاستمتاع فرصة أمام الفرد لكي يكتشف الجمال والفن والطبيعة. ولكن هناك غرض من تلك الحياة الجرداء التي تنقصها في الغالب ألوان الإبداع والاستمتاع مما يسمح بقبول احتمال واحد فحسب من السلوك الأخلاقي الراقي: ألا وهو، اتجاه الإنسان نحو وجوده؛ ذلك الوجود المقيد بقوى خارجية.
جاء كتاب الإنسان يبحث عن معنى ليكمل نظرة فيكتور فرانكل حول التركيز على محاسن الغير كانتصار آخر للإبداع والقوة الروحية – بينما طور الفيلسوف الإنساني العظيم وعالم النفس إريك فروم فن الحياة ، ليأتي بعده الرسام البولندي جوزيف تشابسكي ليؤكد كيف أنقذته رسومات التلميذ والرسام بروس في معسكرات السوفيتيين. أما هيلين فاجن، الناجية من محرقة الهولوكوست فتوضح كيف أنقذ كتاب واحد حياة الشابات، وكذلك فعلت رسائل أوسكار وايلد ذات صبغة الفلسفة المتعالية التي كتبها في سنوات سجنه “من الأعماق” .
بقلم: ماريا بوبوفا | ترجمة: مريم الغافرية | تدقيق: سحر عثماني | المصدر