عندما لا تجد للإرادة سبيلا: الحدود الأخلاقية للعقود والاتفاقيات

أحد مرضى سرطان الجلد يبلغ من العمر 43 عامًا يطلب من طبيبه أن يستعين بأحدث التطورات الطارئة على تقنية كريسبر CRISPR ليقوم بعدد من التجارب العلاجية بغرض مساعدته في رحلته العلاجية، وكذلك لتقديم المساعدة للبحوث العلمية القائمة في هذا المجال. بهذه الطريقة يعرض مالاكار فوريزيك نفسه أن يكون فأرًا للتجارب؛ فيتواصل مع عدد كبير من الباحثين والأطباء ويسألهم عما إن كانت لديهم أدنى رغبة في مساعدته لتغيير رمزه الجيني. هذا النوع من العلاج يندرج خارج نطاق الحدود المسموح بها حول تعريض الكائنات البشرية لتقنيات تعديل الجينات، ولكن في هذه الحالة فإن المريض نفسه يمنح موافقته ويعبر عن رضاه، ولكن وعلى الرغم من ذلك إلا أن قوانين الطب والقانون بشكل عام لا يعتد بالموافقة أو الرضا في مثل هذه المسائل. وما يزال المجتمع العلمي الدولي مستاء من الباحثين في الصين الذين قاموا بتعديل جينات طفلين توأم السنة الماضية، قائلين أن هذا النوع من التدخل ما يزال سابقًا لأوانه وأن فهمنا لآلية كريسبر CRISPR وتأثيرها على العينات البشرية ليس بالمتقدم بما فيه الكفاية وبما يسمح بالقيام بهكذا أبحاث (للمزيد من المعلومات، بإمكانك الاطلاع على البحث بعنوان Lulu and Nana: The Surprise of Genetically-modified Humans” للكاتب A.G.Holdier. (لا توجد ترجمة عربية). بالعودة إلى ما يجعل حالة فوريزيك مثيرة للاهتمام، فإننا هنا نتحدث عن مرض عضال ذو نهاية حتمية واضحة ونتحدث عن مريض أبدى رغبته في القيام بالتجربة. لذا ما الفائدة من الالتزام بالقوانين والمعايير التي ترمي للحفاظ على سلامة المريض إن كان المريض حد ذاته لا يمانع المجازفة بها (أو بالأحرى بما تبقى من صحته بعد مرضه)؟ ولم هذا التخوف من طرف الأطباء والباحثين؟

هنا، من المهم أن نحيط علمًا بعدد من الأبعاد المرتبطة بموضوع الاتفاقيات والعقود التي تتضمن وكالتنا الشخصية، وكذلك بالطريقة التي ترتبط هذه الأبعاد ببعضها البعض. هذه المعايير تتناول الإحاطة بأهمية إدارة الفرد لحياته وحجم الضرر الذي يتأتى عن التلاعب بحياة الآخرين.

الوصاية الأبوية هي مصطلح يستخدم لوصف الجهود المبذولة للحفاظ على المصلحة الخاصة للأفراد الآخرين عندما تحدث أفعال تعارض هذه المصلحة أو رغبات أصحابها المعلنة صراحةً. وفي مثل هذه الحالة، إذا كان أحدهم على قناعة بأن الرغبة المعلنة لشخص ما لا تتماشى مع مصلحة ذاك الشخص فإن التدخل مبرر. وإذا أردنا أن نضرب مثالًا، فنستطيع النظر لأي أسرة تتكون من والدين وأبناء: حيث نجد أن الوصاية الأبوية للوالدين تغلب رغبة الطفل. فعلى سبيل المثال، لدينا طفل في الخامسة من عمره، يريد أن يتناول المثلجات على العشاء ولكن والديه يرفضان تلك الرغبة ويعوضانها بوجبة مغذية بناء على اعتقادهما أن تلك الوجبة أفضل لصحته. وغالبًا من يسري الاعتقاد أن قرارات الوالدين هي قرارات مبررة أخلاقيا فيما يرتبط برفضها وعدم سمعاها لرغبات الطفل المعلنة، خاصة في مثل تلك الظروف. ومع ذلك، وفي حالات معينة وضمن شروط محددة فإن الوصاية الأبوية قد تتعدى تلك الحدود الواضحة التي ترسمها العلاقات بين الآباء والأبناء وتدخل ضمن تلك المنطقة الرمادية من العلاقات البشرية. في حالة فوريزيك، من جهة، يوجد نوع من الوصاية في عدم إعطاء الأولوية للقرار الذي يحاول هذا المريض اتخاذه صراحةً.، فبشكل عام، إن المعايير التنظيمية تؤدي غرضا واضحا – كما سبق وقلنا- وهو دعم سلامة ومصالح الإنسان، ولكن في الجهة المقابلة، فوريزيك ليس طفلًا، فلماذا تحق عليه الوصاية؟

توجد حالة واحدة نستطيع اعتبار التدخل فيها مبررًا، وهي عندما يكون تعبير الموصى عليه برغبته في القيام بالشيء واضحًا. وهنا بإمكاننا تأويل المثال السابق عن العلاقة بين الآباء والأبناء بهذه الطريقة: الطفل – بشكل أساسي- لم يبلغ المرحلة العمرية التي تعد فيها قدراته العقلية وقدرات اتخاذ القرار ناضجة بما يكفي وبالتالي فإن تعبير الطفل عن رغباته وبالتالي من المرجح أن تتفوق مصلحته على رغباته إذا كان على أحدهم الاختيار بين الاثنين وهنا نتحدث عن شخص بالغٍ قادر على اتخاذ قراراته بنضج.  يبدو فوريزيك والمرضى الآخرون الذين ينتمون للفئة نفسها من الأمراض المميتة والمستعدين لتعريض أنفسهم للمخاطر كأنهم ينتمون لمجموعة فريدة تتحكم جودة حياتهم أو أمراضهم على صلاحية وصايتهم على قراراتهم المصيرية.

ومن الأهمية بمكان أن نتطرّق إلى عائق كبير من عوائق التوصل إلى اتفاق عادل بحق، وهو اختلال موازين القوى بصورة غير أخلاقية والناتج عن خلل في تدفق المعلومات بين طرفي الاتفاق. بمعنى: إذا كان أحد الطرفين يستعين بمصطلحات قانونية متخصصة بغرض تغيير وطأة القرار الذي يكون الطرف الآخر بصدد اتخاذه فإن هذا حتميًا يؤدي إلى اختلال ميزان العدل في الاتفاقية. والمخاوف المترتبة عن مثل هذا العائق ليست بالأمر الجديد خاصة في كل ما يرتبط بالعقود القانونية مثل وثائق موافقة ترخيص المستخدم النهائي التي تطرح للمستخدم قبل شروعه في استخدام تطبيق ما.

عائق آخر مشابه نتطرق إليه هو اختلال موازين الفهم الدقيق والمتخصص في المعاملات بين المرضى والأطباء (لمعرفة المزيد، بإمكانك الاطلاع على كتاب The Inherent Conflict in Informed Consent للكاتب Tucker Sechrest)، إجمالاً، التواصل الفعّال هو الوسيلة المثلى لضمان التحصل على ما يعرف بالموافقة المطّلعة، ويشمل التواصل الفعال هنا معلومات عن جميع التشخيصات، والعلاجات الممكنة ونتائجها المحتملة للمرضى حيث أنهم غالبًا لا يملكون من العلم ما يكفي من الدقة في هذه المسائل مقارنة بالطبيب. ولذا، إذا لم يتأكد الطبيب من أن مريضه قد أحاط علما بجميع حيثيات العلاج، فإنه قد ينخرط في اتفاقية لا تتماشى أساسًا مع أولوياته وتوجهاته ومبادئه، كما يوجد بعد أخلاقي كبير لهذا الخلل ويكمن في ما يعرف بـ “الإقراض الافتراسي” وهو “الإقناع المخادع الذي يحدث من طرف الجهة المُقرضة ويقع على الجهة المقترضة للموافقة على الإقراض وفق شروط غير عادلة بل ومجحفة، أو قد يكون خرق هذه الشروط بطريقة فيها من المكر ما يجعل من الصعب على الجهة المقترضة أن تعارضها.”

ولكن تظل اعتبارات أخلاقية أخرى يجب أخذها بالحسبان حتى عند ضمان الفهم المتساوي من الطرفين؛ من الصحة بمكان أن الفهم الشامل للمخاطر والنتائج المحتملة هو الوسيلة الوحيدة للحصول على اتفاقية صحيحة، ولكن هذا بدوره يعني أن موازين كل من الطرفين تعتمد على أولوياتهما وتفضيلاتهما وكذلك مبادئهما الأخلاقية وذلك لتحديد ما إن كانت هذه الاتفاقية مناسبة. ومع ذلك فإننا لا نغطي جميع الأبعاد الأخلاقية التي تندرج تحت عقد الاتفاقيات الصحيحة.  بإمكاننا أن نتخيل أن هذا المريض الذي يبلغ من العمر 43 عامًا والذي يبحث في محاولة تلقي العلاج بطريقة CRISPR يخضع للموازين التي تطرقنا إليها، فقد يكون واعيًا بحيثيات المخاطر التي تنطوي على العلاج وقد يكون كذلك واعيًا بالأمور التي تنجر عن العلاج بما يتناسب وأولوياته وتفضيلاته. في هذه الحالة: لم الانتظار؟ ما الذي يبقى من اعتبارات أخلاقية؟

عند تعريف الاستغلال فإننا نعني الانتهازية غير الأخلاقية، فمثلا تخيل أن هناك شخصًا ذو عازة يُعرض عليه مبلغ يقارب 500 دولار مقابل المشاركة في بحث طبي. في هذه الحالة، قد يكون من الصائب الانخراط في هذا البحث من مبدأ الفاقة والحاجة للمأكل والمشرب والسكن ومن مبدأ أن هذا الشخص قد أحاط علمًا بالمخاطر التي تنطوي على هذا البحث وقرر أن حاجته للمال أثقل – في موازينه- من تلك المخاطر، ولذا في مثل هذه الحالة فإن المعضلة الأخلاقية ليست في الانخراط في اتفاقيةٍ ما دون العلم بجوانبها جمعاء أو تعارض هذه الاتفاقية مع المصلحة العامة للشخص بل على العكس، فإن المصلحة هنا تنعكس على ظروف الشخص واحتياجاته. المشكلة الحقيقية تكمن في أن الركائز التي بني عليها هذا الخيار هي بحد ذاتها مدعاة للقلق. إن الحافز المادي المرتب على الخضوع لإجراء خطير أو ذو نتائج غير محددة على الجسد يعد معضلة أخلاقية شائكة في علم الأخلاقيات الأحيائية. وهذا لأن الطبيعة الاستغلالية لهذه العلاقة تحكم في الطرفين بطرق مختلفة.  وهكذا ما تكون عليه الأمور عندما يكون الحافز المادي المحرك الأساسي لأي اتفاقية، حيث أن الطرف الأضعف من السكان يقع تحت وطأة المخاطر التي تنجر عن البحوث والدراسات الطبية الخطيرة.

وهنا، لتجنب الاستغلال، هناك عدد من المعايير التنظيمية التي تحكم هذا النوع من المعاملات وتحدد أيٌّ منها يسمح بتعريض الجسد لأي نوع من المخاطر المجهولة، وهنا نقصد الدراسات الطبية على وجه التحديد. يوجد عدد من المعايير العالية التي تحكم الدراسات الطبية في النواحي المرتبطة بالصلوحية العلمية – أو ما يعرف بالناتج الافتراضي عن الدراسة- حيث أنه من غير المعقول الاستناد إلى احتمالية مبنية على بضع فرضيات. ولذا فإن فوريزيك غالبا لن يجد باحثا يوافق على إجراء التجربة عليه، وذلك خوفًا من أن المرضى المصابين بأمراض مميتة يصبحون أكثر هشاشة بعد الخضوع للتجارب؛ وهذا يجعل تلك الشريحة من المجتمع بشكل عام عرضة للاستغلال بمعنى ان الاعتبارات الأخلاقية في حالتهم تكون حاجزًا كبيرًا حتى وإن كانت تتماشى ومصلحة الطرف الهش ورغباته.

بطبيعة الحال فإن هذا يؤدي إلى نشوء نوع من الحساسيات واللغو بين الأطراف. هل من المفترض ترك فوريزيك وغيره من المرضى أن يتخذوا وصاية على قراراتهم بناء على التشخيص الذي يملكونه؟ يقول فوريزيك ردًا على هذا السؤال “إذا مت بسبب هذا الورم فإن موتي لن يكون ذا فائدة، ولكن إن مت جراء الخضوع لعلاج تجريبي، فإن في ذلك عزاءً للعلم في حياتي.”


بقلم: ميريديث مكفادين | ترجمة: سحر عثماني | المصدر

Exit mobile version