نحن نعيش في خضم ثورة هيوم الثانية؛ ففي كتاب “رسالة في الطبيعة البشرية” (1739-40) ناقش فيه الفيلسوف الاسكتلندي ديڤيد هيوم أن “العقل عبدٌ للعواطف ويجب أن يكون منصاعًا كليًا لها”. لكن ما الذي منحه هذا الإيمان المطلق في العواطف بحيث يمكنه قبول استعباد العقل لها؟ أدرك هيوم أن العواطف لا العقل هي المُحرّك للقيام بأي فعل، لذا شدّد على أنه يجب أن نُولي اهتمامًا بالعواطف إذا أردنا أن نفهم آلية إنجاز أمر ما.
لقد خَلُصَ علم الأعصاب الحديث إلى أن العقلانية البشرية أضعف مما يُفترض عادة، وأن العواطف تُسهّل اتخاذ القرارات عن طريق إكساب بعض الغايات أهمية أكبر. لذا نقول، لماذا تُعدُّ ثورة هيوم الثانية بالغة الأهمية؟ وما الذي يمكن الاستفادة منه من الثورة الأولى إن وجد؟
بشكلٍ عام تجنّب العلماء حتى وقت قريب العواطف باعتبارها ذاتية للغاية وغير محددة بدقة، ومع ذلك بمجرد أن دَعَمَ التطور الدارويني وعلم الأعصاب ارتباط العاطفة بالفعل، بدأ العلماء بصب انتباههم على لعواطف. يُعرّف أنطونيو داماسيو، أحد أكثر علماء الأعصاب تأثيرًا اليوم، في كتابه The Strange Order of Things (2018)، المشاعر والعواطف على أنها “برامج الفعل”، وبهذا يربط العواطف بالتوازن، وهي العملية التي نُبقي من خلالها أنفسنا أحياء.
فما أفضل السُبل لِمَنْح العواطف قيمة علمية عِوضًا عن جعلها العامل الأساسي لبقاء الإنسان؟ يدعم علم الأعصاب أيضًا الاعتراف المتزايد بالروابط بين أنظمة الدماغ الإدراكية والحركية؛ لذا استنتج بعض العلماء مثل فرانسيسكو فاريلا وإيفان طومسون وآندي كلارك وشون غالاغر- الناشطون الذين يجادلون بأن الفكر البشري ليس مرتبطًا بالدماغ ولكنه ينبع من الروابط بين العقل والجسد وبيئته- أن إدراكات الإنسان كلها تنصب لهدف القيام بالفعل؛ ومع ذلك أود أحيانا فقط إمعان النظر في الأشياء وليس اختزالها إلى أداة للقيام بالفعل.
إن النظرة العلمية العصبية للعواطف كأفعال هي إفقارٌ للفعل؛ فهي لا تفصل الفعل عن التقليد الفلسفي الذي يربطه بالحالات العقلية فحسب، بل تتجاهل أيضًا إمكانية التحكم بالمشاعر مما يعني أنها أحكام على الأشياء. علاوة على ذلك، فَرَضَ القانون الجنائي في المملكة المتحدة والولايات المتحدة منذ فترة طويلة معيار النية الإجرامية للإدانة؛ والذي يعني أن السلوك وحده غير كافٍ لإثبات المسؤولية الجنائية بل يجب أن يكون العقل موضع لوم أيضًا. قد يكون للفجوة الديكارتية التي كثيرًا ما يتم انتقادها بين العقل والجسد قيمة خاصةً عندما تخلق أو تشجع مساحة للتداول والنية.
وبالتالي، سوف يساعد شك هيوم بشأن الفعل مع حذره من مدى قدرتنا على السيطرة على عواطفنا، في التحول إلى العواطف كأفعال. فعندما تكون العواطف أفعالًا تقف راسخة من أجل البقاء، فمن يستطيع أن يقاومها؟ إن اختزال العاطفة إلى الفعل يُهمّش حقيقة أن عواطفنا غالبًا ما تكون مختلطة، وهو ما يعترف به هيوم على أنه “تضارب الدوافع والعواطف”. عندما تحتوي عواطفنا على درجات من الازدواجية أو التناقض، كما يحدث غالبًا، يكون المسار الصحيح للفعل غير واضح، لذا تعزز جميع العواطف المداولات. أما في ظل البقاء على قيد الحياة، لا نميل إلى التساؤل عما إذا كانت إثارة المشاعر مفيدة لنا أو ما إذا كانت مصدرًا غير موثوق به للقلق، كما أدرك الإغريق القدامى مثل زينو وإبكتيتوس.
يقترح هيوم أيضًا أن لهذا الانهيار الحالي غير التأملي للعواطف والأفعال ثمنًا باهضًا؛ فعلى سبيل المثال يجادل هيوم:
الأفعال بطبيعتها مؤقتة وتنتهي، وحينما لا تنبثق بفعل شخصية وتصرفات الشخص ذاته، فإنها لا تُقحم ذاتها على الشخص، فلا ترفع من قدره إذا كانت جيدة، ولا هي خزيٌ إذا كانت غير ذلك.نظرًا لأنه يفهم أن الأفعال عابرة، في حين أن العواطف هي مبادئ عمل ثابتة، يعتبر هيوم العواطف وليس الأفعال مكونات رئيسية لأنفسنا، وهي قادرة على “إقحام” نفسها علينا، وبالتالي فإن العواطف هي أجزاء ضرورية من تصرفات وشخصيات الناس؛ فبمجرد أن يتم تحويلها من خلال العادة إلى مبادئ، فإنه يمكننا الحصول على الدليل التجريبي على استقرار الذات.
ذكر أردنت في كتابه The Human Condition (1958 أنه من المهم تَذَكّر عدم قدرتنا على التنبؤ بعواقب الأفعال، فبمجرد أن تبدأ، غالبًا ما نكون عاجزين عن إيقافها وجعلها أشياء نقوم بها ونتحملها. استبق هيوم أرنت في ذلك، فقد وجد أننا نعاني العواطف، وبالتالي فهي تعقد الفاعلية بدلاً من المساعدة فيها. فالشغف في نهاية المطاف يعني حرفيا المعاناة معا.
يمكن أن تصبح العواطف مفتاحًا للأخلاق وجوهر ذواتنا عندما لا يكون لدينا خيار سوى المعاناة. إن حقيقة أننا غالبًا ما نكون سلبيين في مواجهة العواطف تعني أن صراعنا معها هو الذي يخلق ذواتنا إلى الحد الذي تكون فيه الفاعلية هي شعورنا بالقدرة على التصرف؛ فعلى سبيل المثال لا يمكننا توجيه أنفسنا فيمن نقع في حبه. ومع ذلك وبشكلٍ حاسم، يُصر هيوم على أنه يجب علينا أن نبتعد عن المشاعر العنيفة إذا كنا لا نريد أن نبقى تحت رحمتها: ” إن قوة العقل تعني ضمناً هيمنة المشاعر الهادئة على العنيفة”.
أخيرًا، إن شكوك هيوم حول قدراتنا العقلية تدفعه إلى التفكير في سلطتنا على العواطف لذا فهو يقدّم استراتيجيات متعددة للتعامل معها. في ظل مفهوم العواطف كبرامج فعل، هناك القليل من الحافز للتداول بشأنها خاصة عندما يكون الفعل بمثابة بقاء. يعرّف هيوم المشاعر على أنها أشياء يجب أن يُنظَر إليها سواء من قِبل الذات أو من قِبل طرف آخر محايد بحيث يمكن تقييمها وتعليمها. ومن خلال جعل المشاعر أغراضا تجريبية يختبرها الأفراد والمجتمع على شكل سلوكيات، فإنه يطلب أن نقارن إحساسنا بها برأي العالم الاجتماعي عنها.
وبهذه الطريقة فقط يمكن إثراء المشاعر ودمجها في الشخصية؛ وفيما يتعلق بذلك، ينبه هيوم على أنه عندما تكون المشاعر غير منطقية فإنها غالبًا ما تكون مصحوبة بالأحكام الخاطئة. وعلى النقيض من ذلك، فإن ربط العواطف بالأفعال والبقاء يُضيّق دور وتأثير الأحكام ويهمل تعليم عواطفنا. وبالفعل، كان هيوم قلقا من أن الكبرياء الذي يعرِّفه على أنه “غرور لا أساس له” للذات يمكن أن يدفعنا لتقدير الفعل أكثر مما ينبغي.
تعزز العادات قدرتنا على السيطرة على عواطفنا، لذا يعطي هيوم مكان الصدارة للعادة في حساباته الأخلاقية، ولكن الأساس هنا هو التقييم المستمر لما إذا كانت لدينا العادات الصحيحة وليس القبول السلبي لكل العادات.
يذكر هيوم: “لا شيء يستحق الثناء أكثر من أن نشعر بقيمة أنفسنا، حيث لدينا بالفعل صفات ذات قيمة”. وبعبارة أخرى، يطلب دليلًا تجريبيًا على القيمة وليس فقط لشعورنا بها. العادات تجعل من الممكن احتواء المشاعر العنيفة مثل الغضب. يصر هيوم على أنه “عندما تصبح العاطفة مبدأً راسخًا للفعل، وتكون هي الرغبة المسيطرة على الروح، فإنها عادة لا تنتج أي إثارة معقولة”. في وجهة النظر هذه، تقلل العادة من إثارة العاطفة، مما يجعلها قابلة للإدارة.
وجدت فكرة هيوم القائلة بأن العقل يخدم المشاعر دعمًا علميًا بطرق مهمة؛ عقلانيتنا تخدم عواطفنا، ولدينا سيطرة أقل على المشاعر مما يُفترض عادة. من خلال النص على أن العقل هو عبد للعواطف، يحذرنا هيوم من عواقب امتلاك العادات غير الصحيحة. عندما يوازن علماء الأعصاب بين العاطفة والفعل، فإن ذلك يضيق العاطفة على البقاء ويقلل من الطرق التي يمكن للعواطف من خلالها تعزيز المداولات. في حين أن علماء الأعصاب حددوا الجدول الزمني للعواطف بما لا يزيد عن بضع دقائق، يصر هيوم على أن الأمر لن يستغرق أقل من العمر لتصحيح عواطفنا.
بقلم: ريتشارد سي شا | ترجمة: زيانة الرقيشي | تدقيق: لمياء العريمية | المصدر