في وقتٍ بات فيه الحديث عن الرعاية الذاتية شائعًا، أصبح من السهل التسليم بالتغييرات المفاجئة للحد من الوصم المتعلق بالأمراض النفسية. ففي ظل استمرار المشاهير بمشاركة قصص لمعاناتهم المؤلمة ورحلة شفائهم، وزخم مدوَّنات علم النفس الشعبي ومواقعه الإلكترونية، وما نفتأ نرى نقاشات أكثر انفتاحًا وجرأة حول مسببات الأمراض النفسية وسبل علاجها.
ولعل عولمة هذه الظاهرة أصبحت أكثر إثارة للدهشة. إذ غدت الصحة النفسية مصدر قلقٍ عالمي، مع جهود الباحثين وأطباء النفس من طوائف ثقافية متنوعة وإسهاماتهم في فهم الأمراض النفسية.
كما أصبح تقديم الاستشارات النفسية جزءًا أساسيًا من الإغاثة بعد الكوارث؛ إذ تنتج الصدمات النفسية بعد حدوث الكوارث الطبيعية عادة. ففي أعقاب الزلزال وأمواج المد العاتية “تسونامي” اللذين ضربا أندونيسيا في أكتوبر من عام 2018م، بعثت منظمة الصحة العالمية أطباء نفسيين ومتطوعين مدرَّبين لتقديم الإسعافات الأولية النفسية.
ويبدو أن هذه التغيرات تدل على نهاية هذا الوصم؛ مشيرة إلى اتباع نهجٍ فعّال لعلاج حالات غامضة ومؤلمة تصيب الناس حول العالم.
وعلى الرغم من القلق العالمي المتزايد حيال الأمراض النفسية، ما يزال الغرب يمسك بزمام الحديث عن الصحة النفسية. حيث يعد الدليل التشخيصي الإحصائي للاضطرابات العقلية DSM الذي ألفته الجمعية الأميركية للأطباء النفسيين المرجع الأول لتشخيص الأمراض النفسية حول العالم. وهو دليل يصنف أعراض الأمراض النفسية وطرق علاجها.
نادرًا ما نتوقّف للسؤال عمّا إذا كان لتطبيق الفهم الأميركي للصحة النفسية أو عدمه تأثيرًا سلبيًا على الثقافات غير الغربية. إذ باتت ثقافتنا تنظر إلى حالات الاكتئاب والفصام من منظور الطب الحيوي فقط؛ كونها أمراض تعتمد كليًا على مجموعة معقدة من الاضطرابات العصبية عوض المسببات الثقافية.
ولكن في كتاب Crazy Like Us: The Globalization of the American Psyche، يناقش إيثان ووترز الطرق التي يؤثر بها نهج الطب الحيوي الذي يتبعه الطب النفسي الغربي سلبًا على من يعانون من أمراض نفسية في أماكن بمفهوم مختلف لمعنى الإحساس بالذات. كما يرى أنه من غير الأخلاقي تطبيق علاجات غربية للأمراض النفسية المترسخة في أعرافنا الثقافية.
ويصنف ووترز أسباب الأمراض النفسية إلى عوامل مرضيَّة وأخرى متعلقة بأحداث في حياة الفرد. كما أن الأمراض النفسية ليست كمرض السرطان؛ أي أنه لا يخضع للسياقات الثقافية. وهناك طريقتان يمكن أن تعبّر فيهما الأمراض النفسية عن نفسها؛ من خلال مسببات فردية ذات خصوصية ثقافية وأخرى تكمن في الاختلالات النفسية.
وتقصّت الروائية إيزمي ويجن وانغ الفرق بين النوعين في مجموعة مقالاتٍ لها The Collected Schizophrenias. ، حيث ترى فرقًا جوهريًا بين “التأويلات” وهي “الروايات الروحية” التي تُضفي للألم والمرض أهمية كونية وبين “المسببات” وهي الأسباب العصبية المتشابهة لدى الجميع.
بعبارة أخرى، يمكن أن تحمل الأسباب المتعلقة بحياة الفرد و”التأويلات” تفسيرات للمريض سواءً كانت مترسخة في تعابير الألم الخاصة بثقافات معينة أو أنّها تندرج تحت قضايا متعلقة بالدين.
ويرفض الباحثون الأسباب المتعلقة بحياة الفرد لكونها غير مهمة، ولكن ووترز يفترض “إن الثقافة والبيئة الاجتماعية تلعبان دورًا أكثر تعقيدًا في التسبب بالمرض عوض التأثير بمحتوى الوهم”. ففي المجتمعات الغربية، نُصرُّ على أن الأمراض النفسية خاضعة للطب الحيوي وبعيدة كل البعد عن المؤثرات الثقافية كمرض السرطان. ولكن الأبحاث تشير إلى أن اتباع نهج الطب الحيوي وحده يمكن أن يكون مُضرًا ويزيد من الوصم ضد الأمراض النفسية.
وعلى الرغم من الاهتمام المتزايد بمساعدة المرضى النفسيين، لا ينفك الوصم ضد الأمراض النفسية يتزايد منذ الخمسينيات. وفقًا لدراسةٍ أُجريت في 1996م، إن احتمالية وصف المريض النفسي بالعنيف في 1996 – بين البالغين الذين يربطون الأمراض النفسية بالاختلالات العقلية- تساوي 2.3 مرات وصفه في 1950م… ارتبطت درجة الخطورة بالسمات المسببة للمرض النفسي. كما أن السمات المسببة للاعتلال الجيني والكيميائي زادت من احتمالات الحكم على المصاب بالفصام بأنه مصدر خطر على نفسه وعلى الآخرين.
وبالرغم من أن “معدل التصورات المتعلقة بدرجة الخطورة قد استقر” بين أمراض مختلفة منذ 1996م و2006م “دون أية اختلافات تُذكر في تصورات العامة لمعدلات الخطورة للمصابين بالفصام والاكتئاب من البالغين”، إلا أنه لم يتلاش من الأمراض النفسية بصفة عامة. وأشارت الدراسة إلى أن منظور الطب الحيوي ساهم في تفاقم الوصم على نحو خفي من خلال قولبة المرضى النفسيين وتصنيفهم كأشخاص خطرين وحبيسي أفكارهم. ويقول ووترز أن النهج الغربي قد يكون غير إنساني إزاء المرضى النفسيين على الرغم من أنه يقدم آراء قيّمة للمسببات الأساسية التي تعتمد عليها الأمراض.
ويعكس مفهومًا غربيًّا بحتًا للجسد وانفصاله عن الثقافة؛ أنه حيّز حيادي يتأثر بعوامل جينية. ويزعم ووترز أن ما نتبنَّاه في الثقافات الأخرى ليس طب نفسٍ غربي، بل مفهوم غربي للذات وآراؤنا عما يعنيه أن تكون فردًا فاعلًا في المجتمع. في ثقافتنا، تكون لنا الإرادة المطلقة، أي أن معظم الأميركيون يرون بأن لديهم السيطرة التامة على حياتهم، ولكن الحال ليس كذلك بالنسبة لثقافات أخرى.
يعكس نهجنا المتعلق بالأمراض النفسية التالي؛ عادة ما يُنظر للمرضى النفسيين على أنهم يفتقرون إلى قوة الإرادة للتغلب على ما يمرون به. وتستمر هذه التصورات على الرغم من النهج الطبي الحيوي الذي يؤيده معظم الغرب والذي يجزم بأن سبب المرض النفسي لا يتعلق بحياة المريض.
وتُعد هذه المشكلة جزءًا من محادثات مهمة ومستمرة حول تأثير العولمة والهيمنة الغربية. في القرن القادم، سنشهد الكثير من الكوارث الطبيعية بسبب تغيّر المناخ، والتي يترتب عليها صدمات نفسية على أعداد كبيرة من الناس المحرومين فعلًا جرّاء الفقر والأمراض. ويعني ذلك المزيد من الاستشارات النفسية -الغربية بالتحديد- والأدوية.
في بعض الأحيان، يكون ضرر التشخيص أكثر من نفعه. علّقت إيزمي ويجن وانغ أن في المجتمعات الغربية “من السهل نسيان أن التشخيص النفسي ليس إلا اجتهادات بشرية، ولم ينزّل في الكتب السماوية. أن تكون مصابًا “بالفصام” يعني أن تتناسب أعراضك مع قائمة من الأعراض في كتابٍ بغلافٍ بنفسجي (الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية) ألّفه إنسان ليس معصومًا عن الخطأ. لا شكَّ أن العلاج النفسي ناجع، ولكن علينا أن نكون حذرين قبل اعتماده كعلاج عالمي شامل، بل وعلينا أن نحث التنوّع العالمي في مجال الصحة النفسية.
بقلم: بياتريس هارفي | ترجمة: مريم الريامية | تدقيق: مريم الغافرية | المصدر