يستكشف كتاب “العقل المنظَم: التفكير السوِّي في عصر الإغراق المعلوماتي“، بقلم دانييل ليفيتين “كيف يتعامل الإنسان مع المعلومات والتنظيم من بداية الحضارة”. إنها أيضًا قصة عن كيف تَمكَّن أكثر أفراد المجتمع نجاحًا -من الفنانين والرياضيين والمحاربين الناجحين ومديري الأعمال والمهنيين ذوي الشهادات العالية- من تحقيق أقصى قدر من الإبداع والكفاءة، من خلال تنظيم حياتهم بحيث يقضون أقل الوقت على الأمور الدنيوية، والمزيد من الوقت على الأشياء الملهمة والمريحة والمجزية في الحياة”.
الذاكرة
الذاكرة عرضة للوقوع في الخطأ، ليس فقط في تذكر الأشياء بطريقة خاطئة، “نحن لا نعلم حتى أننا نتذكرها بطريقة خاطئة”.
أول البشر الذين اخترعوا الكتابة -قبل حوالي 5000 عام- كانوا في جوهرهم يحاولون زيادة قدرة الحُصيْن -وهو جزء من نظام ذاكرة الدماغ. لقد وسعوا بشكل فعال الحدود الطبيعية للذاكرة البشرية عن طريق الحفاظ على ذكرياتهم على ألواح الطين وجدران الكهوف، ثم ورق البردي والرق. في وقت لاحق، طوَّر الإنسان آليات أخرى مثل التقويمات وخزائن الملفات وأجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية؛ لمساعدتنا في تنظيم وتخزين المعلومات التي كتبناها. عندما يبدأ الكمبيوتر أو الهاتف الذكي في العمل ببطء؛ فقد نشتري بطاقة ذاكرة أكبر. تلك الذاكرة هي تعبير مجازي وحقيقي في نفس الوقت. نحن نفرغ كمية كبيرة من المعالجة التي تقوم بها خلايانا العصبية عادةً لجهاز خارجي الذي بدوره يصبح امتدادًا لأدمغتِنا، ويعتَبر مُحسِّنًا عصبيًا.
آليات الذاكرة الخارجية هذه عادة ما تكون نوعين: إما أن تتبع نظام الدماغ التنظيمي أو إعادة اختراع نظام جديد -وفي بعض الأحيان- تتغلب على حدود الدماغ. معرفة ما الذي يمكن أن يعزز الطريقة التي نستخدم بها هذه الأنظمة، يسهم في تحسين قدرتنا على التعامل مع الحمل الزائد للمعلومات.
وبمجرد أن تصبح الذاكرة خارجية (مكتوبة ومخزنة)، يتم تحرير أنظمة الانتباه لدينا للتركيز على شيء آخر.
لكننا نحتاج إلى مكان -ونظام- لتنظيم كل هذه المعلومات.
مشكلة الفهرسة هي أن هناك العديد من الاحتمالات حول مكان تخزين هذا التقرير، بناءً على احتياجاتك؛ فيمكن تخزينه مع كتابات أخرى حول النباتات، أو مع كتابات عن تاريخ العائلة، أو كتابات عن الطبخ، أو مع كتابات حول كيفية تسمم عدو.
وهذا يقودنا إلى جانبين من جوانب العقل البشري لا يتم إعطاؤهُما الحق الكافي؛ وهما الثراء والوصول الترابطي.
يشير الثراء إلى النظرية القائلة إن هناك عددًا كبيرًا من الأشياء التي فكرت بها أو عايشتها لا تزال موجودة في مكان ما، أما الوصول الترابطي يعني أنه يمكن الوصول إلى أفكارك بعدة طرق مختلفة من خلال ارتباطات دلالية أو إدراكية. يمكن استعادة الذكريات بالكلمات ذات الصلة، أو فئات الأسماء، أو الرائحة، أو أغنية قديمة، أو صورة فوتوغرافية، أو حتى -على ما يبدو- استشعارات عصبية عشوائية تحضرها إلى الوعي.
إن القدرة على الوصول إلى أي ذاكرة بغض النظر عن مكان تخزينها هو ما يسميه علماء الحاسب الآلي بالوصول العشوائي. تعمل أقراص “دي في دي” والأقراص الصلبة بهذه الطريقة، لكن في المقابل أشرطة الفيديو لا تعمل على هذا النحو، حيث يمكنك الانتقال إلى أيّ مكان في فيلم على قرص “دي في دي” أو محرك أقراص ثابت من خلال “النقر” عليه. لكن للوصول إلى نقطة معينة في شريط فيديو، تحتاج أولًا إلى الذهاب إلى كل نقطة سابقة (الوصول المتسلسل). إن قدرتنا على الوصول إلى ذاكرتنا بشكل عشوائي من خلال إشارات متعددة يعد أمرًا قويًا، ويطلق علماء الحاسب الآلي على هذه الخاصية بالذاكرة العلائقية. ربما تكون قد سمعت عن قواعد البيانات العلائقية وهذه بالضبط ذاكرة الإنسان.
امتلاك ذاكرة علائقية يعني أنه إذا أردتُ أن أفكر في سيارة إطفاء فيمكنني أن أحفز الذاكرة بعدة طرق مختلفة؛ فقد أسمع صوت صفارات الإنذار، أو أعطيك وصفًا لفظيًا “شاحنة حمراء كبيرة، بها سلالم جانبية، تستجيب عادةً لنوع معين من حالات الطوارئ”.
نقوم بتصنيف الكائنات في عدد لا حصر له من الطرق، كل واحدة من هذه الطرق “لها طريقها الخاص إلى العقدة العصبية التي تمثل شاحنة الإطفاء في عقلك”. ألقِ نظرة على إحدى الطرق التي يمكننا بها التفكير في شاحنة الإطفاء:
التفكير في ذاكرة واحدة أو مجموعة منها ينشِّط الكثير، وهذا قد يكون نقطة قوة أو ضعف. إذا كنت تحاول استرجاع ذاكرة معينة؛ فإن تدفق التنشيط يمكن أن يتسبب في التنافس بين العقد المختلفة، ما يتركك في زحمة من العقد العصبية التي تحاول الوصول إلى الوعي، وينتهي بك المطاف إلى لا شيء!
تنظيم حياتنا
جاء قدماء الإغريق بمواقع الذاكرة وطوروا طريقة تحديد مواضِع الذاكرة لتحسين عملها، وأصبح المصريون خبراء في نقل المعلومات، واخترعوا -على الأغلب- أكبر مستودع للمعلومات يسبق غوغل؛ إنها المكتبة!
لا نعرف سبب حدوث هذه الانفجارات المتزامنة للنشاط الفكري (ربما تكون التجربة البشرية اليومية قد وصلت إلى مستوى معين من التعقيد)، لكن الحاجة الإنسانية لتنظيم حياتنا، وبيئتنا، وحتى أفكارنا، ما تزال قوية. لم يتعلم الإنسان هذه الحاجة ببساطة، إنها ضرورة بيولوجية؛ فالحيوانات تنظم بيئاتها بشكل غريزي.
لكن الشيء الغريب في العقل أنه لا يقوم من تلقاء نفسه بتنظيم الأشياء بالطريقة التي تريدها، فهي إلى حد كبير عملية لاواعية؛ فالعقل يتكون مسبقًا، وعلى الرغم من أنه يتمتع بمرونة هائلة، إلا أنه مبني على نظام تطور عبر مئات الآلاف من السنين للتعامل مع أنواع مختلفة وكميات مختلفة من المعلومات عما لدينا اليوم.
ولنكون أكثر تحديدًا: لم يُنظَّم المخ بالطريقة التي يمكنك بها إعداد مكتب منزلك أو خزانة أدوية الحمام، ولا يمكنك وضع الأشياء في أي مكان تريد. إن بنية الدماغ المتطورة عشوائية وغير مفككة، وتتضمن أنظمة متعددة -وإن جاز التعبير- لكل منها عقل خاص به. التطور لا يصمم الأشياء ولا يبني الأنظمة، إنه يستقر على الأنظمة التي نقلت -تاريخيًا- فائدة البقاء (وإذا كانت هناك طريقة أفضل، فسوف يتبناها). لا يوجد مخطط شامل ورائع لهندسة النظم لتعمل معًا بتناغم؛ فالدماغ يشبه منزلًا قديمًا كبيرًا مع تجديدات مجزأة تتم في كل طابق، وأقل تشابهًا للبناء الجديد.
ضع هذا في اعتبارك، وعلى سبيل القياس: لديك منزل قديم بكل أجزائه لكنك راض. يمكنك إضافة مكيف هواء للغرفة خلال فصل الصيف الحار بشكل خاص، وبعد بضع سنوات -عندما تمتلك المال الكافي- تقرر إضافة نظام تكييف مركزي، لكنك لا تزيل الوحدة التي في غرفة النوم؛ لاعتقادك بأنك قد تحتاجها يومًا ما، وهي موجودة بالفعل ومثبتة على الحائط. بعد ذلك بسنوات قليلة، تظهر لديك مشكلة صحية كبيرة، حيث تنفجر الأنابيب في الجدران؛ فيقرر السباكون ضرورة فتح الجدران وتركيب أنابيب جديدة، ولكن نظام تكييف الهواء المركزي يعترض طريق هذه الأنابيب، وإن كانت بعض الأنابيب ستُثبَّت بشكل مثالي، لذلك تحتاج لتمديدات تسهم في تركيب الأنابيب -عبر العليّة- وستقطع مسافة طويلة. هذه التقنية ستعمل بشكل جيد حتى فصل الشتاء ومع الطقس البارد في العليّة غير المعزولة ما يؤدي إلى تجمُّد الأنابيب. لم تكن الأنابيب لتتجمد لو وصلناها داخل الجدران، وهو ما لم تتمكن من فعله بسبب التكييف المركزي. إذا كنت قد خططت لكل هذا من البداية، لكنت قمت بالأشياء بطريقة مختلفة، ولكنك قمت بإضافة كل شيء على حِدة، وعندما تحتاج إليه فقط.
أو يمكنك استخدام تشبيه شارلوك هولمز لـ “عليّة الذاكرة” عندما أخبر هولمز واتسون “أنا أعتبر أن عقل الإنسان في الأصل يشبه العلية الفارغة قليلاً، وعليك تخزينه بأثاث من اختيارك”.
أما ليفيتين فيجادل بأنه يجب علينا أن نتعلم “كيف ينظم دماغنا المعلومات حتى نتمكن من استخدامها بدلاً من محاربته”، وفي الأصل نحن نفعل ذلك بشكل أساسي، من خلال العمليات الرئيسية للتشفير والاسترجاع.
أدمغتنا مبنية على أنها خليط من الأنظمة المختلفة، كل منها يحل مشكلة تكيُّـفية معينة. في بعض الأحيان، يعملون معًا، وأحيانًا يتعارضون، وأحيانًا لا يتحدثون حتى إلى بعضهم البعض. تتمثل إحدى الطرق الرئيسة التي يمكننا من خلالها التحكم في العملية وتحسينها هي في إيلاء اهتمام خاص للطريقة التي ندخل بها المعلومات في ذاكرتنا “الترميز” وطريقة “لاسترجاعها”.
نحن أكثر انشغالًا من أي وقت مضى، وهذا لا يصنَّف ضمن الإغراق المعلوماتي، حيث توجد حجج حول عدم وجود ذلك. قائمة المهام الداخلية الخاصة بنا غير راضية أبدًا؛ فنحن غارقون في أشياء متنكرة في صورة حكمة أو حتى معلومات، وقد أُجبرنا على الفرز عبر سفاسف الأمور هذه. يشير ليفيتين إلى أن إحدى نتائج هذا النهج هي فقداننا للأشياء؛ مفاتيحنا، أو رخص القيادة، وهواتفنا. ليست فقط الأشياء المادية “ننسى أيضًا الأشياء التي كان من المفترض أن نتذكرها، أشياء مهمة مثل كلمة المرور للبريد الإلكتروني، أو موقع الويب الخاص بنا، ورقم التعريف الشخصي لبطاقاتِنا البنكية، والمكافئ المعرفي لفقدان مفاتيحنا”، وكل هذه الأشياء مهمة ويصعب استبدالها.
نحن لا نميل إلى فشل الذاكرة بشكل عام، لدينا فشل ذاكرة مؤقت ومحدد لشيءٍ واحد أو شيئين. خلال تلك الدقائق القليلة المحمومة عندما تبحث عن مفاتيحك المفقودة ما زلت -على الأرجح- تتذكر اسمك وعنوانك، ومكان وجود جهاز التلفزيون الخاص بك، وما تناولته في وجبة الإفطار، إنها مجرد ذاكرة واحدة ضاعت. هناك دليل على أن بعض الأشياء عادة ما تضيع كثيرًا، أكثر من غيرها: نميل إلى فقدان مفاتيح سيارتنا ولكن ليس سيارتنا، ونفقد محفظتنا أو هاتفنا الخلوي -في كثير من الأحيان- أكثر من دباسة على مكتبنا أو ملاعق الحساء في المطبخ، نفقد المعاطف والسترات الصوفية والأحذية أكثر من السراويل. إن فهم كيفية تفاعل أنظمة الذاكرة والذاكرة في الدماغ يمكننا من أن نقطع شوطًا طويلًا نحو تقليل الهفوات في الذاكرة.
هذه الحقائق البسيطة حول أنواع الأشياء التي نميل إلى فقدها وتلك التي لا نفقدها، تخبرنا الكثير حول كيفية عمل أدمغتنا والكثير حول سبب حدوث الأشياء.
إنها تعمل بطريقة رائعة، حيث يتحدث ليفيتن أيضًا حول موضوع أثار اهتمامي لوقت طويل، “الشركات”، كما يكتب “تشبه العقول الموسعة، حيث العُمَّال فيها يمثلون الخلايا العصبية”.
تتكون الشركات من مجموعات من الأفراد متحدين لتحقيق مجموعة مشتركة من الأهداف؛ فيؤدي كل عامل وظيفة متخصصة. الشركات عادة ما تكون أفضل من الأفراد في المهام اليومية بسبب المهام الموزعة. في الأعمال التجارية الكبيرة، يوجد قسم لدفع الفواتير في الوقت المحدد (الحسابات مستحقة الدفع)، وآخر لتتبع المفاتيح (المصنع الفعلي أو الأمن). على الرغم من أن العمال الأفراد غير قابلين للخطأ، إلا أن الأنظمة والتكرار عادة ما تكون موجودة -أو يجب أن تكون موجودة- لضمان عدم توقف أي شخص لأي إزعاج لحظي أو تقصير في التنظيم مما يؤدي إلى انقطاع تام. وبطبيعة الحال فإن منظمات الأعمال ليست دائمًا منظمة بشكل مثالي، وأحيانًا -من خلال نفس المجموعات المعرفية التي تجعلنا نفقد مفاتيح السيارة- تفقد الشركات الأشياء أيضًا مثل الأرباح والعملاء والمراكز التنافسية في السوق.
من الصعب مواكبة عالم اليوم، لدينا أرقام التعريف الشخصي، وأرقام الهواتف، وعناوين البريد الإلكتروني، وقوائم المهام المتعددة، والأشياء المادية الصغيرة التي يجب متابعتها، والأطفال الذين يجب الاهتمام بهم، وكتب لقراءتها، ومقاطع فيديو لمشاهدتها، ومواقع الإنترنت التي لا حصر لها لتصفحها، وما إلى ذلك، لكن معظمنا ما يزال يستخدم الأنظمة إلى حد كبير لتنظيم هذه المعرفة -التي تم وضعها في وقت أقل- والحفاظ عليها.
“العقل المنظَّم: التفكير السوِّي في عصر الإغراق المعلوماتي“ يوضح لنا كيفية تنظيم وقتنا بشكل أفضل، ليس فقط حتى نصبح أكثر فاعلية ولكن حتى نجد مزيدًا من الوقت للتسلية واللعب والعلاقات المفيدة والإبداع.
ترجمة : هدى الريامي | تدقيق الترجمة : فاخرة يحيى و زيانة الرقيشي | التدقيق اللغوي : محمد الشبراوي | تحرير : بسام أبو قصيدة | المصدر