كنت في الرابعة عشر من عمري عندما أُخبِرْت أن أبي على شفا حفرة من الموت.
كنت جالسةً على أرضية الصالة، قالت أمي إن لديها خبرًا ما! حينها استشعرت أن هناك أمرًا سيئًا؛ فثبت نظري على الجريدة المفتوحة أمامي محدقةً بإعلان لمنحوتاتٍ زجاجية ألمانية، بينما استطردت أمي: “أباكما مصاب بالسرطان، تحديدًا سرطان البنكرياس، وربما يعيش لأشهرٍ معدودة فقط”.
أخبرتني -وأختي- أنهم سيحاولون إجراء عملية حتى تخفف عنا وطأة الألم، وكونها ممرضة، ربما كانت تعلم مسبقًا أن ذلك لن يجدي، ولأنها كانت تعرف لمن تتحدث، لم ترغب في الإكثار علينا بالمعلومات. من المؤكد -أيضًا- أنها كانت تعلم أن سرطان البنكرياس هو من أخبث أنواع السرطانات، والسبب يكمن في عدم ظهور أعراضه في مراحله الأولى؛ ففي الوقت الذي يبدأ فيه بالشعور بالغثيان أو ظهور الصفار أو فقدان الوزن، يكون الوقت قد فات على حتى مجرد الأمل بأن الأمر ليس خطيرًا.
في تلك الليلة، عندما كتبت مذكراتي، لم أكن أفكر إلا في شعوري، وعندما أعود لقراءتها الآن أتساءل: كيف كان شعور أمي حينها! والتي كانت ما تزال تعاني من وقع وهول الخبر، وفي الوقت ذاته كان يجب عليها إخبارنا جميعًا.
لأنها طبيبة، غالبًا ما تُناِقش ،كيت جرينر، الأخبار السيئة ومواضيع متعلقة باقتراب الموت، ولكن هناك سبب آخر لاهتمامها بهذا الموضوع تحديدًا؛ فقبل ثلاث سنوات عندما كانت في 39 من عمرها، شُخِصَت بنوعٍ نادرٍ وخطيرٍ من أمراض السرطان يؤثر على الأنسجة الرقيقة؛ حينها كانت تتحدث وتكتب كثيرًا عن تجاربها في التعايش مع مرض مميت، كما قادت حملة #hellomynameis لجعل العاملين بالخدمات الصحية الوطنية يعرفون بأنفسهم لكل مريض يقابلونه، وتخطط لإجراء بث حي عبر تويتر أثناء موتها.
شخصت جرينر بالسرطان حينما كانت تقضي عطلتها في الولايات المتحدة الأمريكية، وقالت: “مررت بلحظاتٍ عصيبةٍ حينما كنت أنقل ذلك الخبر السيء حال عودتي إلى بريطانيا”. ثم تابعت: “عندما ظهرت نتائج أشعة الرنين المغناطيسي، تلقيت الخبر الفاجع وأنا بمفردي، أبلغني إياه طبيبٌ مبتدئ لم يكن يدري كيف ستكون الخطة العلاجية بعد”.
تحت وطأة الألم وبمفردها، أُخبِرَت -بدون سابق إنذار أو تمهيد- أن نتائج أشعة الرنين المغناطيسي تُظْهِر بأن السرطان قد انتشر. تتذكر جرينر: “لقد كان ذلك الطبيب يُلقي علي حكمًا بالإعدام بكل بساطة، لم يطقْ الانتظارَ حتى مغادرتي من الغرفة، ولم أره مرة أخرى بعد ذلك”.
لقد صقلتها التجارب التي مرت بها وصنعت شخصية الطبيبة بداخلها. تشخص جرينر ببصرها قائلةً: “كنت أعتقد أنني طبيبة رحيمة وعطوفة، لكن بعد كل ما قاسيته؛ عندما عدت للعمل أصبحت أكثر إدراكًا لأهميةِ لغة الجسد والتفكير في أثر الأخبار السيئة على الشخص أكثر من مجرد استعراض، وإخبار السيدة سميث -مثلًا- أنها مصابة بسرطان الرئة، وذلك كإجراء روتيني”.
طلبت من بعض الأطباء مشاركتي تجاربهم وذكريات المرضى الذين ما يزالون عالقين في أذهانهم. تتذكر إحدى الطبيبات امرأةً أتت مباشرة بعد عيد الميلاد “الكريسماس”، كانت تتردد على الأطباء طوال التسعة أشهر الماضية أو أكثر، تشكو من أعراض عامة عادية يمكن تجاهلها بسهولة، من بينها الشعور بالإعياء والتورم، ثم فجأةً، شحب لونها وصارت مصفرة وتعاني من ضيق في التنفس؛ فأتى بها أحد الأقارب إلى قسم الحوادث والطوارئ.
تقول الطبيبة: “إنها إحدى تلك الحالات التي يغلق فيها الطبيب الستار ويتبادر إلى ذهنه مباشرة أن (الأمر سيئ جدًا)، وفي حالات قليلة جدًا، تلمس الشيء وتقول مباشرةً (هذا سرطان)؛ لأنه عندما لمست الطبيبة بطن المريضة وجدتها صلبة كالحجارة”.
ظلت المريضة تقول لي: “سيكون كل شيء على ما يرام، أليس كذلك؟” وأنا أقول لها: “سنفعل كل ما بوسعنا، دعينا نُجري بعض الفحوصات اللازمة للتشخيص الدقيق”. في تلك الأثناء كنت أدرك تمامًا أن حالتها حرجة جدًا، ولكني كنت أريد أن أعرف مدى خطورة وضعها بالتحديد.
كانت السيدة مصرة على العودة إلى المنزل -عشية رأس السنة الجديدة- للتواصل مع العائلة في الخارج، لكن فحوصات الدم أكدت أنها ستحتاج إلى البقاء في المستشفى.
قالت لي: “أخبريني بأسوأ سيناريو!” تبادلنا النظرات وفي قرارة نفسي كنت أحدث نفسي بأنها غير مستعدة لمثل هذا التشخيص، ثم تدخلت قريبتها وقالت: “لا! إنها تعني ما أسوأ الاحتمالات من ناحية مدة مكوثها في المستشفى”. في تلك اللحظة، تدرك أننا جميعًا نعرف بالضبط ما نتحدث عنه، لكننا نتقبله بدرجات مختلفة.
يعد الانقسام النفسي من أهم الأساليب الدفاعية للتأقلم، وفي مرات عدة، تذكر الطبيبة أن الأخبار السيئة -من بينها الموت- هي جزء لا يتجزأ من وظيفتنا. يجب أن تبقى قويًا من أجل أسرة المريض. يمكنني الذهاب بسهولة إلى غرفة الموظفين -والبكاء هناك- ولكن في تلك اللحظة يجب أن أكون هناك، يجب أن أمنح المريض يد العون والمساندة، أو الكتف الذي يحتاج البكاء عليه”.
تتحدث الطبيبة عن أول مريض اعتنت به؛ رجل يعاني من سرطان البروستات النقيلي استدعتها زوجته إلى غرفته، وما إن وصلت إليها حتى لفظ المريض أنفاسه الأخيرة، خرت الزوجة باكيةً على الأرض أمامها، في تلك اللحظة، يجب أن تقول: “أنا آسف، لقد رحل”، ويتوجب عليك فقط أن تبتلع كل الغصة والألم بداخلك، وتبقى هناك من أجلهم؛ لأن تلك اللحظات ستظل محفورة في ذاكرتهم إلى الأبد”.
هذا المكتب يمكن أن يكون في أي مكان، باستثناء وجود سرير الفحص الإكلينيكي في الزاوية، ذلك السرير المزود بمقصورة ذات ستائر. تقول اللافتة الزرقاء المعلقة على الباب: “هذه الغرفة محجوزة طوال اليوم لتمرين الطلاب على كيفية إيصال الأخبار السيئة”.
يجلس ستة طلاب من كلية الطب للاستماع، وتخبر المدربة -وهي إحدى الطبيبات- الجمع الجالس أمامها: “إنها مواقفُ حقيقية، سيبكون، وربما سيصرخون”، تنتشر في المكان شحنات عصبية، بعض الطلاب يسمح لبعض الضحكات بالخروج. تشير المدربة إلى الممثلين الذين جاءا لتمثيل السيناريوهات أمام طلاب السنة الأخيرة قبل تأهُّلهم ليصبحوا أطباء.
من الواضح أن لديهم الكثير من المخاوف: هل يكونون عاطفيين؟ هل عليهم لمس المريض أم لا؟ هل ما يقولونه سيكون صحيحًا أم خاطئًا؟ هل يجب عليهم الاكتفاء بالصمت وعدم قول أي شيء؟!
الدراما الطبية: لعب دور الطبيب!
كيف يتدرب الأطباء على إيصال الأخبار السيئة؟ من خلال تمثيل الأدوار.
تُوَزَعَ السيناريوهات، وبسرعة خاطفة تتفحص أعين الطلاب الأوراق، ينكمشون في أماكنهم، ويأخذون نفسًا عميقًا. يدور أحد السيناريوهات حول إخبار والدي طفل ما أن ابنهما ربما يكون مصابا بالفصام. وسيناريو آخر حول إبلاغ أحدهم أن قريبًا له توفي فجأة في المستشفى؛ أحدهم يقف على كتف زميله القريب منه، يقول له وهو يهز رأسه: “حصلت على المقطع الأسهل والأقصر”.
عندما حان الوقت، توجه زميله إلى الباب، فأدركته المدربة قائلة: “ربما ستحتاج أن تأخذ معك بعض من المناديل لهذا السيناريو؛ فأجابها الشاب: “نعم! هذا صحيح”.
تجلس بقية المجموعة تشاهد عبر رابط فيديو مباشر -جالسين على شكل نصف قمر على كراسٍ بلاستيكية- يلمسون وجوههم، وتحيط أذرعهم أجسادهم بحذر، ومكبر الصوت يئز.
يجلس في الغرفة زوجان، تعبث المرأة بحقيبة يدها رافضةً قبول الخبر، ويحدق الرجل بصمت في يديه، قبضات اليد مثبتة حول هاتفه المحمول. “هل هذا صحيح أو مجرد شيء تقوله؟” يسأل الطبيبَ الشاب بعنف. لقد قيل له إن طفله الرضيع -الذي ولد قبل 26 أسبوعًا فقط- مصابٌ بتلفٍ حاد في الدماغ، ومن غير المرجح أن يظل على قيد الحياة.
ينظر كل من الطلاب إلى الآخر في الغرفة، بينهم من يهز رأسه، ومنهم من يبتسم، وآخر يغمز، مستشعرين ألم زميلهم، ألمٌ كلهم سيشعرون به عاجلًا أم آجلًا.
من يقول الحقيقة يتحمل التبعات
ربما ليس من المستغرب أن يجد الباحثون في جامعة أرسطو في اليونان أن إبلاغ مريض ممثل أنه مصاب بالسرطان كانت أشد إيلامًا ووطأةً على الطبيب عوضًا عن إخفاء التشخيص عنه، ويعتقد الباحثون أن الأطباء الذين لا يخبرون الحقيقة ربما يفعلون ذلك لضبط الموقف، وحتى يتفادوا ردة فعل مشاعرهم ومشاعر مرضاهم.
وتقول الدكتورة، لورا جين سميث، وتعمل مساعد استشاري الأمراض التنفسية ومدربة في لندن، إن المعاناة التي يشعر بها الأطباء عند إبلاغ الأخبار السيئة قد تضطر بعضهم إلى تأجيل إبلاغ المريض، أو إيصالها بطريقة غير حسنة كما ينبغي.
إيجاد الوقت والمكان المناسبين للحديث عن أشياء مثل تطور المرض يعد أمرًا صعبًا جدًا، وتتباين ردود أفعال المرضى. حيث ترى سميث: “ربما سيفضِّل بعضهم أن يعرف حقيقة مرضه عندما يكون بحالة غير جيدة، أما البعض الآخر؛ فقد يقول بعنف كنت في المستشفى من قبل! من غير المعقول أنك سترسلني إلى العناية المركزة الآن”، وغيرهم لا يريدون أن يعرفوا بتاتًا.
هناك -أيضًا- خطر إطلاق النار على الرسول! تستشهد، كاثرين سليمان، دكتورة ومحاضرة في الطب بمعهد سيسلي سلوندرز التابع لكلية كينجز بلندن بدراسة وجدت أن المرضى ينظرون إلى الأطباء على أنهم متحدثون رائعون عندما يعطون نظرة تفاؤلية أثناء الحديث عن العلاج الكيميائي باعتباره مسكن ألم وليس دواءً معالجًا، وتقول: “وهذا يوحي أنك تستطيع أن تخبر مريضًا أن مرضه قاتلٌ لا شفاء منه، ولكن ذلك على حساب علاقتك به، وأجد ذلك مثيرًا للاهتمام”.
إن المطالبات التي يريدها المرضى وعوائلهم من الأطباء من ناحية إيجاد التوازن بين الصدق والحقيقة والأمل، بأن يكونوا إنسانيين ولكن غير إنسانيين كثيرًا، أن يعرفوا كل شيء حتى المجهول، تزيد من المعاناة والتعب!
يقول الدكتور، ستيفن باركلي، كبير المحاضرين في الممارسة العامة والرعاية التلطيفية في جامعة كامبريدج: “أعتقد أننا نجد صعوبة في الاعتراف بأننا لا نعرف؛ لأن المرضى يأتون إلينا، ونحن ننظر إلى أنفسنا باعتبارنا الأشخاص الذين يقومون بالفحص، ومن ثَمَّ اتخاذ القرارات وتقديم التشخيص، ومن بعدها وضع خطة علاجية”.
يعتقد أن الأطباء يجدون صعوبة كبيرة في الاعتراف بحالة عدم التيقن، وهو شيء ليس سببه عدم كفاءة الطبيب، وإنما عدم القدرة على التنبؤ وعدم التيقن من فاعلية الكثير من الأدوية، ولا سيما علاج المراحل المتأخرة للعديد من الأمراض. يقول: “إنه أمرٌ مخيف، لا أحد يستمتع مطلقًا بإجراء مثل هذا النوع من المحادثات”.
يتطلب الأمر محادثاتٍ كثيرةً لأجد شخصًا ما يمكنه أن يخبرني بصورة واضحة جدًا وإنسانية وبمصطلحات غير طبية كيف الوضع بالضبط في معايشة إخبار المرضى بالإصابة بأمراض خطيرة أو مميتة بشكل يومي. ليست المشكلة في أن تجد طبيبًا تتحدث إليه، إذ إن محادثاتنا تبدأ بتفاؤل كبير، ولكن في ما بعد، تمر الأشياء بفلتر المهنة ويصبحون أقل وضوحًا، وأكثر تشتتًا لأي مسار يتوجهون، غامضين في لغتهم الطبية متقوقعين في فقاعتهم المتحفظة بلهجة سلبية أو معممة على خبرة أي طبيب. قد تشعر بالانزعاج من ذلك، ولكن ما باليد حيلة!
بالنسبة لأختي، وهي طبيبة منذ 8 سنوات، ليس إبلاغ الأخبار السيئة هو ما يبقى في ذاكرتها، ولكنها الأشياء الصغيرة والتي تبدو غير مهمة التي تصاحبها مثل مشاهدة صحيفة غير مقروءة على الخزانة الموجودة بجانب السرير لمريضٍ مات للتو، على الرغم من محاولات الإنعاش القلبي، أو العثور على شيك ينتظر الدفع في محفظة رجل توفي بحادث سير.
مثل هذه الأشياء، الأشكال المادية للأشياء نصف المكتملة أو بالأحرى غير المنجزة والتي لن تُنجَز أبدًا، هي تلك الأشياء التي يظل صداها يتردد في الذاكرة. هدايا عيد الميلاد غير المفتوحة، عطلات ملغاة، ملابس غير ملبوسة، كل أشكال الحياة المنتهية قبل الأوان، الزوال المحتمل، والمستقبل الباهت. تلك الأشياء التي تبقى بعد الانتهاء من الإجراءات الاعتيادية للتعامل مع المريض وأقاربه الذين ننساهم بعد فترة طويلة.
يقول أحد الأطباء: “تفعل ما تستطيع لاستيعاب وفهم الأمر، تسترجع ما حدث من وجهة نظر الإدارة الطبية من التحليل والفهم والوصول إلى النتائج. هل قمنا بكل ما في وسعنا؟ هل سنفعل أي شيء مختلف في المرة القادمة؟ تتناول كوبًا من الشاي، ترش وجهك بالماء البارد، ثم تشعل سيجارةً وتنتقل إلى المريض التالي، وهكذا إلى أن ينتهي وقت عملك”.
يتخذ العلاج الذاتي لدى الأطباء أشكالًا متنوعة؛ فبعضهم يذهب مباشرة إلى الحانة، وأما الوصفة الكاملة لأحد الأطباء تتمثل في: “اذهب إلى البيت، اطلب لك بيتزا، وكل الكثير من الآيسكريم، واجلس أمام التلفاز، وشاهد شيئًا تافهًا”، أما بالنسبة لطبيب آخر فقد اتفق مع صديقه -هو أيضًا طبيب- على أن يتصل كلًا منهما بالآخر في أي وقت؛ ليسري كل منهما عن صاحبه.
تقول، أنابيل برايس، الاستشارية في قسم الطب النفسي التواصلي في مستشفى أدينبروك في كامبريدج: “بعض الأطباء أكثر عرضة للتأثر العاطفي من غيرهم عند إيصال الأخبار السيئة، ربما يكون ذلك لأنهم يعانون من الفقد أو مشاكل نفسية في حياتهم الخاصة، أو إذا كانت تربطهم بالمريض صلة قرابة”.
يحتاج الأطباء إلى أن يكونوا أكثر قدرة على الصمود، ولكن يتطلب -أيضًا- من المؤسسات التي يعملون بها أن تكون داعمة لهم. تواصل برايس قولها: “إذا كان الموقف صعبًا بالنسبة لشخص ما؛ فإننا نأمل أن يستطيع الفريق التدخل لمساعدته، إما بالسماح له بالابتعاد، أو من خلال تزويده بدعم إضافي من أجل القيام بذلك”.
سأكون متفائلةً جدًا إذا قلت إن ذلك ينجح بنسبة 100 في المائة في كل مرة، وأن جميع الفرق تعمل بهذه الطريقة، ولكن أعتقد أن هذا هو المثل الأعلى الذي يجب علينا أن نعمل لتحقيقه. يجب علينا الاعتراف بأن الأطباء هم أناس، أناس مثل مرضانا تمامًا، أناس عرضة للخطأ مثل بقية الناس، لهم نقاط قوة وضعف ويعانون مثل أي إنسان آخر.
وعلى سبيل المثال، توجد خدمات لمساعدة الأطباء في تخطي المشاكل النفسية، ولكن هل من هم بحاجةٍ لمثل تلك الخدمات مستعدون أو قادرون على العثور عليها والاستفادة منها؟!
في إحدى الأوراق البحثية التي تنصح الأطباء المبتدئين بالعناية بصحتهم النفسية حُدِدَت ثلاثة تحديات تواجه الأطباء عند محاولة الحصول على المساعدة الطبية. أولها: وصمة العار، ويشمل ذلك الخوف من أن طلبهم للمساعدة سيضع معرفتهم وخبرتهم في ممارسة الطب محل شك. أما التحدي الثاني فيتمثل في فكرة أن الأطباء ربما يشعرون بأنهم متخاذلون إذا ما احتاجوا إلى إجازة. ويكمن التحدي الأخير في الحواجز التي يضعها الأطباء عند الرغبة في الحصول على الرعاية الطبية. يقول الكاتب: “الأطباء ليسوا مرضى جيدين، عادةً هم لا يتبعون نصائحهم الصحية، يشخصون ويعالجون أنفسهم بأنفسهم ويزورون الطبيب متأخرين بعد الاستشارات العابرة في الممرات وغيرها، وعندما يمرضون، يتردد الأطباء في الغالب في استشارة الطبيب العام حتى إن كان طبيبًا معتمدًا، أو أن يأخذوا إجازة من العمل”.
إضافةً إلى ذلك؛ فإن الأنظمة الصحية بعيدة عن مستوى الكمال، وغالبًا ما تكون الموارد -بما في ذلك الزمان والمكان والأصدقاء وهي العوامل التي يمكن أن توفر حياة عملية صحية أكثر إنتاجية- محدودة جدًا.
سألت عبر تويتر إذا ما كان الأطباء بحاجة، أو بإمكانهم الحصول على الدعم اللازم عند إيصال الأخبار السيئة. لخص لي الإجابة أحد الأطباء الأستراليين بقوله: “لا يجد الطبيب وقتًا للذهاب إلى دورة المياه أثناء العمل في [قسم الطوارئ]، فضلًا عن الحصول على الدعم عند إيصال الأخبار السيئة”.
عند إيصال الأخبار السيئة المتعلقة بمرض مميت، يحتاج العديد من المرضى وعوائلهم كل ما يمكنهم معرفته عن الحالة: الخطط العلاجية، الأدوية، وكم المدة التي سيعيشها المريض، ولكن المعلومات ليست دائمًا متاحة؛ فالدراسات غالبًا ما تكون ما زالت في بدايتها أو قديمة، أو ربما تكون الدراسات قد أجريت على مرضى مختلفين تمامًا عن المريض الجالس أمامك، وبالتالي لا يمكن أن تنطبق عليه نتائج تلك الدراسات. كل شخص مختلف عن الشخص الآخر، لذا فربما يكون هناك قصور في التيقن، في الوقت الذي يكون الناس فيه بحاجة إليه أكثر.
كم تبقى لي في هذه الحياة؟ هذا سؤال مخيف للغاية. لا يقول أي طبيب ممن تحدثت معهم إنهم يعطون مرضاهم أرقامًا حقيقية، وغالبًا ما يفضلون الحديث عما إذا كان الأمر يتعلق بالسنوات أو الأشهر أو الأسابيع أو الأيام، هذا لأن التوقعات المستقبلية -الحكم على مسار المرض أو الحالة- أمر صعب للغاية.
في حين توجد طرق لتقييم الوفاة الوشيكة لبعض الأمراض مثل مريض مصاب بسرطان في مراحله الأخيرة، ولكن ربما يكون من الصعب للغاية تقدير المدة التي سيعيشها المريض المصاب بالهشاشة أو الخرف أو مرض رئوي مزمن. تشير الأبحاث إلى أن الأطباء يميلون إلى المبالغة في تقدير بقاء المرضى الذين يعانون من أمراض قاتلة، ويتوقعون لهم البقاء على قيد الحياة أكثر بخمسة أضعاف مما يعيشونه فعليًا.
يستحيل أن يعطي ستيفن باركلي أرقامًا للمرضى الذين يسألون عن مدة بقائهم على قيد الحياة، ويعزز هذه الممارسة لدى طلاب الطب لديه إذ يقول: “أعلِّم طلابي وبصرامةٍ عدم إعطاء أي أرقام؛ لأن المعلومات غالبًا ما تكون غير متاحة، وإذا كانت المعلومات متاحة؛ فإن معدل البقاء على قيد الحياة وحسب المتوسط. إن 50 في المائة من المرضى يعيشون لفترة أطول و50 في المائة يعيشون أقصر”.
إعطاء الناس تاريخ “محدد” ليس مستحيلاً فعليًا فحسب، بل يمكن أن يكون ضارًا أيضًا. يقول باركلي: “بالتأكيد! كان لدي عدد من المرضى الذين إُخبِروا بأن لديهم ستة أشهر، وعندما تنتهي الستة أشهر يفترضون بأنهم سيموتون اليوم، وهذا يمكن أن يكون صعبًا إذا ما عاشوا أطول. وبالعكس، إذا كان واضحًا أن الأمور تسير بشكل أسرع، فإن وضع تاريخ معين في الذهن يمكن أن يشجع الناس على أن يكون لديهم أمل غير واقعي”.
تتفق، لورا-جين سميث، على أنه يجب عليك اختيار كلماتك بعناية وتقول: “ما أدركته من التحدث إلى المرضى هو أنهم لن ينسوا أبدًا تلك المحادثة، وفي الحقيقة أنهم لا ينسون الكلمات المحددة التي تستخدمها”.
الحكم بالموت: لغة الأخبار السيئة
عند مناقشة الموت، يمكن للكلمات التي نستعملها أن تخبر الكثير. وتقول: “أن تسقط في فخ الرغبة في إخفاء الأمر، والرغبة في عدم استعمال كلمات مثل (سرطان غير قابل للشفاء، قاتل، وغيرها من الأوصاف) بقدر ما أفعل ذلك، كلما أحاول أن أجد طرقًا لأقول أشياء بأكبر قدر ممكن من الوضوح دون أن أكون صريحة وأعتقد أن ذلك أكثر فعالية”.
الكلمات مهمة
أجرت البروفيسورة، إلينا سيمينو، وزملاؤها في جامعة لانكستر دراسة حول كيفية استخدام أنواع معينة من الكلام في الحديث عن نهاية الحياة، فقد أنشأوا مجموعة تضم أكثر من 1.5 مليون كلمة، جُمِعَت من المقابلات والمنتديات الإلكترونية، ويلتقي المرضى ومقدمو الرعاية أو المتخصصون في الرعاية الصحية للتحدث مع نظرائهم.
وجد الباحثون أن الألفاظ المأخوذة من العنف أو الاستعارات الحربية مثل (أحارب مرضي، استمر في القتال) يمكن أن تسلب القوة أو تثبط من عزيمة الأشخاص المصابين بالسرطان، وربما يتطلب جهدًا مستمرًا، أو يشير إلى أن التحول يسير إلى الأسوأ وهو الفشل الشخصي، ولكن في سياقات أخرى، قد تحفز مثل هذه الكلمات بعض الأشخاص، وتساعد شخصًا ما على التعبير عن التصميم أو التضامن، أو تعطي إحساسًا بالقيمة والاعتزاز والهوية.
يقول سيمينو: “لست بحاجة إلى أن تكون لغويًا لمعرفة ما هي الاستعارات التي يستخدمها المريض”، يجب أن يسأل الأطباء: هل هذه الاستعارات تفيد المريض في تلك المرحلة؟ هل هي مفيدة ، وتعطيهم شعورًا بالقيمة أو الهوية والغاية؟ أم أنها تزيد من القلق؟
في حين قد يرغب المرضى وأقاربهم في تأخير أو تجنب المحادثات التي تناقش الموت مباشرة؛ فإن هذا ليس عملًا حميدًا للحفاظ على الذات. أظهرت دراسة -أجريت على أكثر من 1200 مريض مصاب بسرطان غير قابل للعلاج- أن أولئك الذين أجروا محادثات مبكرة حول نهاية الحياة (في هذه الحالة، تحدد بأنها الفترة قبل آخر ثلاثين يومًا من البقاء على قيد الحياة) كان احتمالية تلقيهم لرعاية علاجية مكثفة في أيامهم وأسابيعهم الأخيرة أقل، وشمل ذلك أشياء مثل العلاج الكيميائي في الأسبوعين الأخيرين، والرعاية المشددة في المستشفى أو وحدة العناية المركزة في الشهر الأخير.
هل الأطباء ملزمون بتقديم هذا النوع من المعلومات للمرضى؟ تقول، ديبورا بومان، أستاذ أخلاق الطب الحيوي والأدبيات الإكلينيكية والقانون الطبي في جامعة سانت جورج بجامعة لندن: “تنص إرشادات المجلس الطبي العام بالمملكة المتحدة [GMC] على أنه يجب عليك إخبار المريض بكل ما يريد معرفته؛ يجب أن تكون صادقًا وتخبره بكل ما يحدث”.
تقول بومان: “الطريقة التي تُدَرَس وتُفَهَم بها الأخلاق المعاصرة، تعد نوعًا مختلفًا من المعرفة والخبرات؛ فربما تكون خبيرًا في العلاج الإشعاعي، لكن المريض هو الخبير في كل ما يتعلق بحياته والأشياء التي يفضلها والقيم التي يتبناها وما إلى ذلك”.
في حين أن للمرضى الحق أن يعرفوا، فإن لهم الحق أيضًا في عدم المعرفة. نظر ستيفن باركلي وفريقه البحثي في توقيت المحادثات حول الموت مع مرضى يعانون من أمراض مثل ضعف القلب والخرف واضطراب الرئة الانسدادي المزمن.
ويقول: “هناك نسبة كبيرة من المرضى الذين يبدو أنهم لا يرغبون في الحديث المباشر والمبكر، والبعض منهم لا يرغب في التحدث في الأمر على الإطلاق”.
يحذر باركلي من أن الدافع وراء ما يسمى بـ “الإجراء المهني” -والذي يتمثل في التحدث مع المريض عن الموت بطريقة شفافة ومباشرة- يمكن أن يؤدي بالأطباء إلى وضع أنفسهم في مراكز الرعاية بدلًا من مرضاهم. ويقول إنه لا يوجد منهج واحد يناسب الجميع، يكمن الأمر في تخيير المريض ما إذا كان يرغب بالتحدث عن الأمر بدلًا من التحدث معه كإجراء روتيني إلزامي.
بالنسبة لكاثرين سليمان ماذا وكيف تخبر المريض المصاب بمرض قاتل، وكل ما له صلة بحالته أمر مهم للغاية، وتعتقد أن من خلال التحدث مع المريض بصراحة وصدق يساعد الأطباء وطاقم التمريض في معرفة ما يفضله المريض مثل: أين يريدون الموت، ومستوى التدخل الطبي الذي يفضلونه إذا انقطع التنفس أو تعرضوا لسكتة قلبية.
لا يقتصر الأمر على الرعاية الطبية فقط؛ فربما تكون الأشياء الأخيرة التي يرغب بفعلها شخص ما صغيرة جدًا مثل كتابة رسالة أو تحويل أمواله من حساب مصرفي إلى آخر لتغطية تكاليف جنازته، ولكن إذا لم نخبره بأنه سيموت قريبًا؛ فإننا نحرمه من فرصة أخيرة لممارسة السيطرة على حياته الخاصة.
يمكن للتواصل الفعال أن يزيد الأمل. تستشهد سليمان بدراسةٍ صغيرة أجريت على مرضى يعانون من أمراض الكلى في مراحلها الأخيرة. وجد الباحثون أن إعطاء الكثير من المعلومات في وقت مبكر عن المرض يمكن أن يزيد من الأمل لدى المريض بدلًا من أن يُطفِئَه، وكتب الباحثون أنه “عند توفير المعلومات بشأن التوقعات المستقبلية، ستبرز مخاطر جديدة، ولكن بدلًا من القضاء على الأمل؛ فإنها ستعطي فرصة لإعادة تشكيل الآمال وجعلها أكثر اتساقًا مع المستقبل”.
يقول باركلي: “الخوف الكبير هو أننا سندمر الأمل من خلال إجراء مثل هذه المحادثات. هناك قاعدة أدلة جيدة بالفعل تثبت أن الأحاديث الحساسة والصحية التي يقودها المريض قد تدمر الأمل غير الواقعي، لكنها تولد أملًا واقعيًا”.
إن الأمل غير الواقعي غير مفيد في نهاية المطاف -كما يقول- لأنه لن يتحقق أبدًا. يتذكر أحد المرضى المصابين بسرطان متقدم قال له إن عائلته كانت تخطط لاصطحابه في عطلة شاطئية فاخرة في غضون ستة أشهر؛ فأجابه باركلي: هل يمكنكم أن تذهبوا لقضاء العطلة في وقت أقرب وربما الأفضل قضاء العطلة في المملكة المتحدة؟ كانوا يدونون ما كنت أقوله، قضوا عطلتهم في البلد في الشهر التالي، وأمضوا وقتًا جميلًا مع بعضهم”. بعد شهرين، توفي المريض.
على الرغم من أن تشخيص والدي أجري له قبل 21 عامًا تقريبًا، إلا أن والدتي تتذكر رد فعله بوضوح. “توجه أبي إليَّ وقال: حسنًا! كانت حياتي جيدة، حياة سعيدة جدًا”. كان مترددًا في إجراء العملية التي قد تطيل عمره لكن دون أن تنقذ حياته.
أتذكره جيدًا عندما قدم إلى المنزل من المستشفى بعد فترة وجيزة للراحة قبل إجراء العملية، اشترينا له لفائف التفاح، وكعكته المفضلة، لكنها ظلت غير مأكولة. كان أبي مستندًا على السرير، يكتب قائمة من الأشياء التي ينوي القيام بها. اتصل هاتفيًا بجاره ودعاه إلى أخذ الأدوات التي أرادها من المرآب الخاص بنا، وقرأ رسالة أرسلها صديق قديم وبكى وكانت تلك الدموع الوحيدة التي تتذكرها أمي.
وبعد يومين، قبل الموعد المقرر، أُعيد إلى المستشفى، ولم يعد إلى البيت مرة أخرى. لكن الوقت القصير الذي عاش فيه -وهو يعرف أنه مريض بمرض قاتل- أعطاه الفرصة ليقول وداعًا، ومنحنا فرصة توديعه نحن أيضًا.
بقلم: كريسي جايلز | ترجمة: شيخة الجساسية | تدقيق الترجمة: زيانة الرقيشية | تدقيق لغوي: محمد الشبراوي | المصدر