لِمَ يَفوقُ الإنصافُ المساواةَ أهميةً؟

ثلاث طرق فلسفية للتفكر في العدل


فرّق مارتن لوثر كينج في خطبة ألقاها عام 1956 بين السلام السلبي (غياب التوتر) والسلام الإيجابي (حضور العدل)؛ والمنطقي أن السلام الدائم لا يكون إلا سلامًا إيجابيًا. ولكن عندما نتفكر في المعنى المحتمل للـ”عدل”، وبصفة خاصة العدالة الاقتصادية (عدالة الثروة والدخل)، نلاحظ تنافرًا بين النظرية والتطبيق.

نظريًا، أكثر مفاهيم العدل تأثيرًا قائمة على مفهوم المساواة بين البشر، الذي بمقتضاه تلعب المساواة دورًا محوريًا. ولكن في النطاق التطبيقي، تظهر الأبحاث أن الناس لا يهتمون بالمساواة قدر اهتمامهم بالإنصاف. في حين أننا نعبّر عادة عن الإنصاف بموجب مفهوم “الجزاء العادل”، أحال أغلب المنظّرين هذا المفهوم إلى مكبّ النصوص الفلسفية لأنه مفهوم يصعب قياسه تحديدًا.

تمنحنا الأبحاث الحديثة بعض الأمل: هناك طريقة لفهم الإنصاف، مما قد يقودنا نحو وجهة أكثر أمانًا في الطريق إلى السلام الإيجابي.

لا يضرّ انعدام المساواة الفئاتَ الأكثر حظًا

لنتخيل على سبيل المثال أنك تقسّم كعك يوم ميلادك. قد يكون تقسيم الكعك بالتساوي هو التوزيع المنصف في هذه الحالة؛ ولكن غالبًا ما ينتهي بنا المطاف إلى توزيعات غير متساوية ولكنها منصفة (للكعك وغيره من الخيرات).

ولعل أكثر النظريات المعاصرة عن العدالة تأثيرًا نظريةُ جون رولز. فمبدأه القائم على المساواة في تنظيم الثروة والدخل يقتضي تقسيم جميع خيرات المجتمع بالتساوي؛ ما لم يكن التوزيع غير المتساوي يصبّ في مصلحة الأقل حظًا.

قد نختلف مع هذا المبدأ لأننا عادة ما نستفيد من عدة عوامل طارئة؛ كأن نكون قد ولدنا بمواهب نادرة في أسرة ميسورة أو فئة ثرية أو دولة مزدهرة.

ولكن كأفراد من المجموعة الأقل حظًا، سنجد مبدأ رولز مبررًا، فنحن لا نعرف أين ومتى وكيف سنولد. وهذا يوضح لنا سبب جاذبية وتأثير المبدأ القائم على المساواة نظريًا.

نحن لا نثمّن المساواة في حدّ ذاتها

ويعد تعريف أوجه عدم المساواة الصارخة بين الأفراد والمجموعات والدول كسبب جوهري، نهجًا معياريًا موحدًا لدراسة المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وعادة ما يكون الحل إعادة توزيع نحو نتائج تتسم بالمساواة بصورة أكبر؛ ولكن الأبحاث الحديثة في الفلسفة وعلم النفس وغيرها تشكك في حكمة هذه الحلول.

أولًا، هل تثمّن المساواة في حد ذاتها؟ فكِّر في مجتمع يحصل فيه الجميع على قدرٍ متساوٍ ولكنه غير كاف. لن يثمّن هذا أكثر من مجتمع يعاني من فروقات كبيرة، وهناك ما يكفي الجميع. وزيادة على ذلك، فإننا نعترض أكثر على عدم إنصافنا في الفرص، أكثر من عدم حصولنا على قدرٍ متساو. وبالتالي، فإن حدّ التوزيع على الحصص المتساوية أو على حصص غير مساوية تصب في مصلحة الأقل حظًا، بغض النظر عن بذلنا وعملنا الشاق، يبدو غير عادل.

ومما يثير الاهتمام، أن الأبحاث الحديثة ربطت بين أنماط التصويت الشعبوي في الانتخابات (في الولايات المتحدة عام 2016، وفي فرنسا والاتحاد الأوروبي عام 2019) وبين الإجحاف الاقتصادي الذي يقاس بضعف الحراك الاجتماعي. وكتب متخصصان في الاقتصاد أن الناس ينزلون إلى الشوارع، لا لأنهم يملكون أقل من غيرهم بل لأنهم يريدون فرصًا منصفة. إن كانت عدالة التوزيع مزيجًا من الفرص المتساوية والمكافأة المنصفة للموهبة والجهد، فأغلب الأمر أن النتائج المحققة لن تكون متساوية.

وهذا التصور للتوزيع الاقتصادي المنصف ليس جديدًا، ولكن يبدو أنه أعيد النظر فيه مؤخرًا بصورة إيجابية، فهذا التصور يروج لمبدأ الاستحقاق عوضًا عن المساواة.

وصاغ مايكل يونج مفهوم مبدأ الاستحقاق عام 1958، وهو عضو في حزب العمال في المملكة المتحدة، ورئيس مكتب البحث في الحزب. ففي مجتمع مبني على مبدأ الاستحقاق فإن الحالة الاجتماعية تُحدد بـ “الكفاءة”، النابعة من مزيج من الذكاء والجهد اللذين يقودان إلى إسهامات اجتماعية ملموسة.

الجدارة – فرصة عادلة ولكن حرمان غير عادل.

انولكن يونج كان ناقدًا لمبدأ الاستحقاق، فقد كان ينظر إليه على أنه نظام سياسي يتسم بضعف الارتقاء الاجتماعي؛ والأسوأ من ذلك أنه يعطى انطباعًا بالإنصاف.

 إنصاف التوزيع عند استخدام الجزاء العادل

إن كنا نريد فرصًا منصفة دون عقبات غير منصفة، إذن فلا يمكن أن يكمن الجواب في مبدأ الاستحقاق. فالذكاء وراثي، إلى حد ما على الأقل، والقدرة على العمل الشاق أيضًا وراثية جزئيًا؛ كما أنها تنتج من توقعات أسرية واجتماعية محددة.

وعليه فإن نفس المجموعات من الأفراد سينتهي بهم المطاف دائمًا في أعلى السلم الاجتماعي. ولا يمكن أن يكون هذا عادلًا، فهؤلاء الواقعون في أسفل السلم يتعرضون لإجحاف غير منصف. ومن المثير رؤية أن السؤال الذي يطرح غالبًا عن عدالة عدة أوجه في المجتمع يطرح من ناحية ما هو “مستحق”.

وعلى سبيل المثال، يمكننا انتقاد مبدأ الاستحقاق وأن نحاول أن نحدد عوضًا عن ذلك من الذي يحصل فعلًا على ما يستحقه. يمكن أن نرى أن نظامًا ما منصفًا (مثلًا أن يحصل خط المواجهة الأمامي في خدمة الصحة الوطنية على علاوة)، بما أن ذلك مستحق.

ولا يجب لهذا أن ينطبق فقط على التوزيع المنصف. فالقرار غير المنصف في المحاكم يمكن أن يُطعن فيه بدعوى أن الضحايا لم ينالوا جزاءهم العادل.

نستمر باستخدام “الجزاء” كمفهوم بنّاء وفعّال على الرغم من أن براين باري، أحد أهم علماء السياسة البريطانيين في القرن العشرين، قال بأن المفهوم سيندثر في الستينيات. وعندما صاغ راولز نظريته القائمة على المساواة والمناهضة لمبدأ الجزاء عام 1971 بدا أن باري قد أصاب في توقعه.

والمشكلة مع نظرية التوزيع القائمة على مفهوم الجزاء هي معرفة من يستحق ماذا بالتحديد – ما نتيجة التصرفات المسؤولة المنسوبة إلينا عوضًا عن الهبات الطبيعية والظروف الاجتماعية. فقد يبدو فصل الجزاء العادل عن امتيازاتنا أو عيوبنا غير المنصفة مستحيلًا.

ولكن هناك طريقة واحدة يمكن أن تبدو أكثر منطقية؛ وهذه الطريقة التي اقترحها جون رومر في عمله حول الفرص المنصفة و تطبيقها للإجابة على التساؤل عن كيفية التيقن من الجزاء.

ولنقل أنه، لنوع واحد من الإنجاز، هناك عاملان هما الأكثر تأثيرًا على الأداء وهذان العاملان هما جودة التعليم ومعدل الذكاء. يمكننا إذن جمع أولئك المتأثرين بنفس العوامل؛ كأن تتشكل مجموعة واحدة على سبيل المثال من أولئك الحاصلين على تعليم أفضل ولكن معدلات ذكائهم منخفضة أكثر.

يمكننا بعد ذلك تقييم نسبية الجزاء بتقييم الأداء في كل مجموعة من المجموعات الأربع. وستظهر لنا مقارنة المجموعات من الأكثر استحقاقًا. قد ينجز شخص في المجموعة التي تضم الحاصلين على تعليم أفضل ومعدلات ذكائهم أعلى إنجازًا يفوق إنجاز شخص آخر في مجموعة أخرى؛ ولكن إن فاق إنجاز الشخصِ الآخر الشخص الأول فإذن نفضي أن هذا الشخص الثاني أكثر استحقاقًا.

يجب أن توزع بعض الخيرات بهذه الطريقة

للتأكد من تحقيق الجزاء العادل بهذه الطريقة، نحتاج إلى الاعتماد على النظريات القائمة على التجربة والتي تحدد أهم العوامل التي تؤثر على الأداء. وبناء على مستوى تقدم مثل هذه النظريات قد ينتهي بنا المطاف إلى استنتاجات غير دقيقة.

تؤثر بعض الخيرات بشكل أساسي على حياة الإنسان (كالرعاية الصحية)، ونريد أن نتجنب سوء توزيع هذه الخيرات، وبالتالي سنوزعهن بناء على الحاجة.

حتى وإن تحققنا من دقة جزاء الشخص، فما تزال هناك حالات يبدو فيها نوع التوزيع هذا غير مستحسن. فكر في التوظيف مثلًا؛ يجب أن نسعى لتوظيف أفضل جرّاح أعصاب، حتى وإن لم يمكن نسب فضل موهبته وجهده كليًا له.

خدمات الصحة والتعليم الجيد ضروريان لتكافئ الفرص، ويجب أن يكونا من ضمن الخيرات المتوفرة للجميع. ولكن تجاهل الجزاء لجميع الخيرات يفصل التوزيع الكلي للحصص عمّا نفعله بمسؤولية. وثم علينا على الأقل توزيع بعض الخيرات المعتبرة (كالعلاوات مثلًا) بناء على الجزاء العادل كليًا. وستكون هذه آلية جيدة لتعزيز فرص الارتقاء المجتمعي.

الإنصاف مهم: يؤدي التمييز المجحف والممنهج إلى زيادة النزاعات والتوتر في المجتمعات وفي المجتمع الدولي. وهناك رابط مهم بين الإنصاف والمسؤولية والمحاسبة. لذا يجب أن ينطوي الطريق قدمًا على نظرية توزيع عادل تأخذ أمر الجزاء في الحسبان.

بقلم: سورين باياسو | ترجمة: آلاء الخليليلة | تدقيق: لمياء العريمية | المصدر

Exit mobile version