في نوفمبر 1914م، ألقى برنارد بوسانكيه وهو أحد عمالقة المذهب المثالي البريطاني الكلمةَ الافتتاحيةَ للدورة السادسة والثلاثين لجمعية أرسطو بعنوان “العلم والفلسفة”. وقد كان ناقدًا لكتاب برتراند رسل الأسطوري “معرفتنا بالعالم الخارجي” (1914م) والذي سعى فيه رَسل إلى صياغة طريقة “علمية” جديدة لفلسفة جعلت التحليل المنطقي للمقترحات أمرًا أساسيًّا. حيث سيوضح هذا النمط المتمركز حول المنطق ما يُعرف في الوقت الحالي باسم الفلسفة التحليلية.
وكانت دعوى بوسانكيه الافتتاحية على منهجية رسل سياسية على نحوٍ مفاجئٍ. حيث وضَّح أن المنهجية “العلمية” ستجعل من الفلسفة “عالمية الطابع وخالية من الصفات القومية الخاصة” بصورة حتمية. لا يمكن لفلسفة رسل أن ترمز لشعب ما أو تميزه وهنا تكمن المشكلة لدى بوساناكيه، ذلك لأن المنطق والعلم بشكل عام لا يحترمان أي حدود سياسية أو ثقافية. فقد قال “مثل الفلسفة كمثل اللغة والفن والشعر، هي نتاج المرء الناضج، فمتى ما فقدت جودتها الوطنية، فقدت شيئًا من جوهرها”؛ فللبريطانيين المثالية التي تميزهم، وكذلك الحال بالنسبة للألمان.
ولم تكن العالمية التي اعتقد بوساناكيه أنها ضمن منهجية رسل الفلسفية وهمًا. قبل أسبوعين من هجوم بوساناكيه على الجمعية، ألقى رسل محاضرة في أُكسفورد ستُنشر تحت عنوان “الطريقة العلمية في الفلسفة”. ويُشار إليها اليوم على أنها نموذجٌ للتسلح بالتحليل المنطقي، كما أنها أعادت إلى حد كبير وبصورة أكثر وضوحًا النظرة المنهجية لمعرفتنا. لم يكن مقال رسل سياسيًّا علنيًّا؛ فقد أخبر رسل أحد زملائه على انفراد أن الحديث “كان مستوحى جزئيًّا من الاشمئزاز من ثورة “الاستقامة” العالمية في جميع الدول منذ اندلاع الحرب. حيث يبدو أن جوهر الفضيلة هو الاضطهاد، وقد سبب لي نفورًا من جميع المفاهيم الأخلاقية التي من الواضح أنها مفيدة بشكل رئيسي بوصفها ذريعةً للقتل”. كما وصف رسل المحاضرة لزميل آخر على أنها “مستَلهمَة من تعطش الأساتذة للدماء هنا وفي ألمانيا. قدّمتُها في أكسفورد، وقد أوصلتُ معنى الاشمئزاز الذي كنتُ آمله”.
قد يبدو من الغريب أن نجد رسل يتحدث عن الحرب والقتل في محاضرة عن المنهجية الفلسفية؛ ولكن يمكن للمرء أن يرى هذه المخاوف الناشئة مباشرة في جزء واحد من المحاضرة نفسها على الأقل. لقد رسم رسل تناقضًا بين منهجيته العلمية الخاصة ومنهجية أولئك الذين يدمجون عنصرًا أخلاقيًا قويًا في فلسفتهم، مشبهًا هذا الأخير بـ The Grand Augur، وهي شخصية من قصة نسبها إلى الفيلسوف الصيني Chuang Tzu. يقدم Grand Augur حجة من الواضحِ أنها لمصلحة ذبح بعض الخنازير: يجب أن تكون هذه الحيوانات ممتنة لذبحها لأنه من “المشرّف” دائمًا أن “تموت على درع حرب”. لقد كان اقتراح رسل هو أن الفلسفة الأخلاقية تقدم أكثر من مجرد حجة تنصَبّ مصالحها لتبرير العنف القومي، والأكثر من ذلك أن رسل كان قد اتّخذ بوسانكيه نفسه مثالًا على نوع من إضفاء الطابع الأخلاقي على الميتافيزيقيا التي كان ينوي إنكارها. أشار رسل – بشكل سري – إلى المقال باسم “الفلاسفة والخنازير”.
تبدأ المخاوف السياسية في اللعب بشكل منطقي عندما يأخذ المرء في الحسبان توقيت كل ما يحدث. حيث وصل هجوم بوسانكيه وسط الزلزال والذي كان دخول بريطانيا للحرب العظمى. لم يهز الزلزال الجنود في ساحة المعركة فقط بل هز المفكرين أيضًا، وسيغير دائمًا اتجاه المساعي المجردة التي قد تبدو بعيدة جدًا عن اهتمامات الحرب مثل نظرية المعرفة والميتافزيقيا. كانت القومية هي الشرارة الحاسمة للعنف بالنسبة لرسل، كما أنه عدَّ الفلسفة العلمية أداة لمعارضتها.
في الوقت الذي أُلقي فيه خطاب بوسانكيه لجمعية أرسطو، نُشِرت نظريته الفلسفية للدولة (1988) في نسختها الثانية. غالبا ما ينظر إلى هذا العمل على أنه ذروة الفلسفة السياسية المثالية. بالنسبة لبوسانكيه كانت “الدولة القومية” هي “المجتمع الأعلى” والمصدر النهائي للسلطة. وقد ادعى أن “العلاقات الأخلاقية تستلزم حياة منظمة”، ولا تكون الحياة منظمة إلا في المجتمع الوطني. وقد يُنتَقَد هذا النهج خلال الحرب العالمية الأولى لأنه يجعل من العلاقات الدولية مسألة فوضى، كما أن الدعوة المثالية لدولة قوية عُدَّ بمثابة دعم ضمني لكل من العدوانية الألمانية خلال الحرب ودخول بريطانيا إليها.
انضمت بريطانيا إلى الحرب قبل أربعة أشهر من هجوم بوسانكيه على رسل، وكان لا مفر من السياسة في جمعية أرسطو. كان رئيس الجمعية في ذلك العام هو آرثر بلفور، رئيس الوزراء السابق، والمساهم الدائم في المجلات الفلسفية مثل مجلة العقل. سرعان ما أصبح بلفور وزير خارجية بريطانيا، وهو المنصب الذي شغله طوال الفترة المتبقية من الحرب. وفي الوقت نفسه، كان رسل بالفعل مرتبطًا علنًا بالدفع نحو الحياد البريطاني. بعد عودته مباشرة من جامعة هارڤرد في صيف عام 1914 شرع في جمع توقيعات أكثر من ستين شخصًا من السادة في جامعة كامبريدج في رسالة تحث بريطانيا على الابتعاد عن الحرب. نُشرت الرسالة في 3 أغسطس وهي تشكل النداء الوحيد المعروف من جانب الأكاديميين.
في اليوم التالي اندلعت الحرب في المملكة المتحدة، وبحلول نهاية الأسبوع أقرّ مجلس العموم قانون الدفاع عن العالم (DORA) وهو ما أعطى الحكومة صلاحيات واسعة في زمن الحرب – بما في ذلك الرقابة. في عام 1916 فُصِلَ رسل من منصبه في كلية ترينيتي – كامبريدج بعد إدانته بقانون الدفاع عن العالم (ويرجع الفضل في ذلك جزئيًا إلى المثاليّ البريطاني جون ماك تاگرت الذي قاد حملة أخرى في الجامعة). قضى رسل ستة أشهر في السجن بسبب إفصاحه عن سلميَّته علنًا.
انتقد المؤرخون الحديثون الفلسفة التحليلية للانفصال عن الشؤون العامة خلال القرن العشرين الطويل. كما اتُّهِم بعض من كبار داعميها مثل ويلارد ڤان كوين بأنهم أحاطوا أنفسهم بمنهجية أطلقوا عليها أنها غير سياسية، خاصة خلال الفترات التي كان فيها الأكاديميون يتعرضون للهجوم بسبب التعاطف اليساري المزعوم، كما هو الحال خلال عهد جوزيف مكارثي. حتى أن أحد النقاد البارزين (الفيلسوف جون ماكمبر) قد أوضح أنه منذ أن كانت المشاعر المعادية لألمانيا في بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى تشبه في المخلفات اللاعقلانية المشاعر المعادية للشيوعية خلال سنوات مكارثي في الولايات المتحدة، كان تأسيس الفلسفة التحليلية نفسه ملوثًا أيضًا بهدوء خدمة المصالح الذاتية السياسية – و رسل أيضًا – .
لكن في الحقيقة، يعيد هذا الأمور إلى الوراء تمامًا. كان احتجاج رسل المناهض للحرب واسع النطاق لدرجة أنه كان سيكلفه وظيفته وحريته الشخصية لبعض الوقت. كان علاجه النظري للنقد المتعصب غير العقلاني بين الدول الأوروبية هو محاولة إظهار كيف يمكن للمنطق أن يعمل كلغة دولية يمكن استخدامها بنزاهة وحيوية للفصل بين النزاعات. بعبارة أخرى، كان علاجه النظري هو الفلسفة التحليلية.
“الحقيقة كيفما كانت هي نفسها في إنگلترا وفرنسا وألمانيا … هي في جوهرها محايدة”
مرة أخرى يصبح التناقض لدى بوسانكيه ذا جدوى وذلك في مقطع من النظرية الفلسفية للدولة، والتي من شأنها أن تنذر بهجومه اللاحق على رسل، حيث انتقد بوسانكيه “فكرة اللغة العالمية” والتي بعدِّها “بديلًا عن اللغات الوطنية، … تشير إلى مستوى منخفض من الإدراك لا يناسبُ كل عقل قومي حقيقي، وإلى تدمير الأدب والشعر”. لم يكن رسل ينوي أن يصبح المنطق لغة الأدب والشعر، ناهيك عن تدمير تلك الممارسات. لكنه إلى حد كبير، كان يقصد منهجيته “العلمية” لتدمير مفهوم الفلسفة تعبيرًا عن “العقل القومي”.
إن العلاقة بين معاداة رسل لمناهضة القومية وفلسفته المجازية تظهر بشكل حاد في كتاباته السياسية للعَصر. في إبريل 1915، كان يعارض مرة أخرى الدور الذي كان يلعبه الفلاسفة في تعزيز القومية:
يكتب لايبنيز لمراسلٍ فرنسي في وقت كانت فيه فرنسا وهانوڤر في حالة حرب متحدِّثًا عن “هذه الحرب التي لا تهتم بها الفلسفة”. … لقد تجاوزنا تلك الأيام كثيرًا. في الوقت الحالي، يتعهد الفلاسفة والأساتذة والمفكرون عمومًا برضا تام بتزويد حكوماتهم بتلك التحريفات العبقرية وتلك الكذبة الدقيقة التي يُظهَر بها أن كل الخير في جانب واحد وأن الشر من الجهة الأخرى … لا يسعني إلا التفكير بأن رجال المعرفة فقدوا فرصة خدمة للبشرية بتقديم توجيه يليق بهم؛ وذلك لأنهم سمحوا للتحيّز بتغيير أفكارهم وأقوالهم. الحقيقة أينما كانت هي نفسها في إنگلترا وفرنسا وألمانيا وروسيا والنمسا، لن تتكيف مع الاحتياجات الوطنية: فهي في جوهرها محايدة.
واليوم مع انتكاسة القومية، أصبحنا في وضع جيد لنقدّر أن إصرار رسل على حياد الحقيقة لم يكن مجرد تفاهة. ربما لم يقطع المثاليون في عصره شوطًا بعيدًا لإنكار حياد الحقيقة تمامًا، لكنهم بالتأكيد رأوا التميز الفلسفي العام مرتبطًا بشكل واضح بالجنسية. بالنسبة إلى رأي بوسانكيه وحلفائه، لم تكن المثالية البريطانية تحاول الوصول إلى الحقيقة فحسب بل هدفت إلى التعبير عن الشخصية الوطنية للشعب البريطاني.
غالبًا ما يُنظر إلى رسل على أنه شخص يريد التخلص من فلسفة “الأخلاق”؛ لكنه دعا إلى حظر “الأخلاق” تحت وصف محدد وضيق لذلك المشروع، كما أنه وصف صدى واضح لسياساته المعادية للقومية. قارن الاقتباس أعلاه من العدل في زمن الحرب (1916) مع هذا المقطع من كتابه الفلسفي العلني “على الطريقة العلمية في الفلسفة” (1914):
الأخلاق هي في الأساس نتاج الغريزة الاجتماعية، أي الغريزة للتعاون مع أولئك الذين سيشكلون مجموعتنا ضد أولئك الذين ينتمون إلى مجموعات أخرى. الذين ينتمون إلى مجموعتنا هم جيدون لكن الذين ينتمون إلى مجموعات معادية هم أشرار. والغايات التي تسعى إليها مجموعتنا هي أهداف مرغوبة، بينما الغايات التي تسعى إليها الجماعات المعادية شنيعة. إن ذاتية هذه الحالة ليست واضحة للحيوان الإقطاعي الذي يشعر أن المبادئ العامة للعدالة تقف إلى جانب قطيعها. عندما يصل الحيوان إلى كرامة الميتافزيقيا فإنه يخترع الأخلاق تجسيدًا لإيمانه بعدالة قطيعه.
أنشأ رسل في الواقع نظرياته الأخلاقية، وأكثر ما كان يرفضه هو النوع المحدد من النهج المجتمعي للقيمة التي دعا إليها الهيغليون الجدد مثل بوسانكيه، وهو نهج رآه رسل على أنه يدعم المشاعر القومية التي انفجرت للتو في حربٍ عالمية.
لم تكن المثالية الشكل الوحيد للميتافزيقيا التي عدها رسل مواتية للقومية. كما سعى وراء الفيلسوف الفرنسي هنري بيرغسون، وكذلك البراغماتيين في الولايات المتحدة – وكلاهما أهداف مألوفة بالنسبة له. هاجم رسل بيرغسون في سلسلة من المحادثات في ربيع عام 1913، والتي جُمِعت مع عدة ردود في كتاب صغير في نفس الوقت تقريبًا مع كتابه “معرفتنا”. بينما كان رسل مهتمًا في الغالب بتفاصيل النظام الميتافزيقي في بيرغسون، فقد أوضح مخاوفه السياسية الأساسية في البداية. لقد صوّر بيرغسون على أنه يرى “العمل” الناجح بدلًا من “الفهم” النظري هدفًا نهائيًّا للفلسفة، وهذا التأكيد على العمل يؤدي حتمًا إلى “الإمبريالية”.
سيصبح برغسون واحدًا من أهم المثقفين الفرنسيين بحجة المشاركة العسكرية في الحرب العظمى. في الواقع بعد أسبوعين من إدانة بوسانكيه لنظرية رسل الكونية، أعطى بيرغسون العنوان الرئيسي لأكاديمية العلوم الأخلاق والسياسة التي تُرجِمت ونُشِرَت بسرعة باللغة الإنجليزية باسم معنى الحرب (1915). إن عدوانية بيرغسون – في تناقض مع دعوة راسل للحياد البريطاني – وتظهر بوضوح في هذه السطور من فقرتي الافتتاح والختام، على التوالي:
هناك أشكال من الغضب -من خلال الفهم الشامل لأهدافها- تستمد القوة للحفاظ على نشاطها وتجديده. غضبنا من هذا النوع. علينا فقط فصل المعنى الداخلي لهذه الحرب، وسوف يزداد رعبنا لمن صنعوها. إضافة إلى أنه لا شيء أسهل من ذلك. يكفي القليل من التاريخ والقليل من الفلسفة.
إلى القوة التي تتغذى فقط على وحشيتها، نحن نعارض ما يسعى دون مبدأ الحياة والتجديد. في حين أن الواحد ينفق نفسه تدريجيًا، فإن الآخر يعيد تشكيل نفسه باستمرار. واحد يتذبذب بالفعل، والآخر لا يتزعزع. لا خوف، قوتنا ستقضي على قوتهم.
كثيرًا ما ادعى المدافعون عن بوسانكيه أنه من الخطأ فهم أن عمله النظري يبرر القومية بالفعل، ولا أعرف أي دليل على أنه عزز بنشاط العسكرية. لكن بيرغسون كان صريحًا للغاية في تقديم نداءات عاطفية وفلسفية لدعم العمل العسكري المتحالف خلال الحرب العظمى، وبطريقة تساعد على فهم وصف راسل لبعض أساتذة الفلسفة على أنهم “متعطشون للدماء”. في فبراير 1917م، أرسلت الحكومة الفرنسية بيرغسون للضغط شخصيًا على الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون لجعل الأمريكيين ينضمون إلى المجهود الحربي. كان القرار البريطاني بالانضمام إلى الحرب حسابًا مختلفًا تمامًا عما واجهته فرنسا.
ولم يكن قرار بريطانيا بالانضمام للحرب أساسًا في حسبان فرنسا
لا أريد أن أصرّح أن رسل كانت لديه العدالة الصالحة بأكملها إلى جانبه، و برغسون كل الشر؛ لكن من الجيد أن نتذكر أن فرنسا واجهت مجموعة مختلفة تمامًا من المخاوف عند دخول الحرب، حيث تشترك في حدود ما يقرب من 450 كم (280 ميل) مع ألمانيا. كانت الجزر البريطانية –بطبيعة الحال- معزولة بالمياه من الصراع القارّي، وبالنسبة للعديد من المحايدين، كانت الدولة تكسب القليل من إرسال الجنود.
ولكن في 3 أغسطس 1914م، وهو اليوم الذي نُشرت فيه رسالة رسل الموقعة التي تدعو إلى الحياد، أصبح الحساب البريطاني فجأة أكثر تعقيدًا. أعلن الألمان الحرب على فرنسا وأعلنوا عزمهم على مهاجمة بلجيكا، التي ضمنت لها بريطانيا حيادها منذ معاهدة لندن عام 1839م. بدأت مسيرة الألمان في بلجيكا اليوم التالي، ودخل البريطانيون الحرب في غضون ساعات، سعيًا لاحترام المعاهدة وحماية الموانئ البلجيكية الموجودة مباشرة عبر القناة الإنجليزية. لذا فإن القرار البريطاني بالانضمام إلى الحرب لم يكن غير منطقي ولا مبرر، لكنه لم يكن في حسبان فرنسا.
ومع ذلك فإن دفاع رسل المستمر عن الحياد يسلط الضوء على ميله إلى البحث عن حلول سلمية حتى لأكثر المشاكل الدولية فظاعة. وهذا يقودنا إلى البراغماتية حيث انتقد رسل نظرية البراغماتية للحقيقة، وغالبًا ما استخدم البراغماتية رقائق لأسلوبه التحليلي الخاص. لكن علاقته بالتقاليد الأميركية هي مسألة أكثر تعقيدًا مما قُدِّر بشكل عام. لسبب واحد، فإن السلالة المميزة للسلمية التي طورها رسل خلال الحرب العالمية الأولى قد تأثرت بشكل مباشر بويليم جيمس، أحد المهندسين المعماريين الرئيسيين في البراغماتية. قبل وفاته بفترة وجيزة في عام 1910م، ألقى جيمس عنوانين عن التهدئة أثار إعجاب رسل كثيرًا، بعنوان “ملاحظات في مأدبة السلام” و “المعادل الأخلاقي للحرب”. لم تُبنى سلمية جيمس على التفاؤل غير الواقعي، بل على اعتراف صريح بالعطش الإنساني للعنف:
الحقيقة الواضحة هي أن الناس يريدون الحرب. يريدونها على أية حال -لذاتها- وبصرف النظر عن كل نتيجة ممكنة. إنها الباقة النهائية للألعاب النارية في الحياة. الجنود الجدد يريدونها ساخنة وفعلية، وغير المقاتلين يريدون ذلك في الخلفية، وإمكانية مفتوحة دائمًا، لإثارة الخيال واستمرار الإثارة.
اقترح جيمس تحويل العاطفة الإنسانية للعنف بعيدًا عن البشر. بدلاً من تجنيد الشباب في الكتائب، ودعا إلى تشكيل “جيش مجند ضد الطبيعة” أو شيء من هذا القبيل ما سيصبح سلاح الخدمة الوطنية. على الرغم من أن رسل لم يجد هذا الحل مرضيًا تمامًا، إلا أنه سيقول لاحقًا في “لماذا يحارب الرجال” (1917) أنه “لا يمكن تحسين تصريح جيمس للمشكلة؛ وحسب معرفتي فهو الكاتب الوحيد الذي واجه المشكلة بشكل ملائم”.
لم ير جيمس الحرب العظمى، لكنه جاء من تقاليد الأسرة التقدمية الأمريكية التي كانت تميل إلى حد كبير إلى العالمية والروح الدولية “الراديكالية” لأسلاف رسل، كما يطلق عليها في كثير من الأحيان في المملكة المتحدة. بعد ثلاثين عامًا من عمر رسل نشأت سِلميّة جيمس من مخاوفٍ بشأن التوسع الأمريكي على وجه الخصوص. كان كثيرا ما يعبر عن هذه المخاوف بلغة معاداة القومية التي كان لها صدى عميق مع شخص مثل رسل. تأمل هذا المقطع من “عنوان جيمس حول مسألة الفلبين” (1903) الذي ألقاه جيمس في الاجتماع السنوي الخامس للرابطة المناهضة للإمبريالية في بوسطن:
لا تتبع الفضيلة السياسية التقسيمات الجغرافية بل تتبع الانقسام الأبدي داخل كل بلد بين الرجال الأكثر ذكاءً والفكر، بين المحافظين وأصحاب الميول الليبرالية، والشوفينية والغريزة الحيوانية التي ستدير الأشياء بالقوة الرئيسية والامتلاك الوحشي، والضمير النقدي الذي يؤمن بالأساليب التعليمية والقواعد العقلانية للحق … لقد استوعبنا الحزب الليبرالي الدولي والعالمي العظيم، حزب الضمير والذكاء في جميع أنحاء العالم، باختصار [نحن “معادون للإمبريالية]؛ ونحن فقط قسمها الأميركي، نواصل الحرب ضد قوى الظلام هنا، ونلعب دورنا في الحملة الطويلة من أجل الحقيقة والتعامل العادل الذي يجب أن يستمر في جميع دول العالم حتى نهاية الوقت. دعونا نستقر بسعادة في مهمتنا اللامتناهية.
سيكون رسل في حالة قفزة مع فكرة “الدولية والعالمية” بأننا في “حملة طويلة من أجل الحقيقة والتعامل العادل … في جميع البلدان”. وهكذا شارك جيمس ورسل في النزعة الكونية المسالمة التي تتناقض بشكل صارخ مع أسس بوسانكيه لجميع القيم داخل الدولة القومية، ومع قومية بيرغسون “قوتنا ستقضي عليهم”. لذلك يبدو من غير المحتمل أن يكون رسل قد وضع جيمس في الاعتبار كواحد من “الخنازير” المتعطشة للدماء التي كانت فلسفتها بحاجة إلى معارضة على أساس أخلاقي. في الواقع، كان رسل صريحًا بشأن إعجابه طويل الأمد بجيمس. على الرغم من اختلافاتهم الفلسفية الحقيقية، نجد كتابة رسل في أربعينيات القرن العشرين “من بين الفلاسفة البارزين، باستثناء الرجال الذين لا يزالون على قيد الحياة، الأكثر إثارة للإعجاب شخصيًا بالنسبة لي، كان وليام جيمس”.
شيئان يختفيان بشكل متزايد في الوقت الحالي: حب اللطف والحياد العلمي
انتقد رسل بشدة كتاب جيمس البراغماتية (1907)، لكن هذا الصراع كان أقرب إلى الصراع المدني. لم يستطع رسل قبول أن حقيقة الفكرة هي فائدتها (كان هذا تعليقه على نظرية المعرفة في جيمس). يمكن للطاغية أن يجعل شعبه يعتقدون أن القائد العزيز هو رسول الله. قلق رسل، لكن من الجدير بالذكر أن رسل كان يحترم عمل جيمس الرائد في علم النفس التجريبي، وربط الحقيقة مع المنفعة كان عبارة عن محاولة جيمس نفسها لاستخلاص الدروس الفلسفية من أفضل بحث علمي. في الواقع -مثل رسل- غالبًا ما وضع جيمس براغماتيته في معارضة مباشرة مع نوع من المثالية الهيغلية الجديدة التي تعكسها أمثال بوسانكيه.
هنا يمكن للمرء أن يتهم رسل بالارتباك. شكواه المركزية من البراغماتية هي أن الحل السلمي للنزاعات يعتمد على وجود “معيار” عقلاني مستقل عن رأي المجتمع، ويمكن للجميع أن يستأنفوا. فهو يعتقد أن البراغماتية تسعى إلى مثل هذا المعيار، لكنه يفشل فلسفيًا في تقديمه (في حين أن بيرغسون وبوسانكيه لا يسعون حتى إلى عقلانية دولية). كما قال في موضع آخر، “حياد التأمل، في المجال الفكري، هو نفس فضل عدم الاهتمام الذي يظهر، في مجال العمل، على أنه عدالة وأنانية”. البراغماتية ليست محايدة بما فيه الكفاية. ومع ذلك يبدو أن رسل رأى منهجيته الفلسفية على أنها ليست محايدة سياسيًّا. كانت لديه نظرة محايدة للحقيقة – ولكن هذا الالتزام جزء لا يتجزأ مما وراء الفلسفة الأوسع التي كانت لها في حد ذاتها أجندة معادية للقومية، كما رأينا. فكيف يمكن لرسل التوفيق بين ما وراءه الميتافيزيولوجية المعادية للقومية مع فكرة أن الحقيقة يجب أن تكون مسألة محايدة؟
في وقت لاحق ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، عرض رسل هذه الطريقة للتعامل مع التوتر الظاهري:
إذا أصبحت الحياة البشرية مقبولة مرة أخرى، فيجب على البشرية أن تكتسب شيئين يتزايد اختفاءهما في الوقت الحاضر: اللطف المحبب والحياد العلمي. هذان الشيئان مترابطان. في الوقت الحاضر، في كل بلد، تُدرِّس المدارس قومية ضيقة ووجهة نظر التاريخ مختلفة تمامًا عن تلك التي تُدرَس في أي بلد آخر. لا يوجد حياد علمي، والابتعاد عن الحياد هو من أجل تقليل اللطف المحبب بين الأمم.
لم يكن لأحد أن يقول بشكل معقول إن معاداة القومية أو العالمية أصبحت مخبأة في المنهجية الفلسفية الأنجلو أميركية بعد الآن. كان رسل رائدًا في عرض أجيال ما قد يعنيه وضع المنطق الرسمي في قلب الفلسفة “العلمية”. لكن ترسّخ قِصر النظر في عملنا في السنوات الماضية.
لقد احتفظنا بالكثير من منهجية رسل العلمية. تقف المهن الفلسفية أو تسقط الآن على دقة الفروق المنطقية للمرء، أو على براعة تحركات المرء في المسائل التقنية المحدودة بعناية. هذا النوع من العمل جيد ولكننا فقدنا المنطق السياسي لوضع قواعد اللعبة الفلسفية بالطريقة التي فعلها رسل، مع مناشدة المنطق لغة دولية، ومعيار الحقيقة الذي هو نفسه في إنجلترا وفرنسا وألمانيا وروسيا والنمسا.
ما الذي يمكن أن يقوّم نظرتنا الفلسفية؟ أقترح أن التأمل التاريخي نفسه يمكن أن يلعب دورًا مفيدًا. لسوء الحظ أن تعرّض تاريخ الفلسفة للهجوم أخيرًا، لذلك سأختتم ببعض الملاحظات حول فائدتها.
في مقال نشر في المدونة حديثًا يهاجم تاريخ الفلسفة على نطاق واسع بوصفها مهمة غير مجدية، يخبرنا مايكل هويمر من جامعة كولورادو بولدر عن النوع الجيد للفلسفة التي يعتقد أن المؤرخين فشلوا في إنتاجها:
لنفترض أن لديك مؤرخًا جيدًا للفلسفة، يقدم عملًا رائعًا حقًا وفق معايير المجال، وهو أيضًا صحيح ومقنع تمامًا. ما هو أكثر ما يمكن تحقيقه؟
الجواب: “الآن نحن نعرف ما يقصده الفيلسوف باللفظ U ” وقبل ذلك، ربما اعتقد بعض الناس أن U تعني X؛ الآن نعلم أن ذلك يعني Y.
ليست المسألة هذه ذات أهمية فلسفية. ما زلنا لا نعرف ما إذا كانت X أو Y صحيحة.
لاحظ أن هذه الطريقة المحددة لتفسير العمل الحقيقي للفلسفة، بوصفها تقييمًا ما إذا كانت هذه الأطروحات الخالدة صحيحة وبسيطة، لم تُشارك عالميًا. بالتأكيد لم يكن رأي بوسانكيه.
إن ما وراء الفلسفة التي يعبر عنها هويمر مقبولة على نطاق واسع اليوم، وهي من سلالة رسل. لكن رأي رسل كان مختلفًا حيث أنه اعتقد أن تاريخ الفلسفة قيّم في حد ذاته وأنه قدّم مساهمات مؤثرة في هذا المجال؛ كما اعتقد أن حتى الفلسفة التقنية يمكن تقييمها من حيث عواقبها الاجتماعية والسياسية، والتي نحكمها بدقة من خلال النظر إلى التاريخ (وهي نقطة كان إريك شليسر يدرسها). فلماذا عدلت الفلسفة التحليلية منهجيتها على مر السنين؟ هذا سؤال تاريخي وعلى ما يبدو أن هويمر سيجعلنا نمر في صمت؛ لأن “تاريخ الفلسفة ليس تاريخًا أو فلسفة” ولكن من دون الإجابة على هذا السؤال لا ينبغي للمرء أن يشعر بالثقة في رؤية استعارة هويمر الشعبية على أنها حتمية كما هو الحال اليوم.
بغض الطرف عن هويمر، فإن المغزى من نقاشي لا يعني أنه يجب علينا ببساطة تقليد مشروع رسل القديم بأمانة أكبر. إن التهديد القومي اليوم ليس ملكا لآبائك الأولين. لكن رسل كان على حق في أنه حتى الفلسفة التقنية لها عواقب سياسية، كما كان رسل حريصًا على التأكيد، وطريقته الفريدة في دمج الممارسة الفلسفية في صراع أكبر ضد المتعطشين للدماء، ضد دعاة الحرب، ضد أولئك الذين يقللون من اللطف المحبب بين الأمم، تستحق الدراسة في سياقها الخاص. ربما يمكننا تعلم شيء ما. لا بد من تفكيك الافتراضات المبتذلة حول ماهية التفكير الفلسفي أو ما يمكن أن يكون من أجل التأمل التاريخي. كما أنه يرفض التهاون السام الذي يقول إن الفلسفة حتمًا يجب أن تكون أو كانت دائمًا أو لا يمكن إلا أن تكون هادئة سياسيًا.
بقلم: ألكسندر كلاين | ترجمة: جهينة اليعربي | تدقيق: عهود المخيني | المصدر