في مقال “الوطن دائمًا في محل استحقاق” بعام 2019، حذّرت الكاتبة والناشطة البيئية الأمريكية ماري أناييس هيغلار من “التفاؤل الحالم” على أنه نهج انفعالي، وليس بالواقعي في مجابهة مشكلة تغيير المناخ. تقول هيغلار أن إصرار المجموعة الشغوفة بمسألة تغير المناخ على اتباع نهج الأمل قد يكون منهكًا وغير فعّال، حيث أنه يتماشى مع فكر من يراقب الوضع من برجه العاجي على حساب غيره ممن يعيش وطأة هذا التغيير الظالم بصورة يومية. يصدح صدى هذا التحذير في خطاب الناشطة السويدية غريتا ثونبرغ في المنتدى الاقتصادي العالمي في عام 2019 حيث تقول:
“يكرر البالغون على مسامعنا أنهم يدينون لنا بمدّهم بالأمل، ولكنني لا أريد أملكم، لا أريدكم أن تأملوا خيرًا بل أريدكم أن تهلعوا.”
إن تحذيرات هؤلاء الناشطين من سلك طريق الأمل يتعارض مع العبارات الرنانة التي نسمعها من القادة والعلماء والناشطين الآخرين، ومع البيانات الكمية المتزايدة التي تسرد فوائد الأمل في السنوات العجاف. وتبيّن الدراسات أن الأمل يؤثر إيجابًا على حل المشكلات ودرء الأمراض والإعاقات البدنية والتعايش معها، كما ويزيد من مشاعر الثقة بالنفس، والقدرة على التأقلم مع الاضطرابات والأمراض النفسية وعوارضها. وهنا لسنا بحاجة لسماع ما عند العلماء في باب مدح الأمل. غالبًا ما نحث بعضنا البعض على عدم فقدان الأمل وذلك لاستشعارنا فوائده عندما نمتلكه.
ولذا نتساءل: أليس الأمل حاجتنا الأسمى للمضي قدمًا؟ أو لمجابهة الأسى والقنوط؟ أحيانًا يبدو أن الأمل ملاذنا الوحيد عندما تعجز الأيدي عن مجابهة نوائب الدهر، وعندما لا تثمر النتائج المرجوة عن أفعالنا، يبقى الأمل. بهذه الطريقة، يذّكرنا الأمل بأننا “تدنّسنا بطريقة لا رجوع منها” على حدّ قول الفيلسوفة مارغرت اُربن واكر تأويلا لمقال بيرنار وِليامز بعنوان “moral luck” عام 1981 و الذي يستخدم فيه اللفظ نفسه. يقول بيرنار “إن تاريخ المرء في مناصرته ما هو إلا شبكة من الأفعال المبنية على العزيمة والتي تحيط بها، وتدعمها، وتشكّلها ولو جزئيًا، أشياء غير مبنية على الأمر ذاته.” ولذا، عندما نتكئ على الأمل فإننا نعترف بهشاشتنا الدفينة ونستند عليها في انفتاحنا على احتمال الانهزام والتحطم الكامل.
وربما يتحذّر البعض من اللجوء إلى الأمل، حماية لأنفسهم من مرارة الخيبة، لكن كلًا من ثونبرغ وهيغلار يحثاننا على التفكير في المساوئ الأخرى للأمل، وتحديدًا: التمنّي والتخاذل. ما إن كان الأمل مبنيًا على توّقع أن العلماء والمهندسين والحكومات هي الأطراف التي ستحّل مشكلة تغيير المناخ فإن من الأحق أن نسأل أنفسنا ما إن كنَّا واجهنا الأدلة الداعية لجهود طارئة وآنية وراديكالية وجماعية. يجب أن ينعش الأمل ذاته. ولذا فإن لجوءنا للأمل من باب التخاذل وتعليق الجد على شمّاعة “كل شيء سيكون على ما يرام”، لن يكون فعالا أو محفزّا كبيرًا بالقدر نفسه الذي يتأتى من الهلع والخوف. بل من الممكن أن يخدم التخاذل والتمني السياسيين والشركات التي تستثمر آمالنا لمصالحها الاقتصادية الخاصة. وكلما تضاءلت احتمالية تجنّب الكارثة العظمى، تتضاءل معها القدرة على الشعور بالأمل بطريقة منطقية.
هل لنا أن نأمل دون وجود هذه المخاطر أن ننخرط في التمني والتخاذل؟ هل لنا أن نرى الحاجة لرؤية واضحة وخطة فعالة؟ تُبيّن بعض الكتابات الفلسفية الحديثة في باب طبيعة الأمل وقيمته، أن هناك طريقة يكون الأمل فيها إيجابيًا في الأحيان التي يغلب عليها عدم اليقين وفي الأوقات التي تبيّن الأدلة أن آمالنا بعيدة المنال.
هناك اتفاق متنامٍ بين الفلاسفة ينص على أن الأمل يشمل – على الأقل – رغبة من نوع ما ويقينًا بالقدرة على تحقيق هذه الرغبة، ويشمل أيضًا نظرة متفائلة. ويدعونا الأمل لإسقاط ضوء برّاق – إن صحّ التعبير – على إمكانية تحقيق رغباتنا. ويختلف الفلاسفة على ماهية هذا الضوء البراق ولكن نستطيع أن نقول أنه قد يتمثل في خوض التجربة في حد ذاتها. فعندما نأمل تجنب العواقب المباشرة لتغير المناخ فإننا لا نرغب فقط بنوع معين من النتائج بل نعيش تجربة مفادها أن هذا الأمل يستحق العمل. وقد يكشف لنا الأمل ماهية أكثر الأمور أهمية بالضبط كما تكشف لنا تجاربنا اليومية أسرار الكون من حولنا. اللحظات التي يتسلل فيها الأمل إلى قلوبنا هي لحظات تدعونا إلى التأمل في قيمنا. الطريقة ذاتها التي نتأمل في تجارب حياتنا هي تلك التي تقودنا – تمامًا كالأمل – إلى حقيقة الأشياء، أو إلى منعرج آخر من الضلال.
تعترف معظم النظريات الحديثة التي تتطرق إلى موضوع الأمل بأنه من المنطقي أن “نأمل ضد الأمل” أو أن نحافظ على قدر من الأمل حتى وإن تعاظمت أسباب فقدانه. وهنا، يفرّق الفلاسفة بين الأمل والتفاؤل. إن التفاؤل هو نهج واثق من تحقيق الرغبات بينما لا يتطلب الأمل إلا وجود احتمالية، ولنا أن نؤمن، بكل منطقية، أن فرصة النجاح ضئيلة ومع ذلك أن نستمر في مطاردتها. ما نرجوه من هذه الحياة قد يبدو لنا مهمًا بما يكفي لأن نتشبّث بفتات من الاحتمالات لنظل على قيد الاستمرار. إن الشخص الذي يأمل بصورة منطقية ضد الأمل ليس إلا متشائمًا لا يتوّقع سوى أسوأ النتائج إلا أنه يستمّر في سعيه للأمام.
ونقول أن الأمل ليس دائمًا أمرًا بهيجا، ولا أنه يعطي مسحة من الأمان فيما يخص مآل الأمور، فكما يقول فيلسوف القرن السابع عشر باروخ سبينوزا، إن الخوف والأمل هما مجرد نوعين من الاستجابة لمستقبل مجهول، “لا يكتمل الخوف دون أمل، ولا يكتمل الأمل دون خوف.” بل من الممكن أن نبني آمالا على قاعدة من الخوف، بحيث تصبح آمالنا مهربًا من خطر محدق. ولذا فربما تكون ثونبرغ محّقة في تحذيرها بأن علينا أن نخاف – ونهلع حتى – من مستقبل البشرية وكوكبنا. فإن هذا التجهّم -بالتالي- يتماشى مع خوض تجربة وجود احتمال ضئيل للتغلب على المخاطر التي نواجهها في سبيل حماية شيء بالغ الأهمية من منظورنا.
ويتضّح من خلال التحديات العالمية البارزة والمتزايدة أن الأمل المنطقي لا يعني أن نأمل وجود عالم أفضل بالغد، ولكن بدلا من ذلك، يمكننا أن ننمي ثقافة الأمل الصبور. على الرغم من وجود حاجة ملحّة للعمل – على الصعيدين الفردي والجماعي – إلا أن الأمل الصبور يساعدنا على التركيز على مستقبل بعيد قيّم، مستقبل لا يكون بعيد المنال حتى في أحلك الأيام. وهكذا أمل لا يكون شغلنا الشاغل ولا يأخذنا بعيدًا عن الأعمال اليومية التي ينبغي علينا إنجازها. بل يساعدنا وكأنه دفعة معنوية، نسقيها فتزهر، وتقودنا نحو آمال واقعية نتخذ منها خطًا نحو تحقيق مدينتنا الفاضلة، فعلى سبيل المثال، الأمل الصبور تجاه التغلب على عواقب تغير المناخ قد يقود إلى أكثر من طريقة وأكثر من نوع من الأمل تجاه وضع عدد من التشريعات المطروحة بذلك الصدد.
وتساعدنا الفلسفة على توضيح الآفاق بحيث لا نضطر أن نختار بين راحة البال المقرونة بالأمل وبين القيام بأفعال مثمرة. وبالطريقة نفسها، لسنا مجبرين على الاختيار بين سذاجة الأحلام الوردية وبين التطلعات الواقعية للمستقبل. إن الأمل قد يجعلنا لينين، سهلي الانكسار في وجه الخيبة والفشل لكن في مواجهتنا لهذه الليونة وهذه المخاوف حيال المستقبل، ومعاملتها بالأهمية التي تستحقها يجعل منها مصدرا للمعرفة والتحفيز، ويعدنا عاطفيًا لكل ما قد يعترضنا بما في ذلك أسوأ النتائج التي ربما علينا أن نتوقعها. لكن الأمل يتماشى مع هذه الاتجاهات الأخرى، ويوجه انتباهنا إلى ما هو ممكن وقيم وما يستحق أن نبذل فيه جهدنا في نهاية المطاف.
كتب الفيلسوف والناشط الأمريكي دبليو إي بي دو بوا ذات مرة عن “أمل ليس ميؤوساً منه لكن أمل لا يعوّل عليه”. وتعليقًا على هذا المقطع، كتب جوزيف آر ونترز عن “الأمل الكئيب” والأمل المقرون ” بتوقع الألم والمعاناة”. نعيش أحلامنا الوردية في ساعات اليقظة وأن نستسلم لفكرة أن ” الأشياء كلها ستكون على ما يرام” أو أن “الأشياء الجيدة ستأتي”. في مواجهة الأزمات الكبيرة في عصرنا، فإن الأمل الذي نجاهد له والأمل الممزوج بالخوف هما من بين الأشكال النهائية للأمل المنطقي المتاح الذي يمكنه منعنا من الوقوع في اليأس.
بقلم: كاتي ستوكدالي و مايكل ميلوني | ترجمة: سحر عثماني | تدقيق: مريم الغافرية | المصدر