نشر الفيلسوف وعالم الرياضيات ويليام كينغدون كليفورد في عام 1877 مقالته المعروفة الآن “أخلاقيات المعتقد ” حيث جادل بأنه من الخطأ أخلاقيًا أن نصدق الأشياء دون وجود أدلة كافية عليها. وهذه المقالة جديرة بالذكر وذلك لتركيزها على الأخلاقيات التي تنطوي عليها التساؤلات المعرفية. ولقد برز مثال على الأخلاقيات المتصلة بالمعتقد هذا الأسبوع، حيث ادعى ويليام روموسر، عالم حشرات من ولاية أوهايو، أنه عثر على أدلة فوتوغرافية لمخلوقات تشبه الحشرات والزواحف على سطح المريخ. وكان رد الآخرين هو التساؤل عما إذا كان روموسر لديه دليل كافٍ على اعتقاده. ومع ذلك، فإن أخلاقيات تشكيل المعتقدات أكثر تعقيدًا مما قد توحي به رواية كليفورد.
لاحظ روموسر أشكالًا تشبه الحشرات والزواحف على سطح المريخ، باستخدام الصور التي أرسلتها مركبة ناسا في المريخ. و قاده هذا إلى استنتاج مفاده: ” كانت هناك ولا تزال حياة على المريخ. وهناك تنوع واضح بين الحيوانات المريخية الشبيهة بالحشرات والتي تظهر العديد من السمات المماثلة لسمات حشرات الأرض”. ويستند معظم هذا الاستنتاج إلى الملاحظة الدقيقة لصور الأجسام؛ فيبدو أن بعضها يملك رأسًا وصدرًا وسيقانًا. يدّعي روموسر أنه استند إلى عدة معايير في دراسته، مثل الاختلافات بين الجسم ومحيطه، ووضوح الشكل، وتماثل الجسم، وتقسيم أجزائه، وبقايا الهيكل العظمي، علاوة على مقارنة الأشكال القريبة من بعضها البعض.
من الصعب تخيل مدى أهمية اكتشاف حياة على الكواكب الأخرى لجنسنا البشري. وعلى الرغم من كل هذا، فقد عارض عدد من العلماء نتائج روموسر. ونفت وكالة ناسا أن الصور تشكل دليلاً على وجود حياة فضائية، مشيرة إلى أن غالبية الأوساط العلمية تتفق على أن المريخ غير مناسب للمياه على الحالة السائلة أو ليكون مسكنًا لأنواع الحياة الأخرى. وبعد رد الفعل العنيف ضد نتائج روموسر، حُذف البيان الصحفي الصادر عن جامعة أوهايو. ولا يُعد هذا أمرا مفاجئا؛ فالدليل على ادعاء روموسر ببساطة ليس قاطعا، كما أنه لا يتناسب مع الأدلة الأخرى التي نملكها حول شكل سطح المريخ.
ومع هذا قدّم العديد من العلماء تفسيرًا للصور. فما شاهده روموسر يمكن تفسيره بظاهرة “الباريدوليا”؛ وهو الميل إلى تركيب صورة ذات معنى ضمن أنماط مرئية غامضة. ومنها ميل العديد من البشر إلى رؤية أجسام في السحب، ورجل على وجه القمر، بل وحتى وجه على المريخ (كما تم التقاطه بواسطة Viking 1 Orbiter في عام 1976). وبسبب هذا الميل فقد تكون النتائج الإيجابية الزائفة أكثر ترجيحا. فإذا تم تدريب دماغ شخص ما على مراقبة الخنافس وخصائصها، فيمكن أن يظن النقاط المرئية خنافسا ويتوصل إلى استنتاج مفاده أنها خنافس في حين أنها ليست كذلك.
وحقيقة أننا نميل إلى التحيزات المعرفية تعني أن الأمر لا يتعلق ببساطة بوجود دليل على معتقد ما. فاعتقدَ روموسر أن لديه أدلة ولكن العديد من التحيزات المعرفية من الممكن أن تقودنا إلى أننا نملك دليلًا فعليا في حين أننا إما لا نملكه أو نستبعد الأدلة عندما تتعارض مع استنتاجاتنا المفضلة. وعلى سبيل الذكر، تتناول ميريام سليمان في كتابها “التجريبية الاجتماعية” العديد من هذه التحيزات التي يمكن أن تؤثر على عملية اتخاذ القرار. فمثلًا، قد يكون المرء منحازًا بشكل أناني نحو استخدام ملاحظاته وبياناته فيفضّلها على غيرها.
قد يكون المرء أيضًا متحيزًا نحو استنتاج مشابه لاستنتاج ما من مجال آخر؛ ففي مثال قدمته سليمان، افترض ألفريد فيجنر ذات مرة أن القارات تتحرك عبر المحيط مثل الجبال الجليدية التي تنجرف عبر المياه بناءً على حقيقة أن الجبال الجليدية والقارات هي عبارة عن كتل صلبة كبيرة. وربما بالطريقة نفسها استطاع روموسر استنادًا إلى أوجه التشابه المرئي بين أرجل الحشرات والشكل في صورة المريخ الاستنتاج بأن هناك حشرات على المريخ، بل وأن الأجزاء التشريحية لهذه المخلوقات متشابهة في وظيفتها مع كائنات مماثلة موجودة على الأرض بالرغم من أن بيئة المريخ مختلفة إلى حد كبير.
هناك عدة أشكال أخرى من هذه التحيزات المعرفية. فيوجد التحيز التأكيدي التقليدي حيث يركز المرء على أنواع الأدلة التي تؤكد معتقداته ويتجاهل تلك التي لا تؤكدها. وهناك نوع ثانٍ يسمّى بتحيز الارساء، حيث يعتمد المرء بشدة على المعلومات الأولية التي تصله. وهناك نوع ثالث وهو التحيز للمصلحة الذاتية حيث يلقي المرء باللوم على القوى الخارجية عندما تحدث أمور سيئة له، في حين أنه يأخذ الفضل عندما تحدث الأمور الجيدة. كل هذه التحيزات تشوه قدرتنا على معالجة المعلومات.
يمكن لمثل هذه التحيزات أن تؤثر على التفاتنا لأدلة معينة و تجاهلنا لأخرى، ويمكنها أيضًا التأثير على العوامل التي تكون الأدلة من منظورنا. فعلى سبيل المثال، قد يقود التحيز للمصلحة الذاتية المرء إلى الاعتقاد بأنه مسؤول عن نجاح قد تحقق في حياته في حين أن نجاحه في الواقع كان بمحض المصادفة. في هذه الحالة، تصبح الأفعال دليلًا على المعتقد حتى وإن لم يكن كذلك. ويعقّد هذا فكرة أنه من غير الأخلاقي أن نصدق شيئًا بدون دليل، لأن تحيزاتنا المعرفية تؤثر على ما نعتبره دليلاً في المقام الأول.
ويمكن أن تكون أخلاقيات التوصّل إلى اعتقاد قائم على الأدلة أكثر تعقيدًا؛ فعندما نفكر في استخدام المعلومات كدليل على شيء آخر، أو ما إذا كان لدينا أدلة كافية لتأكيد استنتاج، فإننا أيضًا عرضة لما يسميه عالم النفس هنري مونتغمري هيكلة الهيمنة، وهو محاولة إنشاء تسلسل هرمي للقرارات الممكنة مع هيمنة أحدها على الأخرى. وهذا يمكننا من أن نكتسب ثقة ونصبح أكثر حزما في اتخاذ القرار. ومن خلال هذه العملية، نحن عرضة للمفاضلة بين أهمية المعلومات المختلفة التي نستخدمها للمساعدة في اتخاذ القرارات. ومن الممكن أن يتم هذا على النحو الذي يمكننا فيه بمجرد أن نجد خياراً واعداً، أن نؤكد على مواطن قوته ونقلل من التركيز على نقاط ضعفه. وإن حدث ذلك دون فحص دقيق سليم، فبوسعنا أن نصبح أكثر ثقة في اتخاذ قرار بدون مبرر واضح
بعبارة أخرى حتى عندما ندرك تحيزاتنا، من المحتمل أن نقرر استخدام المعلومات بطرق غير مناسبة. ومن الممكن حتى في حالات مثل روموسر أن يكون قرار الثبات على استنتاج معين ونشر مثل هذه النتائج ناتجًا عن هيكلة الهيمنة. لا شك أنه ليس لدينا سبب وجيه للاستدلال على حقيقة مفادها أن الغلاف الجوي للمريخ يمكن أن يدعم مثل هذه الحياة، لكن تلك الصور ملفتة للنظر جدًا؛ فربما كانت النتائج السابقة معيبة؟ كيف يمكن للمرء أن يرفض ما يراه بعينه؟ فإذا لابد أن تكون الأسبقية للأدلة الفوتوغرافية.
لا تقتصر التحيزات المعرفية وهيكلة الهيمنة على العلم فحسب. فهي تؤثر على كافة أشكال التفكير واتخاذ القرار، وبالتالي إذا كان لدينا واجب أخلاقي بأن نتأكد من أن لدينا دليلًا على معتقداتنا، عندها يتحتم علينا أخلاقيا أن نحترس من هذه التوجهات. وتتجلى أهمية مثل هذه الواجبات الأخلاقية في عصر الأخبار الكاذبة وغيرها من الجهود الرامية لخداع الآخرين عمداً على نطاقات واسعة. وربما يتعين علينا كعامة أن نسأل أنفسنا في كثير من الأحيان أسئلة مثل “هل أنا ملزم أخلاقيا بالحصول على دليل على معتقداتي، وهل فعلت ما يكفي للتحقق من تحيزاتي للتأكد من أن الدليل يُعد دليلا جيدا؟”
بقلم: ماثيو سيلك | ترجمة: لمياء العريمية | تدقيق: سحر عثماني | المصدر