الحكمة خلف ظلال الحدائق الإسلامية

لطالما كان إنشاء الحدائق يحظى باهتمام كبير لدى المسلمين لأسبابٍ عدة تتركز معظمها حول جوانبها المشرقة، وفي كون الطبيعة رمزًا للجمال والحزن والكآبة – وأن الحياة نفسها لا يمكن أن تصبو نحو المثالية.

حديقة بابور ، حديقة على طراز شارباغ تقع في جايبور ، الهند

بالنسبة للإسلام، فإن عالمنا الذي نعرفه- أو كما نعرفه- سيكون دائمًا موحلًا بالذنوب والخطايا، ولا يمكن لأي فرد أو مؤسسة أن يكون معصوماً من مشاعر الذنب والخطيئة والغيرة والغضب  وعدم القدرة على التسامح. ويرى الإسلام أن الجنة هي الملاذ من عذابات الأرض، فهناك ستحفُّ الفردَ طمأنينةٌ لا يكدِّر صفوَهَا مكدِّر. وكما ذكر القرآن، إنَّ نعيم الجنَّة شيءٌ أعدَّه الله لعباده المتَّقين، ففيها جناتٍ تجري من تحتها الأنهار، وماءٍ “غيرِ آسِنٍ” وَ”أَنهارٍ مِّن لبن لَّمْ يتغيَّر طَعْمُهُ” يُسكب في أكوابٍ وأباريق وكؤوس من الذهب. وستنتظر حور العين المتقين وهم “مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ” تحت أشجار  قطوفها دانية.

ومع ذلك، ولأن كل هذا قد يكون بعيد المنال، يوصي الإسلام بأسلوب غير معتاد لنحافظ على اتزاننا في هذه الحياة كيلا يطغى اليأس على قلوبنا، وهذه الطريقة تكمن في أن نُصبح بُستانيين أو أن نولي اهتمامًا بالبستنة. يقضي الطريق بأن الباحثين عن التنوير وممن سأم بهم الحال إلى ما آلت إليه البشرية أن تتوجه طاقاتهم إلى إنشاء حدائق مسوّرة. فمبحيطٍ محدود وإمكانيات متواضعة، يمكن أن تخلق من مساحة صغيرة ملامح من فردوس الآخرة. في حدائقنا يجب أن  يتناهى   إلى مسامعنا صوت خرير الماء من جدول يجري وأحواضٍ بانعكاسات تتلألأ الأضواء فيها، وصفوفٍ من ورود وأشجارٍ تتدلى منها عناقيد الفاكهة بظلال نستريح تحتها. ويخبرنا التاريخ أن أي بقعة وطئت فيها حضارة المسلمين، كان لا بدَّ للحدائق نصيبٌ منها. فحتى في أكثر الأراضي جفافاً، رسموا نقوش الزهور والأشجار على السجاد ليكون تذكاراً لنعيم مفقود يحملونه على ظهور جمالهم. وعندما وصل المسلمون إلى جنوب إسبانيا، توافرت كل الظروف لإنشاء حدائق ما تزال تذهلنا حتى يومنا هذا.

فناء قناة Palacio de Generalife في غرناطة ، إسبانيا

يظن الكثير أن ممارسة البستنة هي لمن هم فوق سن الخامسة والستين، ولا تحظى باهتمام ممن هم في مقتبل العُمر والشباب. والفرق هنا ليس من قبيل الصدفة، إذ يرتبط حماس الشخص بالبستنة ارتباطًا عكسيًا بدرجة أمله في الحياة بشكل عام. فكلما اعتقدنا أن ملامح الحياة كالحب والزواج يمكن أن تصبوا إلى الكمال وأننا سنحظى بحياة رغيدة بفضل جهدنا الذي نكرسه في حياتنا المهنية، سنكون أبعد من التأمل في براعم الزعتر وزهور الخزامى وإكليل الجبل.

لِمَ الالتفات إلى هذه المشتتات طالما ينتظرنا في الأفق هدف أكثر عظمةً ومثالية!! ولكن بعد  بضعة عقود من اليوم، ستكون أحلامنا التي كرسنا جهودنا لتحقيقها قد باءت بالفشل وتزحزح إيماننا عن الصورة المثالية للنجاح المهني والعلاقات الرومانسية. في هذه المرحلة من حياتنا،  قد نتمكن من أن  نرى الأمور من منظورٍ آخر، وبطريقةٍ أكثر تعاطفًا، سنفتح أعيننا على أشجار الصنوبر فارعة الطول، وسياج شجرة الآس وسهول من ورود الجيرانيوم والسوسن. ستكون البستنة والزراعة أبعد من أن تكون انشغالاً عن تحقيق الأحلام؛ بل ملاذاً من هبوب رياح اليأس.

الإسلام كدين يضع لأتباعه سقف طموحات عالية، فهو لا يأمرهم بتكريس جهودهم لحرث أراضيهم فقط، ولا يحدُّهم بالتفكير داخل الصندوق، بل يدعوهم إلى الاتزان: ألا يفرطوا في بيروقراطيات ونفقات فوق المستطاع ولا يبخسوا في أحزانهم ومآسيهم. أما الحدائق، فقد أصبحت ملاذاً ونعيماً في عالم يملؤه الاضطراب؛ وفسحة للتأمل في مفردات الجمال حتى لو كان يكسونا الألم لنمارس حزننا الدفين فيها.

 


ترجمة : مريم الغافرية | تدقيق : منال الندابية | المصدر

Exit mobile version