أنا لستُ أنا!

الفيلسوف جايكوب نيدلمان حول: كيف نصبح ما نحنُ عليه؟ والطريق إلى تحرير الذات

“هناك دائمًا شيءٌ ما أكثرَ من حقيقتين متعارضتين. الحقيقةُ الكاملةُ تتضمنُ دائمًا جزءًا ثالثًا، وهو التصالح “.

 

هذا هو جوهرُ الحياةِ كلُّه: من أنت؟ ما أنت؟هكذا كتب ليو تولستوي في يومياتِ شبابِه.أنا: مدى رسوخ الحرف. كيف توطِّدُ الخطوطَ الثلاثة: واحدٌ عمودي، باعثٌ للفخرِ وحازم، ثم الخطانِ الأفقيانِ القصيران، في تعاقبٍ سريعٍ أنيق؟“. تعجَّبتْ سيلفيا بلاث، البالغة من العمرِ 18 عامًا، في مذكَّراتِها بعد مرورِ قرنٍ من الزمانِ على تولستوي وهي تفكِّرُ في الإرادةِ الحرةِ وما الذي يجعلُنا ما نحن عليه. في الواقعِ، هذه الخطوطُ الثلاثةُ الأنيقةُ تتغلغلُ في جوهرِ تجربتِنا كبَشر، ومع ذلك عندما نبدأُ في تفكيكِها، يحيدُ بصرُنا عن ذلك الجوهر، عن جوهرِ الحياةِ. إذن، مم صُنعنا؟ ما الذي يجعلُنا نحن؟

في كتابِ I Am Not I (المكتبةِ العامَّة)، استأنفَ الفيلسوفُ جايكوب نيدلمان من حيث توقَّفَ تولستوي وبلاث، وأدرجَ المزيدَ من أكثرِ عقولِ البشريَّةِ تيقُّظًا -من نيتشه وكيركيغارد إلى ويليام جيمس ودي تي سوزوكي- في العثورِ على تفسيرٍ لهذه الأسئلةِ الأكثرَ إثارةً للقلقِ عن الوجود، إن لم يكن الإجابة عليها. ينشأُ من هذا التساؤلِ فرصةٌ باعثةٌ للأمل- نوعٌ من أنواعِ السرِّ المُقدَّسِ الدُّنيَوي الذي ينيرُ ما يكمُنُ في صميمِ التجاربِ الأكثرَ عمقًا التي يمكنُنا أن نحظى بها : الفرح، الحُب، الأمل، التَّعجُّب، الدَّهشة، السُّمُو.

رسم توضيحي من ميمو بالادينو لنسخة نادرة من جيمس جويس أوليسيس

كتب نيدلمان:

من بين الأسئلةِ العظيمةِ في قلبِ الإنسان، ليس هناك ما هو أكثرَ جوهريَّةً من سؤالِ، “من أنا؟” ومن بين الإجاباتِ العظيمةِ للرُّوحِ الإنسانيةِ، ليس هناك ما هو أكثرَ جوهريَّةً من تجربةِ “أنا”. في الحقيقة، في سياقِ حياةٍ بشريَّةٍ ذات مستوى عالٍ – حياةٍ إنسانيَّةٍ طبيعيةٍ مليئةٍ بالبحثِ عن الحقيقةِ – هذا السؤالُ وهذه الإجابةُ يتوازيان في النهايةِ مع بعضِهما البعض، ويقتربان أكثرَ فأكثرَ من بعضهما البعض حتى يصبحَ السؤالُ هو الإجابة، والإجابةُ هي السؤال.

واجَهَ نيدلمان هذا السؤال لأولِ مرَّةٍ عندما كان في الحاديةِ عشر من عُمره، وذلك بفضلِ صبيٍّ يسكنُ في جواره يُدْعى إلياس بارخورديان، الذي أصبحَ أعزَّ صديقٍ له في طفولتِه ورفيقَه الذي لا يعرفُ الكلَلَ في البحثِ الفكريِّ. كان الاثنان يجلسان معًا بعد المدرسةِ لساعاتٍ مُتتالية، ويناقشان علمَ الفلكِ والرَّوْحانيةِ بدقَّةٍ مُتكافئةٍ نابعةٍ  من حُبِّ الاستطلاعِ الصادق. لكن موتَ إلياس المفاجئ، إلى جانبِ حياتِه القصيرة، جعلَ الألغازَ الوُجوديَّة لدى نيدلمان تصعدُ إلى آفاقٍ جديدةٍ من الإدراك. كتب نيدلمان بعد أكثرَ من نصفِ قرن:

تُوفِّيَ إلياس إثرَ إصابتِه بسرطانِ الدَّم، حيث كان مرضًا غير قابلٍ للشِّفاءِ آنذاك، وذلك قبل عيدِ ميلادِه الرابع عشر. في الأشهُرِ التي تلت بدايةَ مرضِه، التقيتُ به في غرفةِ الموسيقى الهادئةِ في الجزءِ الخلفيِّ من منزله، حيث كانت قبالةَ حديقةٍ كبيرةٍ مُرتَّبةٍ بعنايةٍ ومُضاءةٍ بأشعَّةِ الشمس. كانت مشاعري عن عقلِه تتعمَّقُ كلما تقدَّمَ مرضُه وأصبحَ أضعف. لقد تحدثُ بصراحةٍ عمَّا ينتظرُه وأعربَ عن لَوْعةِ حُزنه فقط لأنه لن يعيشَ لفترةٍ كافيةٍ لفهمِ كل ما كان يريدُ أن يفهمَه عن الكوْن. لكن بطريقةٍ ما، وبدون شكٍّ بسببِ الظُّهورِ الدائمِ للحضورِ الواعي المُشترك فينا، فإنَّ وفاتَه في نهايةِ المَطاف، في السنواتِ التي تلت ذلك، جلبتْ لي المزيَد من الأملِ أكثرَ من الأسى، الأملِ الذي ينبعُ من “صوْتِ” الوعيِ المُقدَّسِ الحقيقيِّ الذي ينادينا من الدَّاخل.

أرى الآنَ أنَّها إشارةٌ إلى هذا النَّوعِ من الأمل، الذي لطالما كنتُ أحاولُ دائمًا أن أجلبَه  لنفسي ولطلَّابي وللقُرَّاءِ في مواجهةٍ للآمالِ الوهميَّةِ والتَّشاؤمِ الذي لا مفرَّ منه، والذي يُعدُّ سِمةً من سماتِ عصرِنا.

لاستكشافِ هذه الأسئلة، يبني نيدلمان الكتابَ على النَّمطِ الكلاسيكي للحوارِ السُّقراطِيّ، مع جعلِ النَّموذجِ حديثًا ومُفعمًا بالحياةِ من خلالِ انعطافٍ خياليٍّ يتمثَّلُ في إجراءِ محادثةٍ بين ذاتِه في طفولتِه، جيري، وذاتِه الحاليَّةِ التي تبلغُ من العمرِ 80 عامًا، جايكوب .  أتذكَّرُ هنا مقولةَ جوان ديديون التي لا تُنسى “يُسْتحسنُ أن نكونَ على علاقةٍ سطحيَّةٍ مع الأشخاصِ الذين اعتدنا أن نكون، سواءً كُنَّا نراهُمْ رفاقًا جذَّابين أم لا”. غالبًا ما يكونُ من الصَّعبِ تنفيذُ النصيحة، حيث أننا نخجلُ من رداءةِ طِباعِنا وحماقتِنا وغَطْرستِنا السابقة ، ومع ذلك ينجحُ نيدلمان بتنفيذِها بكمٍّ  هائلٍ من الامتنانِ ودفءٍ وسَخاءٍ من الرُّوحِ تجاه الصَّبِيِّ النَّاقصِ قليل الصبرِ الذي كان عليه في السَّابق.

جاكوب نيدلمان (تصوير: ديفيد أولريش)

في واحدةٍ من هذه المقالات، يعبِّرُ جايكوب لجيري الفرضيَّةَ الأساسيةَ للكتابِ نفسه:

الصِّراعُ من أجلِ البقاء، لأجلِ ألا تختفي في هذه اللحظة، هو الجذرُ المتقدِّمُ للصِّراعِ من أجلِ البقاءِ طوالَ الوقت. نحن بحاجةٍ إلى مساعدةِ بعضِنا في هذا الصِّراع. أنت من خلالِ السُّؤال، وأنا بالصِّراعِ لأجلِ الإجابة، هذا هو قانونُ الحُبِّ الذي يحكُمُ الكَوْن.

في مثالٍ آخر، حالةُ ألفريد كازين الجميلةُ لاحتضانِ التَّناقضِ/ الاختلاف/ التَّعارض المليئةِ بالذِّكريات، حيث يقول جايكوب حاثًّا جيري:

كُن مع الاختلاف. إذا بقيتَ ثابتًا على موقفِ الاختلافِ، سترى أنَّ هناك دائمًا شيئًا ما أكثرَ من حقيقتينِ متعارِضَتين. الحقيقةُ الكاملةُ تتضمَّنُ دائمًا جُزءًا ثالثًا، وهو التَّصالُح.

يناقشُ نيدلمان بأنَّ الرَّغبةَ في احتضانِ التَّناقضِ هي بدايةُ المعرفةِ الحقيقيةِ للذَّاتِ وأعمقُ أنواعِ الصِّدق. يقول جايكوب لجيري مُردِّدًا ما أكدَّهُ أندريه جيدا على أن الإخلاصَ هو أصعبُ عملٍ على الإطلاق: هذه هي بدايةُ الإخلاص.

نظرًا لأنك تكافحُ، يبدأُ سؤالُك في التَّعمُّقِ… ما ستكتشِفُه دائمًا لأوَّلِ مرَّةٍ سيكون جديدًا دائمًا في لحظةِ التساؤلِ العابرةِ قبل أن تلتقطَ الطُّموحاتُ الشخصيةُ تلك اللحظة. أنت، أنا، في تلك اللحظة، سوف نكتشفُ الحاجةَ لخدمةِ الطَّاقةِ الإنسانيةِ الفريدةِ والمُقدَّسةِ التي تبدأُ كالوعْيِ الخالِصِ بوجودِ الفردِ نفسه. وحتى عندما بدأت هذه الفكرةُ – فكرةُ البدايةِ هذه  – حوْلَ ما هو الإنسان، بل وحتى ما هو الجنسُ البشرِيُّ ، في الظُّهورِ في تلك اللحظةِ العابرةِ من الوعْيِ الخالِصِ لوجودي الذي انبثقَ الآن من فكرةٍ عظيمةٍ – في تلك اللحظةِ وأمامَ فكرةٍ حيَّةٍ تظهرُ فكرةُ الصَّحوةِ التي تتَّسمُ بالتَّوقِ الإنساني الفريدِ للخدمة – حيثُ تظهرُ الحاجةُ للامتثالِ لتلك الطَّاقة، الحاجةُ إلى الاهتمامِ بها، للتَّغذِّي بها، لتَلَقِّي المساعدة التي تأتي حينها عندما تكونُ مُلزَمًا بموضوعيَّةٍ لإعطاءِ وخدمةِ وإظهارِ تلك الطَّاقةِ في السُّلوكِ والإدراك. إنَّها طاقةُ الوجودِ الواعي، تلك التي تمنحُ الانسانَ القوَّةَ الحقيقيَّة. إن الطاقةَ التي تمثِّلُ الإدراكَ التَّامَ لوُجودِ الفردِ هي – أو يُمكن أن تكون – أقوى طاقةٍ في حياةِ الإنسان.

في مقالٍ آخر، يوجِّهُ جايكوب جيري نحو فكرةِ أن الاعترافَ بخداعِ الإرادةِ الحرَّةِ سوف يحرِّرُنا بدلًا من نزعِ حريَّتِنا. ومشيرًا إلى مدى استحالةِ فهم الحرِّيةِ دون فهمِ المؤثِّراتِ / القوى التي تؤثِّرُ علينا مثل قوانين الكونِ وطبيعةِ الواقع، فإنه يعتبرُ أن مصدرَ الحريَّةِ الحقيقيةِ هو:

اسأل نفسك ما مفهومُك للقوى التي تؤثرُ علينا – من القوانينِ الكونيةِ في الطبيعة؟ وما اعتقادُك حول ذلك؟ وتعاليمُ الدِّين – فكرةُ الإيمان، وطاعةُ الأعلى، والمسؤوليةُ تجاه الآخرين وتجاه ذاتِك، والخداعُ والإلهامُ في النومِ والحُلم، وفكرةُ مكانِ الانسانِ في الحياة، والتنفُّس، والكونُ الحيُّ، ومكاننا على كوكبِ الأرض، والحاجةُ الملحَّةُ للأخلاق، وطبيعةُ غريزةِ الحيوانِ والبديهةُ في داخلِنا ومن حولِنا، ووظيفةُ ومعنى الألم والمتعة، وفكرةُ وتجربةُ الوعيِ والضَّمير، والتغذيةُ الدقيقةُ في الهواءِ الذي نتنفسُه، والطعامُ الذي نأكلُه، والاحتياجاتُ والرغباتُ الجسديَّةُ الحقيقيةُ والمصطنعة، والتأثيراتُ القويَّةُ للرموز، والقوةُ الكونيَّةُ والحميمةُ للجنس، وحتميَّةُ الموت، وخدعةُ وحقيقةُ الزَّمن.

بالعملِ على هذا المنوال، وبالحفاظِ على الموقفِ الأساسيِّ من إخلاصِك لنفسِك ولاكتشافاتِك، سوف تشعرُ بخيبةِ أملٍ ليس فقط بقناعتِك، وإنما بهيكلِ عقلِك نفسه. سوف تُدركُ أنك لست بحاجةٍ إلى معتقداتٍ جديدةٍ أو معلوماتٍ جديدةٍ أو نظرياتٍ جديدة، وإنما لعقلٍ جديدٍ تمامًا.

يزعمُ نيدلمان أن انحلالَ هذا اليقين هو المدخلُ إلى الحريَّةِ الحقيقية:

الأفكارُ الحقيقيةُ تفتحُ العقلَ على القلب، إلى قلبِ العقل، إلى مستوى آخرَ من الواقعِ داخل أنفسِنا… هذا هو طعمُ بدايةِ الحريَّةِ الداخلية. وحدهم الحمقى من يتصوَّرون أن الحريَّةَ تعني الحصول على ما يريدُه المرء. إنَّ الحريَّةّ الحقيقيةَ تبدأ بالخضوعِ للتأثيرِ الأعلى – لطاقةٍ أعلى وأدقَّ داخل النَّفس.

ما أسمى ما في نفسِك؟ إن طريقةَ التفكيرِ في هذا السؤالِ هي بدايةُ الإجابة – لأنها تتضمَّنُ فكرةً حقيقيةً تم منحُها للبشريةِ منذ آلافِ السنين … في هذه المرحلةِ ستجدُ أنت بنفسِك الإجابةَ – ليس كفكرةٍ، وإنما كتجربة.

سوف تُصبح أنت الجوابَ للحظة! لن يكون لديك طعمُ الحريَّةِ الحقيقيةِ فقط؛ بل سوف تكون أنت الحريَّةَ للحظة.

إن كيفيةَ تنميةِ مثل هذه القدرةِ على محْوِ الذَّاتِ في خدمةِ السُّموِّ الذَّاتِيِّ وتحريرِ الذَّاتِ هو ما يتابعُ نيدلمان لاستكشافِه في الجزءِ المتبقِّي من كتابِ I Am Not I التَّنويري. مستكملًا ما جاءَ به ألدوس هكسلي في الدَّاخل الإلهي the divine within  و عالمُ الفيزياءِ الفلكيَّةِ مارسيلو غليزر حول كيفيةِ التَّعايشِ مع الغموضِ في عصرِ المعرفةِ how to live with mystery in the age of knowledge  و الفيلسوفةُ إميلي رورتي حول طبقاتِ الهويَّةِ السبعةِ في الأدبِ والحياة the seven layers of identity in literature and life و إعادة النَّظرِ في أفلاطون وحيرة الإرادةِ الحُرَّة  Plato and the perplexity of free will .

شكرًا داني


بقلم: ماريا بوبوفا | ترجمة: موزة الريامي | تدقيق الترجمة: مريم الريامي | تدقيق لغوي: لجين السليمي | المصدر

Exit mobile version