كيف جعلتنا شبكة الإنترنت نؤمن بأن الأرض مسطحة؟

الأرض كروية أو بالأحرى هي جسمٌ كرويٌ مفلطح. جسمٌ كرويٌ مفلطح فظيع جدًا. فمن الأفضل لو كانت مسطحة. فمثلًا لن يكون ثمة خسوف مزعج بدون ظل الأرض المستدير ليحجب المنظر الرائع لقمرنا الوحيد بطريقة مختلفة. ثمة مثال أفضل؛ ستكون جميع النجوم في السماء في منظر رائع كل ليلة، لا يطمسها أفق عالَمٍ كرويٍ بائس. وكما يَعرف أي رسام خرائط أن رسم أرضٍ مسطحةٍ على خريطة ذات بُعدين أسهل بكثير.

ولكن للأسف، الأرض ليست مسطحة.

ومع ذلك، وعلى نقيض كل الأدلة العلمية، هنالك أناس يؤمنون بأن الأرض مسطحة. حتى أن لهم ناديهم الخاص؛ نادي الأرض المسطحة. ويكبر دعمه، إذ يُعد نجوم الرابطة الوطنية لكرة السلة في أمريكا ومشاهير برامج الواقع من بين أنصاره.

في التسعينات، كان نادي الأرض المسطحة مُفلسًا وشبه ميّت. ثم ظهرت شبكة الإنترنت وجعلت الناس يرغبون بتصديق أن الأرض مسطحة مجددًا.


الصور في الأسفل هي أولى الصور التي التُقطت للأرض من مسافة أكثر من 160 كيلومترًا في الفضاء. حيث التقطها الجيش الأمريكي عام 1947م بواسطة صاروخ V-2 استولى عليه من الجيش الألماني. وكانت من المرات الأولى التي شاهدنا فيها الأرض من مسافة بعيدة حقًا؛ وبدت  مستديرةً بوضوح.

بعد أقل من عقد لاحقًا، اجتمع نادي الأرض المسطحة للمرة الأولى وتبنّى فكرةً عن الكوكب لم تتوافق مع الصور الحديثة التي أُرسلت من الفضاء، والتي سبق أن رفضها المجتمع العلمي لقرابة نصف ألفية. ووفقًا لأفكار نادي الأرض المسطحة، كانت الأرض قرصًا مسطّحًا يتوسطه القطب الشمالي ويحيط به جدار عال من الجليد. وقالوا بأن الشمس والقمر والنجوم لا يزيدون مسافة عن المسافة بين نيويورك ولندن.

كما أنهم أكدوا بأن كل ما عرضته “ناسا” كان خداعًا مدروسًا.

بعد أن وطأت أقدام أول رواد الفضاء على القمر بفترة وجيزة، توفي المؤسس الأصلي لنادي الأرض المسطحة. وأحيَت قاعدة جماهيرية صغيرة متفانية أعماله وواصلت تداول نشرة الأرض المسطحة. وعلى مدى السنين، توسّع النادي تدريجيًا وانتشر، حتى استقطب أخيرًا ما يقارب 3500 مشتركٍ من أنصار نظرية الأرض المسطحة في التسعينيات. ولكن في عام 1997م، دمّر حريق نشب في منزل مكتبة نادي الأرض المسطحة  وقائمة الأعضاء. ووقع نادي الأرض المسطحة في أزمة مالية إثر عجزه عن جمع مستحقات العضوية. وتوفي آخر المنظمين بعد فترة قصيرة لاحقًا، وكان من الممكن أن يرحل نادي الأرض المسطحة معهم لولا الإنترنت.

في عام 2004م، عاد نادي الأرض المسطحة على أنه منتدى للنقاش. فمن كان ذو اهتمام بنظريات الأرض المسطحة ويتمكن من الوصول للإنترنت، يمكنه طرح الأسئلة أو مواضيع للمناقشة أو مشاركة وصلات للأرض المسطحة ومصادر عنها . ولكن قبل ذلك، يمكنه التواصل مع أنصار النظرية.

إن حثَّ شبكات التواصل الاجتماعي مستخدميها على مواصلة نشر المحتوى في المنصات يصبُّ في مصلحتها بصرف النظر عن مدى غموضه.

وصادف أن يكون عام 2004م هو العام نفسه الذي ظهر فيه “فيسبوك”. وأُطلق “يوتيوب” بعدهُ بعامٍ ثم “تويتر”. وفي الوقت الذي أصبح فيه لنادي الأرض المسطحة موقعٌ إلكترونيٌّ في عام 2009م، سبق وأن بدأت مواقع التواصل الاجتماعي بالهيمنة على عالم الإنترنت. يقضي مستخدمو الإنترنت اليوم حوالي 22% من وقتهم على تصفح شبكات التواصل الاجتماعي. وبالنسبة للعديد منهم، تُعدُّ مواقع التواصل الاجتماعي محورَ الإنترنت. من السيارات المميزة إلى الطبخ التقليدي إلى أفلام شركة nitche إلى حلقات تعلم الخياطة عبر الإنترنت، تقدم وسائل التواصل الاجتماعي مجموعة للجميع. حتى لأنصار نظرية الأرض المسطحة.

وقبل ظهور الإنترنت، تطلب الوصول لـ 3500 مشتركٍ في نادي الأرض المسطحة إلى 50 عامًا. إلا أن موقعهم الآن يتلقى أكثر من 300000 زيارةٍ فريدةٍ يوميًا. وهناك صفحات فيسبوك للأرض المسطحة تلقت أكثر من 100000 إعجابٍ، ومقاطع فيديو عن الأرض المسطحة حصدت ملايين المشاهدات وعددًا لا يُحصى من المستخدمين على تويتر، وصفحات فرعية من Reddit ومنتديات نقاشية وغرف دردشة عبر الإنترنت مكرّسة للترويج لنظريات الأرض المسطحة.

ومع جمهور محتمل بالمليارات، تستطيع مواقع التواصل الاجتماعي أن تعطي شخصًا يجلس في قبو منزله الوصول نفسه الذي يوفره أستوديو تلفزيوني تقليدي. أصبح النشر سهلًا سهولةَ بضعِ نقرات. إن صح التعبير، أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي بمستوى الوسائل الإعلامية أو اكتسحتها.


إن المحتوى الذي يشاركه المستخدم هو عصب مواقع التواصل الاجتماعي. ولولا تحديث الحالات والتغريدات ومقاطع الفيديو، ستكون مواقع التواصل الاجتماعي فارغة. وإنه من مصلحة شبكات التواصل الاجتماعي أن تشجع مستخدميها على مواصلة نشر المحتوى على المنصات بصرف النظر عن مدى غموضه أو مصداقيته، ولا يقتصر الأمر على نظريات الأرض المسطحة فحسب، بل يشمل إخفاء حقائق الأطباق الطائرة وحملات مناهضة اللقاحات ونظرية المؤامرة Pizzagate وتسلل الزواحف البشرية إلى الحكومة الأميركية. ولكن من الجدير أن نشير إلى أن عدد مرات استخدام كلمة البحث “الأرض المسطحة” قد زاد خلال السنوات القليلة الماضية.

في استطلاع لـ YouGov لعام 2018م، قال ثلث جيل الألفية ممن شاركوا فيه أنهم لم يكونوا مقتنعين كليًا أن الأرض كروية على الرغم من أننا حظينا بإجماع علمي حول الأمر على مدى نصف الألفية. حتى أن الالتفات البسيط الذي حظيت به نظرية الأرض المسطحة – رغم عدم صحتها – قد زاد من الاهتمام بالموضوع.

ويكون ذلك فعالًا بالأخص إذا شارك فيه أناس مشاهير.

في 2017م، ظهر نجم الرابطة الوطنية الأمريكية لكرة السلة “كايري ايرڤينغ” في بودكاست مرتين زعم فيه بأن الأرض مسطحة. ولكونه نجمًا رياضيًّا محترفًا، لفت أنظار ملايين المتابعين. فهو – باستخدام مصطلحات التواصل الاجتماعي – شخصية مؤثرة. وعلى الرغم من إنكاره لهذا الاعتقاد أخيرًا، حثّ إيرڤينغ عددًا لا يحصى من الناس على الاعتقاد بأن العالم مسطح. وبفضله بدأت صفوف طلاب المدارس الإعدادية بتبني هذه النظرية.

لا تكمن المشكلة في شبكات التواصل الاجتماعي بل في سلوك الإنسان. وتؤدي شبكات التواصل الاجتماعي دور العدسة المكبرة فحسب.

وهو ليس الوحيد، فقد قال نجم الرابطة الوطنية لكرة القدم الأمريكية “سامي واتكينز” إنه يؤمن بأن الأرض مسطحة. وجاء “ويلسون تشاندلر” لاعب فريق “دينڤر ناغتس” داعمًا لـ “إيرڤينغ”. لا أعلم ما خطب الرياضيين المحترفين؟ ولكن حتى “شاكيل أونيل” زعم أن الأرض ليست مسطحة فحسب، بل مربعة! إلا أنه لاحقًا قال بأنه كان يمزح. وسواءً أكان الأمر مزحة أم لا، فإن الفكرة قد انتشرت.

ودخل مغني الراب “B.o.B” في جدال على تويتر مع الفيزيائي المشهور “نيل ديغراس تايسون” حول شكل الأرض، ورفع مقطعًا صوتيًّا على موقع “ساوند كلاود” عن الموضوع برمته. حيث استُمِع إليه أكثر من مليون مرة. واستغلت “تيلا تيكيلا” التي حصلت على برنامج الواقع الخاص بها بعد أن أصبحت الأكثر شهرة على موقع “ماي سبيس” حضورها الكبير على مواقع التواصل الاجتماعي للترويج لنظرية الأرض المسطحة. وفي خطوة كانت على الأرجح حيلة رخيصة لجذب الانتباه، تحدث نجم يوتيوب “لوغان پول” في مؤتمر للأرض المسطحة وأعرب عن دعمه للنظرية.

ومهما كان الدافع، في كل مرة يؤيد فيها مشهور نظرية الأرض المسطحة، يسترعي الأمر انتباه الملايين من المستخدمين على مواقع التواصل الاجتماعي.


ولكن ليست شبكة الإنترنت هي المُلامة الوحيدة. ففي نهاية المطاف، تريد منصات التواصل الاجتماعي إعطاء الناس ما يريدونه. وهذا ما صُممت لأجله. لو شاهدت مقطع “يوتيوب” عن الأرض المسطحة، ستستمر الخوارزمية بتوصية مقاطع فيديو عن الأرض المسطحة. وإذا تابعت كبار أنصار نظرية الأرض المسطحة على “تويتر” فستقترح عليك المنصة متابعة مستخدمين من أنصار النظرية ذاتها.

وتفعل أدمغتنا ذلك من تلقاء نفسها دون الحاجة إلى مساعدة مواقع التواصل الاجتماعي. ويسمى ذلك الانحياز التأكيدي . نحن نميل إلى اختيار ما يعجبنا من الأدلة وترويج المعلومات التي تتوافق سلفًا مع نظرتنا للعالم.  تُوسِّعُ شبكات التواصل الاجتماعي ميولنا الطبيعية لتأكيد انحيازنا. وهي تعمل على تحسين العيوب في تفكيرنا الناقد وجعله تلقائيًّا.

ويمكن أن تكون لهذه الاعتقادات عواقب وخيمة. ولا تزيدها مواقع التواصل الاجتماعي إلا سوءًا من خلال إطالة أمدها.

لا أريد الإسهاب في نقد مواقع التواصل الاجتماعي. أنا أحبها حقًا وأستخدمها كل يوم. يساعدني “فيسبوك” على تذكر أعياد ميلاد الناس ويبقيني على تواصل مع الأصدقاء والعائلة الذين كان يمكن أن أفقد الاتصال بهم منذ زمن. يوصلني “تويتر” لأعمق أفكار المشاهير ومن أحب مِن الذين ما كنت لأصل إليهم في الواقع. وبدون نسب المشاهدة التي توفرها مواقع التواصل الاجتماعي، ما كان معظم ما أفعله ممكنًا.

ليست مواقع التواصل الاجتماعي هي المشكلة بل سلوك البشر. فمواقع التواصل الاجتماعي تؤدي دور العدسة المكبرة فحسب. يمكننا إعادة صياغة الخوارزميات وإعادة تصميم واجهة المستخدمين وتنظيف الشبكات الاجتماعية من المعلومات المغلوطة ولكننا سنكون في صِدام دائم مع أفكارنا الخاصة.

 

ومن بين كل الاعتقادات التي يصدقها البشر، تُعد نظرية الأرض المسطحة اعتقادًا غير مؤذٍ، أي أنها لا تضر بأحدٍ فعلًا. وبالنسبة لمعظم الناس، لا يهم ما إذا كانت الأرض مسطحة أم لا ما دامت مكانًا يشعرون بالانتماء إليه.

إذن، لماذا يُعد إيمان بعض الناس بأن الأرض مسطحة أمرًا مهمًّا؟

وكما تؤجج السيكولوجيا المعيوبة نظرية الأرض المسطحة، تؤجج السيكولوجيا المعيوبة ذاتها مناهضي اللقاحات ومُنكِري تغيّر المناخ. وأفضى تفشي الأمراض التي يمكن الوقاية منها إلى شعور السكان الضعفاء بالخطر. وأدَّى التأخير والتهاون في تقليل انبعاثات غازات البيوت الزجاجية لارتفاع منسوب البحر بمعدل متر. 

سيؤدي ذلك إلى تهجير الملايين من الناس ومحو مدن برمتها من الخريطة. هذه اعتقادات لها عواقب وخيمة وحقيقية. وتزيدها مواقع التواصل الاجتماعي سوءًا بإطالة أمدها.

ولكن قد لا يكون الحل فعلًا التقليل من استخدام مواقع التواصل الاجتماعي.

ربما يجدر بنا حذف “فيسبوك”، وتسجيل الخروج من “تويتر”، وقطع الاتصال نهائيًا، ورفض استخدام الإنترنت. والانعزال والتواري عن الأنظار. ومن الواضح أن استخدام الإنترنت بكثرة ليس بالأمر المحمود.

ولكن التقليل من استخدام مواقع التواصل الاجتماعي قد لا يكون الحل فعلًا.

بفضل الإنترنت، نحن على تواصل أكثر من أي وقت مضى. ومن خلال شبكات الاتصال، نتشارك أفكارنا ومشاعرنا (حتى عبر الرموز التعبيرية). ونشارك مقاطع فيديو وصورًا لقططنا. حتى أننا نشارك مواقعَنا الحالية وبعضًا من أكثر اللحظات عاطفية في حياتنا. وقَلَّ ما لا نشاركه هذه الأيام.

وإذا كان هناك أمر يتشارك فيه مناصرو نظرية الأرض المسطحة ومناصرو نظرية الأرض الكروية فهو شغف الوصول إلى الحقيقة. في بعض الأحيان، التفهم يعني تقبُّل الحلول التي لا نحبها أو الحلول التي تتطلب منا التواصل مع الناس الذين لا نتفق معهم. لا يمكن أن نعزل أنفسنا؛ نحتاج وجهات نظر خارجية لنسيطر على أنفسنا. يجب أن يكون جوهر نظام اعتقاداتنا خاضعًا للتمحيص وإلا سيصبح باليًا مع الانحياز التأكيدي.

وقد تكون الطريقة المثلى لفعل ذلك  من خلال شبكات التواصل الاجتماعي. ففي نهاية المطاف، يقولون بأنهم يريدون تقريب العالم من بعضه. ودون أن نكون متفائلين جدًا حيال الأمر كله، فإنه يجدي فعليًّا. إن معرفة التصورات غير الواقعية أو الاعتقادات وتحديها على نحو بنَّاءٍ وعدم المواجهة هي إحدى الطرق الرئيسة للعلاج السلوكي المعرفي المهني.

بصرف النظر عن التعارض التام الذي قد تبدو عليه اعتقاداتنا، وحتى إن بدونا وكأننا نعيش على كواكب مختلفة، علينا أن نؤمن بأننا يمكن أن نصل إلى أسس مشتركة.


بقلم: مات ج ويبر | ترجمة: مريم الريامية | تدقيق: عهود المخينية | المصدر

Exit mobile version