منذ سنينَ يستمرُّ حبي للغةٍ أخرى، غيرَ الإنجليزيةِ التي أكتب بها. حُبي تشوبه الصعوبة، فأنا في كل يوم أحاول تعلم القليل من (لغة الأوجِبي) . فقد اعتدت أن أحملَ جداولَ أفعالِ الاقترانِ في حقيبتي، مع مذكرة صغيرةٍ لأدوِّنَ فيها خواطري عن تأليف الكتب، أو أدون حواراتٍ مثيرةً، أو فُتاتَ لغاتٍ أسمعُها، أو عباراتٍ تطرأُ ببالي. أما الآن، فمذكرتي الصغيرة أصبحت تحتوي على كميةٍ متنامية من كلمات (الأوجبي) فإنجليزيتي غارت، و أوجبيتي توارت، فغدوت كمثل العاشق غير الوفي، أسعى لإرضاء الطرفين.
من لغة (الأوجيبيموين) جاءت لغة (آنشينابيموين)، المسماة بكلام (التشيبوا)، والتي كان آخر من يتحدثها من عائلتنا هو جدي من والدتي پاترك گورونو،و هي لغة متفرعة من (الأوجيبي)، وتُنسب لجماعة جبل السلحفاة، ولقد كان استخدامه العام لها في صلواته. وفي صباي، كنت أظن الأوجيبيموين لغة مخصصة للصلوات، كمثل اللاتينية في الطقوس الكاثوليكية. فكنت غير مدركاً بأن في كندا و ولايتي منيسوتا و ويسكانستون، تُستخدم من قِبل ثلة قليلة من الناس.
حينما بدأت دراسة هذه اللغة، كنت أعيش في نيوهامشتر، وكنت في السنين الأولى أمارس أنواع مختلفة من هذه اللغة. ولسبب اسلوبها المختلف ، لم استطع إلا تعلم عبارات مؤدبة، ولكنني استمدتُ العزم و قاومت شعوري بشوقي لسكني القديم من خلال صوت المؤلف بايسل جونسن وهو يستعمل تلك اللغة بهدوءٍ و هيبة.
مارست لغة الأوجبي في خلوتي أثناء قيادتي لسيارتي في طُرق نيوإنجلاند ذات المنعطفات الشديدة. دوماً أصطحب معي أشرطة التسجيل في كل مكان. عَضت قلبي هذه اللغة بعمق، ولكن لم يكن شوقي لها مُلَبى. فلم يكن لي من أكلمه، ولم يكن هناك من يتذكر جدي لما كان واقفاً مع عصا مقدسة بجوار شجرة الأجداد المكعبة، وهو يتكلم مع أرواح الأسلاف. لم تبقى حالتي على ما هي عليه، فلما عُدت إلى الغرب الأوسط، و استقريت في ولاية مينيابلس، لجأت لابن قبيلتي (قبيلة الأوبيجي) لأتعلم منه، و وجدت معلمًا من كبار الأوبيجي، يُدعى جيم كلارك من مقاطعة ميلي لاك، صاحب مركز (ناويي گييز) التي تعني بالأوبيجية (مركز النهار).كان رجلٌ من حقبة محاربي الحرب العالمية الثانية، ذا شخصية باعثة للسرور، ومشرقة، و يتمتع بلطافة غريبة تتجلى في أخفى التفاصيل. إذا ضحك، كل شيء فيه ضحك معه، و في وقت الجد، تستدير عيناه كعيني الغلمان.
مركز (ناويي گيبز) قدم لي ذكاء اللغة العميق، و مهد لي الطريق لمغامرة أبدية لأتحدث بها بطلاقة، و لعلةٍ واحدة؛ وهي لأفهم النُكتة. كما أني أردت أن أفهم الصلوات، و تراث القصص المقدسة (الأديسووكانگ). أما أقوى دافع لتعلم اللغة لا أستطيع مقاومته، فهو الفكاهة المتفجرة التي تحدث كلما يجيء فيها أحدٌ من قبيلة الأوبيجي.
في هذا الزمن يتحدث فيه الأغلبية بأكثر من لغة و توجد ألغام من الكوميديا بين اللغتين، الأوجيبية والإنجليزية. وأكثر نكتنا تكون على غرابة الأمريكي، الذي نسميه (گيتشي-مووكومان) والتي تعني السكينة الكبيرة. فهذه الكلمة تناسب تصرفات الأمريكي وسلوكياته.
هذه الرغبة لتعميق لغتي الجديدة تضعني في موقف محرج أمام حبي الأول،الإنجليزية. رغم أنها اللغة التي أُجبر عليها أجداد أمي. الإنجليزية هي السبب الذي جعل أمي لا تتحدث لغة أجدادها، والتي جعلتني أعرج في طريقي للوصول للغة أصلي. أعد الإنجليزية مثل طوافين الجراد التي تأتي على كل الوديان والبقاع، باعثة الدمار والهلاك. ولكن الطبيعة الحيادية للغة المستعمر، تقوي من قدرة الكُتاب. فمن تربيتي على اللغة الإنجليزية؛ أشعر وكأنني سبع مهجن. لا يخفى على أحد، بأن علاقتي بلغتي الأصلية تختلف عن علاقتي بالإنجليزية، فكيف لي أن أعود لها وأنا لم أملكها؟ فلما على كاتبة مثلي، تعقيد حياتها بتبني لغة أخرى؟ لحاجة خاصة فيني و غير خاصة في الوقت نفسه، وهي أني وجدت نفسي لا أستطيع التحدث مع إلهي إلا بلغة أجدادي، باللغة التي استعملها جدي، فصوتها يطمأني.
فعلى حسب قبيلة الأوجيبي، الروح العظيمة واللطيفة التي تسكن صدور كل الخلائق، والتي تسميها قبيلة اللاكوتا باللغز الأعظم، لا أشعر باتصالي معها إلا من خلال لغتنا. أما تدريبي الكاثولويكي فقد أثر على ذهني و على تفسيري للرموز، ولكنه لم يلمس قلبي. ناهيك أن لغة (الأوجيبيموين) هي من اللغات الناجية التي تطورت في الشمال الأمريكي، فلها ذكاء مميز مستمد من فلسفتها التي تشكلت بطبيعة الأراضي الشمالية، بركها و أنهارها و حشائشها، و من حيوانتها الأصلية في مساكنها الطبيعية و حتى مواقع صخورها. وبصفتي كاتبة أمريكية شمالية، ينبغي علي أن أفهم علاقة الانسان ببيئته، و سأصل لهذا الهدف مستخدمةً أداتي المفضلة، ألا وهي اللغة.
ففي لغة الأوجيبي ولغة قبيلة داكوتا هناك اسم لكل شيء مادي في المحيط، إضافة إلى أسماء جديدة من معالم ولاية مينيسوتا، بما فيها من حدائق المدن المعاصرة و البحيرات الجديدة. فإن لغة الأوجيبيموين ليست متجمدة في ماضي محنط و مقدس. ففيها كلمات للحواسيب والفاكس والانترنت، و للحيوانات المستوردة في حدائق الحيوان، فمثلا فرس النهر اخترنا ان نسميه خنزير الماء بلغتنا باستخدام لفظ (آنآميپيگ)، وكذلك اسمينا القرود بصياديّ القمل (ناندووكوميشينه). وهنالك كلمات نستخدمها للش#1593;ور بالطمأنينة والسكينة وهي كلمات من برنامج الخطوات الاثنى عشر، و كلمات مقتطفة من ترجمة ألحان اغاني تربوية. و تتوفر لدينا مسميات للشعوب غير المنتمية لقبيلتي الأوجيبي و آنيشين، فعلى سبيل المثال، يسمى الآسيويين لدينا بشعوب الشاي بالكلمة المُركبة ( الآنبيشآبووكيوينينوانگ)، أما الأسكندنافيين، فهم شعوب السنجاب (أگمنگوسينبنيواگ)، و ما زلت محتارة لفهم علة هذه التسمية.
الكفاح لنيل لغة قاتل أهلها لبقائها.
لسنين عديدة لم أدرك سوى سطح (الأوجيبيموين). كمثل دراسة سائر اللغات، البدء يكون بالغوص في أفعالها المتراكبة، و قد اتضح أن لغة الأوجيبيموين لغة أفعال، فهي تصف كل الأفعال التي من الممكن تخيلها. فثلاثة أرباعها أفعال، تتشكل من سبعة آلاف نوع من أنواع الأفعال. هذه العاصفة من أنواع الأفعال تجعلها لغة متناهية الدقة. فلقد كان تشيبگي-إگي يصف لنا بكلمة واحدة الطريقة التي يُلصق بها الشريط اللاصق نفسه بالماء من طرفه الخلفي. وهناك كلمة مخصصة فقط لحالة سقوط رجل من دراجته النارية و في فمه انبوب التدخين ثم يخرج الدخان من خلف رأسه، فكما ترى، من الممكن توفير اسم لأي فعل معين . ولكن ما يهدأ من روعي، هو وجود القليل من الأسماء. لكي لا أجحف في تشخيص اللغة، أراها تتسم بالزهد، وليس الفقر، و كذلك لا يوجد فيها تصنيف مذكر ومؤنث. فلا توجد ضمائر مؤنثة او مذكرة ولا ادواة تعريف للجنس.
فالأسماء غالبا ما توصف بأنها حية أو ميتة أو بمعنى آخر، متحركة أم جامدة. فكلمة (آسين) تقال للحجر النشط بينما يسمى الخامل بالجد او الجدة وله قداسة مميزة جدا في فلسفة الأوبيجي. فمنذ بدأت بالنظر للحجارة ككائنات نشطة بدأت أحتار، أأنا من يضعها بيدي أم هي من وضعت نفسها بين يدي؟ فالحجارة ليست كما في ذهني حينما أفكر فيها بالإنجليزية ، فلا أستطيع أن أكتب بالإنجليزية عن الحجارة إلا وأتذكر معاني الأوبيجية المستمدة من فكر باقي شعوب القبيلة الأم (انيشينابي) التي تؤمن جميعها بأن الكون نشأ بحوار دار بين الأحجار. و لغة الأوجيبيموين لغة أطياف المشاعر القابلة للخلط، كخلطات الأعشاب. فهنالك كلمة مخصصة للقلب الذي يذرف دموعه بصمت.
الأوجيبية ممتازة في وصف مواطن الذهن و أدق الأوضاع الأخلاقية وأوزوزامينيما تعبر عمن يستعمل موهبته بعشوائية وأوزوزاميچيگي تعني بأنك قادر على إحياء مشاعرك الإيجابية القديمة. وهناك كلمات عن الحب أكثر مما يوجد في الإنجليزية. فهناك كمية هائلة من مسميات الرتب القبيلية و التصنيفات الأسرية. وهي لغة تعبر عن إنسانية إلهنا و الرغبات الجنسية الجنونية لدى الكائنات التي نضيف لها أقدس المنازل. ببطء تسللت الأوجيبية لأسلوب كتاباتي بالإنجليزية، بتبدل الكلمات، وتغير المعاني و المفاهيم أثناء كتابتي. لا أخفيكم سراً، فكرت كذلك بكتابة قصص بلغة الأوجيبي، لأستشعر الماضي، ولكن مستواي يعادل طفلَا عمره أربع سنوات . كما أنها لغة لفظية وغير إملائية، تبنت الأحرف الإنجليزية في سنينها الأخيرة. أثناء الحرب العالمية الثانية، كتب ناويي گييز رسالة لعمه في أوروبا مستخدما الأوبيجية. عبر فيها بكامل حريته عن النشاطات السياسية، فلا يستطيع محررًا منعه، لعجز الناس عن فهم هذه اللغة.
أما التشكيل الإملائي للأوجيبية فوحد منذ مدة ليست ببعيدة ولكن بسبب تعدد اللهجات، لا يفهم الكثير من متحدثيها كلامي الذي أكتبه بالأوجيبية، و يظنونني مخطأةٌ. ورغم قدرتي الضئيلة للحديث بها، لم أرى تمَلمُلًا أو استهزاءً من المتحدثين الطلقاء فيها، يبدو أنهم ينتظرون أن اخرج من الغرفة. أفكر دائما بأن هناك شعورًا بالضرورة لإستعمال اللغة بسرعة. فمتحدثي الأوجيبية، يعدون هذه اللغة هي حبهم الآسر، فهنالك روح مكنونة بكل كلمة.
و قبل تعلم هذه اللغة، على الطالب جلب أطعمةٍ مصحوبةٍ بالتبغ ليتقرب بها لهذه الأرواح. فإذا أراد أحدهم تعلم كلماتها التي تلوي الألسن، فعليه أن يقدم طقوسًا خاصةً. وعلى الرغم من الأسماء التي ألفظها بغرابة و بطريقة متكسرة، إلاأنها طريقتي التي أعتز بها للتواصل مع الأرواح، وهذا ما يعرفه معلمي عني، و لهذا ستعذرني إنجليزيتي في التقصير بحقها.
بقلم: لويس إردريتش | ترجمة: جري سالم الجري | تدقيق: صفا الهنائية | المصدر