أڤيسينا: العلَّامة الفارسيُّ ذو البصمة الأعظم على مفاهيمنا الحديثة في العلوم والطب والفلسفة

قبل ما يقارب الألف سنة، سقط أمير مدينة بخارى العتيقة، الأمير نوح بن منصور طريح الفراش لعلَّة أعجزت الأطباء فلم يجدوا لها دواءً، فاضطروا أن يرسلوا إلى شاب يُعْرف بابن سينا، ذاع صيته على صغر سنِّه لغزارة علمه، وعلى يديه كتب الله الشفاء.

كان ابن سينا فيلسوفًا وطبيبًا وصيدلانيًا وعالمًا وشاعرًا فارسيًا عاش في القرن الحادي عشر، وَبلغ من العلم مبلغًا جعله يترك أثرًا في العلوم الطبية والفلسفية في كل من أوروبا والعالم الإسلامي. وكان ابن سينا يُعرف باسم أڤيسينا في الركن اللاتيني من العالم.

وتُرجم كتاب أڤيسينا بعنوان “قانون الطب” من العربية إلى اللاتينية خلال القرن الثاني عشر للميلاد، وهو أهم المراجع الطبية في الغرب حتى القرن السابع عشر للميلاد. وقد طرح عددًا من المصطلحات الطبية التي استُخدمت لقرون وقرون.

“الطب العربي” ، 1907 ، بقلم فيلوسو سالغادو. كلية الطب نوفا ، لشبونة.

 

وكان كتاب “قانون الطب” بمثابة حجر الأساس لأصول التجارب العلمية في مجال الطب، والتي لولاها لما كان الطب الحديث على شاكلته الحالية.

فعلى سبيل المثال، إن استخدامه للمبادئ العلمية لقياس سلامة الأدوية وفعاليتها هو الأساس الذي بنيت عليه التجارب الإكلينيكية والصيدلية (الفارماكولوجية).
وكان لأڤيسينا حضور في برامج الأخبار التلفزيونية منذ مدة قريبة وذلك لأهمية عمله في مجال العدوى؛ حيث أنه كان من أوائل الذين كتبوا عن نظرية الجراثيم والعدوى في كتاب القانون، والذي حثَّ فيه أيضًا على اللجوء إلى الحجر الصحي لاحتواء العدوى.
وتفرَّدَ أڤيسينا بتميُّزه النادر في الفلسفة بما أذاع صيته في الثقافة الفلسفية الأجنبية والمحلِّية، ويشير إليه البعض بأنه أعظم المفكرين القدماء.

العبقري الفريد

مسقط رأس ابن سينا ​​، بخارى. تقديم المؤلف

ولد عبد الله بن سينا في بخارى عام 980 ميلادية (تعرف حاليًا بأوزباكستان وكانت سابقًا جزءًا من الإمبراطورية الفارسية).
وظهرت علامات النبوغ على أڤيسينا منذ نعومة أظفاره، فزعم في سيرته الذاتية أنه أتقن كل ما نعرفه عن الفلسفة قبل بلوغه الثامنة عشر من عمره.

وترك أڤيسينا بصمة واضحة تمثَّلت في نتاجه البديع؛ حيث يُقدَّر أن مجموع أعماله يبلغ 132 نصًّا، تشمل مواضيعً في المنطق والفلسفة الطبيعية وعلم الكون الفيزيائي والميتافيزيقيا وعلم النفس والجيولوجيا وغيرها الكثير. وكتب عددًا من نصوصه على ظهر حصانه أثناء ترحاله بين المدن!

كان عمله -في براعته- بمثابة الموسوعة الجامعة للمبادئ المختلفة للعصور اليونانية العتيقة وبوادر الخلافة الإسلامية المبكرة والحضارة الفارسية في نظام منطقي للمعارف بما يغطِّي واقعنا بأسره.

وتشكلت ملامح نصوص أڤيسينا مع نهوض الحركة العربية-الإغريقية للترجمة ببغداد، ومنها لعبت الدور الأكبر في حركة الترجمة العربية-اللاتينية التي أعادت فلسفة أرسطو إلى الفكر الغربي بما كان فيه من الثراء ما يتحدث عن نفسه.

 

تعليق لاتيني على قانون الطب لابن سينا ​​للطبيب الإيطالي جنتيليس دي فولجينيو ، 1477.

 

وكان هذا أحد فصول القصة العظيمة، قصة نقل المعارف من العالم الإسلامي إلى أوروبا.
ومنذ القرن الثاني عشر أصبح الفكر الأوروبي القديم مصبوغًا بألوان فكر ابن سينا، واستدلت كتابات توماس أكينا بمئات الاقتباسات المأخوذة من ابن سينا فيما يخص مسائل العناية الإلهية وغيرها من المسائل.
وبحث أكينا أيضًا فيما من شأنه أن يدحض بعض مواقف ابن سينا ومنها مسألة خلود العالم.

كتاب الشفاء

كتاب الشفاء هو الاسم الذي أطلقه أڤيسينا على كتاب بلغ من الأهمية مبلغ كتاب القانون عند ترجمته إلى اللاتينية.

رسم أحشاء ، “قانون في الطب” لابن سينا.

وينقسم الكتاب إلى فصول عدة تختص بعلوم المنطق والعلوم والحساب والميتافيزيقيا، وكانت منبعًا لعدد من الدراسات التي تفرق بين الوجود والماهية علاوة على التجربة الفكرية الشهيرة باسم تجربة الرجل الطائر والتي تهدف لإثبات وعي الروح بوجودها باطنيًا.

رائد في علوم الطب

امتزجت في كتاب القانون أصول الطب الإسلامية مع أصول أبقراط (460-370 ق.م) وجالينوس (129-200م) بطريقة مذهلة، كما تخللته عناصر من الطب الفارسي القديم والطب الهندي وطب حضارة الرافدين بالإضافة إلى نتاج تجارب ابن سينا في مجال الطب.

ويقدِّم أڤيسينا في كتاب “القانون” عددًا من التشخيصات والعلاجات لعدد من الأمراض التي لم يكن اليونانيون قد سمعوا بها بعد، وذلك جعله أول من وصف مرض التهاب السحايا، علاوة على ذلك فإنه أضاف عددًا من المداخلات في باب استخدام التخدير والمواد المضادة للالتهابات ومسكِّنات الألم.

وكان لابن سينا نظرة مستقبلية تمثلت في توجهه نحو الطب الوقائي، حيث اقترح عددًا من التغييرات في النظام الغذائي والحركات الرياضية التي من شأنها علاج بعض الأمراض والوقاية منها.
وكان لأڤيسينا دور كبير في تطوير علم طب الجهاز الدوري والقلب وفهمنا الحديث لأمراضه.
كما أن وصف أڤيسينا الدقيق للأوعية الدموية وتدفق الدماء والانقباضات التي تحدث في الجهاز الدوري (الدم وحركته داخل الجسم) ساعد الطبيبَ العلامة السوري ابن النفيس (1213 – 1288 م) في التمكن من أن يصبح أول من يصف حركة الدماء الرئوية، وحركة الدم من القلب إلى الرئتين وعودتها من جديد إلى القلب.

وحدث ذلك كله في عام 1242م، أي قبل عدة قرون من اكتشاف العالم وليام هارفي للنتيجة ذاتها بإنجلترا في القرن السابع عشر للميلاد.

طبيب يقيس نبض المرأة ، من مخطوطة من القرون الوسطى لقانون ابن سينا.

الطب الشامل

إحدى أهم الجوانب الإبداعية التي حققها كتاب “القانون” هي تلك المعنيّة باعتماد صحة جسدنا ورفاهيته على صحة عقل الإنسان والحالة النفسية له والعلاقة بين صحة القلب وصحة الجانب المرتبط بالمشاعر في حياة الفرد.
وظهرت أهمية هذا الجانب حديثًا خلال الأشهر الماضية مع اكتشاف الأطباء لزيادة الأضرار على القلب بسبب عدد من الضغوطات التنفسية العاطفية المترتبة على الجائحة.

ولذا نجد أن نظرة أڤيسينا التي تناشد بإيجاد فهم شامل ومتكامل مبني على عدد من الأنظمة المترابطة تساهم في زيادة قاعدة شعبيته العالمية التي لا تنطفئ مع مرور الزمن.


بقلم: داريوس سيبيهري | ترجمة: سحر عثماني | تدقيق: عهود المخينية | المصدر

Exit mobile version