لم يكن غاري كوبلمان، مدرس علوم حائز على عدة جوائز، يتوقع أن ينجح في الالتحاق بالجامعة؛ ففي المدرسة الابتدائية في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي كان متعسرًا في الرياضيات والقراءة وغالبًا ما يحصل على تقدير جيد أو مقبول، كان يتلعثم عند التحدث أمام زملائه الذين اتخذوا ذلك محل سخرية، لذا كانت دائرة صداقاته ضيّقة جدًا. وفي بداية دراسته في الثانوية في عام 1966، أخبره أحد أساتذته أن التحاقه بالجامعة قد يكون ضرباً من المستحيل .
وكالعديد من القصص، يحدث أن معلمًا واحدًا يملك عصًا سحرية فيغير المسار جذريّا. كان بطل القصة هو دوغ كلاين، مدرس اللغة الإسبانية، فقد أشاد بشكل متكرر بنقاط قوة كوبيلمان مثل أخلاقياته ومرونته في العمل وساعده أيضًا في التغلب على المضايقات والتنمر. وعندما اكتشف كلاين وكوبلمان أنهما يشتركان في شغف الخيول، قام بتعليم تلميذه كيفية التنافس في عروض الخيل، وقد حقق انتصارات في العديد منها.
لم يكتفِ بذلك، بل شجعه أيضًا على تجربة الجامعة لمدة عام على الأقل. في عام 1970، قرر الالتحاق بجامعة ميشيغان الشرقية Eastern Michigan University للحصول على شهادة في التدريس، وهناك التقى بمعلم آخر غيّر حياته؛ ففي إحدى دروس أساليب القراءة، لاحظ أستاذه صعوباته في القراءة وقيّمها، فوجد أنه يعاني من عسر القراءة ومشاكل في السمع. واتباعًا لنصيحة أستاذه، بدأ كوبلمان في استخدام الكتب المسموعة والالتقاء بمعلميه بعد المحاضرات لتلقي مساعدات إضافية. كما أدرك أيضًا أن تصميم التجارب والمشاريع الخاصة به ساعده على فهم كيفية عمل النظريات في العالم الحقيقي. وفي عام 1976، تخرج كوبلمان بدرجة الماجستير في التعليم الابتدائي بمرتبه عليا بين أقرانه.
وقد دفعت اكتشافات كوبلمان حول التحديات التي واجهها أثناء تعليمه إلى وضع طريقة بديلة لتدريس العلوم لجميع الأطفال الصغار، بمن في ذلك ذوو صعوبات التعلم، خاصة في التجارب العملية في البيئة الأكاديمية التقليدية تمامًا مثل ما حدث له. وما بدى كغرفة فارغة بها عدد قليل من النباتات عندما بدأ كوبلمان التدريس في بليسفيلد Blissfield في عام 1976، تحول منذ ذلك الحين إلى مختبر العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات المشهور الذي يستقبل اليوم الزوار من جميع أنحاء البلاد لمشاهدة ما يقرب من 80 نوعًا من الحيوانات وأكثر من 125 نوعًا من النباتات.
قبل محادثتنا بساعات قليلة، كان كوبلمان قد جهّز مختبر الحياة البيئية باستخدام بضع صناديق مليئة بألعاب الحيوانات المحشوة وسط أقفاص من السحالي والثعابين والحشرات الحية.
وبعد محادثتنا، شاهدنا عشرات من أطفال الروضة مبتهجين يطوفون حول الغرفة ممسكين بألواح الكتابة، ويجمعون بعض البيانات لمشروعهم “هل هي حية أم غير حية؟”، سألت فتاة ترتدي نظارة وردية مستديرة زملاءها في الفصل “هل يتنفس؟”، كان زملاؤها حينها قد ألصقوا وجوههم بالقفص الزجاجي الذي يحتوي على عنكبوت ذئبي. ومن جانبها نادت فتاة أخرى عندما تحرك العنكبوت فجأة “إنه حي!”، وصبي آخر يتساءل “ما البيانات الأخرى التي يمكننا إضافتها؟” “هل هناك ماء؟ هل يوجد طعام؟ “دوّن جميع الأطفال على ألواح الكتابة الخاصة بهم. وعلّق كوبلمان أن هذه المجموعة من الأطفال سيستكشفون النباتات الأسبوع المقبل من خلال طرح نفس الأسئلة مثل: “هل الأشجار حية أم لا؟ هل تتحرك؟ هل تشرب الماء؟ كيف لنا أن نعرف؟”
وبينما كان الأطفال يتجمعون حول لعبة سلحفاة محشوة لتسجيل الأدلة على ألواحهم، قالت ببغاءً رمادية تبلغ من العمر 32 عامًا أُطلق عليها اسم “بادي” “داستن، اجلس من فضلك!” مقلدةً أستاذا من الصف الدراسي المجاور، وكأغلب الببغاوات، فإن “بادي” اجتماعية للغاية، وتفضل الجلوس في قفصها بالقرب من مدخل المختبر لأن الأطفال يحبون التحدث معها.
لخّص كوبلمان الفلسفة الكامنة وراء المنهج التعليمي الذي أطلق عليه “hands-on, minds-on” وهي “يجب أن تبدأ جميع الدروس بما يثير اهتمام الأطفال” لهذا يحاول إيجاد فرص يومية للطلاب للتفاعل مع العالم الطبيعي وطرح الأسئلة وجمع البيانات وتحليلها والعمل مع أقرانهم للتوصل إلى إجابات؛ فالأطفال بطبيعتهم خاصة في سن مبكرة يميلون إلى الاهتمام بالحيوانات والحشرات. أعتقد أن علوم الحياة هي نقطة انطلاق قوية لإثارة اهتمامهم بالأرض والعلوم الطبيعية ثم توسيع ذلك ليشمل الرياضيات والجغرافيا والدراسات الاجتماعية.”
وبالرغم أن كوبلمان قد شارك فضوله حول عالم الحيوان في طفولته، إلا أنه نادرًا ما كانت لديه فرص لطرح الأسئلة في الفصل. وبعد المدرسة، شعر بالحرية في استكشاف حقول المحاصيل والغابات بالقرب من مزرعة أسرته عن طريق تتبع آثار الثعلب أثناء ركوب مهره “برينس” والحفر في الجداول ومراقبة الحشرات المختلفة، ثم البحث عن أسمائها وأنماط سلوكها في كتب المنزل.
وقد أكدت مراجعة أجريت عام 2003 لـ 110 دراسات حول سلوكيات الأطفال تجاه العلوم في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا أن اهتمامهم بالموضوع يبدأ في التضاؤل بعد سن الحادية عشر مما يشير إلى أن السنوات الابتدائية هي وقت مهم لتعزيز مشاركتهم في العلوم واستمرارها.
فقد وجدت الدراسات التي تهدف إلى بحث الوقت المخصص للعلوم في المراحل الابتدائية منذ منتصف التسعينيات أن هناك تباينًا بين الولايات، ولكنها أظهرت عموماً انخفاضاً بشكل عام وخاصة في المدارس التي تخدم أعدادًا مرتفعة من الأطفال من ذوي الدخل المنخفض. وفي الوقت نفسه، من المتوقع الآن أن تكون الوظائف في المجالات المتعلقة بالعلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات من بين أسرع الوظائف نموًا في أمريكا، وفقًا لمكتب إحصاءات العمل الأميركي.
لقد كان كوبلمان يحلم بإنشاء مختبر علوم بمجرد أن بدأ العمل في مدرسة بليسفيلد الابتدائية Blissfield Elementary، ولكن لأكثر من 20 عامًا لم يكن يملك التمويل اللازم لذلك، ومن حسن الحظ، تلقت المدرسة مِنَحًا من بعض المؤسسات المحلية وأنشأت مختبرًا للصفوف الابتدائية في عام 1999. أما اليوم، فإن معمل الحياة البيئية يفتح أبوابه لأكثر من 1200 طالب في المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية بالمنطقة.
وعلى مر السنين، وضع معلمو الرياضيات واللغة الإنجليزية والدراسات الاجتماعية للمراحل كلها خططًا للدروس بحيث يُدرج المختبر ضمنها؛ فعلى سبيل المثال، تمنع فصول الشتاء الطويلة القاسية في ميشيغان الطلاب من التفاعل مع العالم الطبيعي طوال العام الدراسي، ولكن بفضل المختبر يمكن للطلاب التعرف إلى الغابات المطيرة والصحاري ومختلف النظم البيئية الأخرى في جميع الفصول من خلاله.
بالإضافة إلى وجود بركة مياه عذبة في غرفة تحاكي غابة مطيرة استوائية تعيش بها العشرات من الأسماك والضفادع والسلاحف. وبينما يدرس الطلاب أنظمة المياه العذبة من خلال استكشاف النباتات والحيوانات التي تعيش في البركة، يمكنهم مقارنتها بأشكال الحياة الأخرى في بركة مياه مالحة قريبة تبلغ سعتها 1500 غالون. وهناك أيضًا قسم به أنواع مختلفة من الهامستر والسحالي والعناكب والثعابين في منطقة أُعدت كنظام بيئي صحراوي مليء بالصبار والنباتات المُقاومة للجفاف، يعيش “بادي” في قفص للطيور بجوار هذا القسم. أخبرني طالب بالصف الخامس يعمل كأحد “حراس حديقة الحيوان” في المختبر “أنا متخصص في الهامستر”.
من وجهة نظر كوبلمان، يولد الأطفال بكل سمات عالِم العلوم الجيّد؛ فهم فضوليون و طموحون لاستكشاف محيطهم وسعداء بالتجربة، لكن الكثير منهم يدخلون الفصول الدراسية في المدارس الابتدائية التي تقضي على هذا الشغف بدروس منفصلة عن حياتهم والعالم الطبيعي من حولهم. وبينما كنا نتحدث كان يحمل أحد أشهر سكان المختبر وهو تنين ملتحٍ يُدعى هارولد، سأل طالب في الصف الثاني كوبلمان “هل يعض؟ هل سيهرب؟ ماذا يحب أن يأكل؟ كيف لا يملك أسنانًا؟” فأجاب كوبلمان بلهفة على كل سؤال.
يقول جون رودولف، مؤلف كتاب How We Teach Science: What’s Changed، and Why It Matters وأستاذ تعليم العلوم في جامعة ويسكونسن في ماديسون، إن الفصول الدراسية العلمية القائمة على الاستقصاء في الصفوف الابتدائية نادرة بل إن معظم المدارس تركز على المحتوى الواقعي. قد ترى طلابًا في المرحلة الابتدائية يُطلب منهم حفظ أجزاء من العين على سبيل المثال، ورسم مخططات وكتابة تقارير لاستكمال تعلمهم. قال رودولف إنه من النادر أن يحصل الطلاب على فرصة للمشاركة في حوار فكري حول أسئلة مثل “لماذا يمتلك البشر عيونًا؟” أو “كيف تختلف عيون الحيوانات المختلفة ولماذا؟”.
وأضاف: إن النهج الأخير يتطلب المزيد من تدريب المعلمين والتمويل والتقييمات المعقدة، لكن النتيجة تستحق العناء، لأن الطلاب لا يتعلمون التفكير النقدي ومهارات الاتصال فحسب، بل يطورون أيضًا فهمًا عميقًا وتقديرًا لكيفية إتيان العلماء بالأدلة ويتوصّلون إلى الاستنتاجات، والتي يعتبرها رودولف جزءًا مهملاً إلى حد كبير في تدريس العلوم. ويعتقد أن الافتقار إلى هذا الفهم يساهم في الأمية العلمية – من التشكيك في تغير المناخ إلى المعارضة المتزايدة إلى اللقاحات.
كان تأثير مختبر الحياة البيئية في بليسفيلد هائلاً، فقد تفوقت المنطقة الريفية باستمرار على متوسطات الولاية في الاختبارات العلمية الموحدة بين عامي 2002 و 2015، ووفقًا لما ذكرته مديرة المدرسة ليندا مولر أن في بعض السنوات احتلت مدرسة بليسفيلد الابتدائية مراتب متقدمة على مستوى الولاية، بالإضافة إلى أن العديد من طلاب المنطقة يتجهون إلى تخصصات في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في الجامعة، بما في ذلك الخريجين مثل جيم رينز، عالم المناخ والفضاء في جامعة ميشيغان، الذي ساعد بحثه في إرسال مركبة شمسية إلى الفضاء هذا العام، و جودي ستيرل، عالم وراثة الخنازير في جامعة ولاية آيوا. وفقًا للعديد من معلمي بليسفيلد، يختار العديد من الآباء مدارس المنطقة لأطفالهم، بما في ذلك المشرفة الحالية على المختبر كيم جراي، وهي معلمة في الصف السابع انتقلت إلى هناك مع أسرتها في عام 2003.
وبالنسبة لعشرات من الطلاب الحاليين والسابقين الذين قابلتهم، كان العمل في المختبر هو أهم ما يميز وقتهم في مدارس بليسفيلد. قال حارس حديقة الحيوان في الصف الخامس: “تعلمت أنه على الرغم من أن الهامستر من نفس النوع، إلا أنها تختلف في حاجاتها وما تحب”، وقال لي طالب بالصف السابع “كل يوم يبدو وكأنه يوم رحلة ميدانية”. قال أحد طلاب المرحلة الثانوية، الذي تقدم إلى عدة كليات لدراسة علوم الكمبيوتر “إن المختبر مذهل للغاية في بلدتنا الصغيرة”، وينسب الفضل إلى المختبر في جعل العلوم والرياضيات مادتيه المفضلتين.
حتى في فترة التقاعد، كان كوبلمان يزور المختبر يوميًا حتى حدوث الوباء، لكنه كان يقضي معظم وقته في التحدث في المؤتمرات العلمية وأمام صانعي السياسات للدفاع عما يعتبره وسيلة أكثر جدوى لتدريس العلوم. فقد أخبر حاكم ميتشيغان السابق ريك شنايدر وأعضاء مجلس إدارة الولاية في تجمع في عام 2017، إذا كانت القراءة وأوراق العمل والاختبارات الموحدة هي أفضل طريقة للأطفال للتعلم وإظهار معرفتهم، فإنه لم يكن ليتمكن من الالتحاق بالجامعة، ناهيك عن إنشاء مختبر STEM الذي استخدمه آلاف الطلاب الريفيين على مدار العقدين الماضيين.
قال كوبلمان: “من الصعب أن أشرح لغير المعلمين كيف يبدو الأمر عندما تلامس الطبيعة أو العلوم إحساس الطفل بالدهشة والانبهار، لكن أنا وزملائي نلمسها كل يوم، وهذه هي المكافأة التي لا يضاهيها شيء.”
بقلم: كريستينا ريزجا | ترجمة: زيانة الرقيشية | تدقيق: مريم الريامية | المصدر