لقد ناقشنا في الآونة الأخيرة المزايا الكثيرة لنظام ذاكرتنا الركيك وفي الوقت نفسه، الفعال للغاية. وأدركنا بفضل عالِم النفس اللامع دانييل شاكتر من جامعة هارفارد، والذي يركز على دراسة الذاكرة، ألا نكون قاسين في حكمنا على عيوبها. يعمل نظام الذاكرة الخاص بنا بكفاءةٍ في العموم، ولن يحدث تغيير كبير في أدائه إذا بدلناه بواحدٍ مُختلف.
ومع ذلك ، ذاكرة الإنسان ليست مثالية ، ونظرًا لأننا أعطيناها ” محاكمة منصفة ” ، فمن الجدير مناقشة المكمن الفعلي للأخطاء حتى نتمكن من العمل على تحسينها ، أو على الأقل أن نكون على دراية بها.
يُحدد شاكتر في كتابه الرائع : سبع مناطق واسعة تخذلنا فيها ذاكرتنا بانتظام. دعونا نلقي نظرة عليها حتى نتمكن من فهم أنفسنا والآخرين بشكل أفضل، وربما نتوصل إلى بعض الحلول المثلى. ربما يكون الدرس الأكثر أهمية هو أننا يجب أن نتوقع أن تكون ذاكرتنا معيبة من الحين إلى الآخر، وأن نأخذ ذلك في الاعتبار مسبقًا.
سنقوم بتغطية الكثير من المعلومات، لذلك سيكون هذا المقال متعدد الجوانب. هيا بنا نبدأ.
سرعة تلاشي الذكريات
تُسمى أول سقطة متكررة للذاكرة سرعة تلاشي الذكريات. جميعنا على دراية بها، ولكن ننسى أحيانًا أن نحدد سببها: النسيان الذي يحدث مع مرور الوقت.
أغلب ذكرياتنا، بلا شك، سريعة الزوال؛ قد نخسر الأشياء التي لا نحتاج إلى تذكرها أو لا نحتاج استخدامها بشكل متكرر مع مرور الوقت.
يعطينا شاكتر مثالاً على هذه الظاهرة:
في 3 أكتوبر 1995، وصلت المحاكمة الجنائية الأكثر إثارة في عصرنا إلى نتيجة مذهلة: برأت هيئة المحلفين أو.جاي سمبسون من القتل. انتشرت كلمة الحكم بالبراءة بسرعة، وكان رد فعل الجميع تقريبًا إما بالغضب أو الابتهاج، ولم يستطيع الكثيرون التحدث عن أي شيء آخر خلال الأسابيع والأيام التالية. بدى حُكم سيمبسون وكأنه حدث بالغ الأهمية ، يتذكره معظمنا بوضوح دائمًا: كيف تفاعلنا معه، وأين كنا عندما سمعنا الخبر.
هل يمكنك أن تتذكر كيف اكتشفت أنه تمت تبرئة سيمبسون؟ من المحتمل أنك لا تتذكر، أو أن ما تتذكره خاطيء. بعد عدة أيام من صدور الحكم ، قدمت مجموعة من الطلاب الجامعيين في كاليفورنيا للباحثين روايات مفصلة عن كيفية معرفتهم بقرار هيئة المحلفين. عندما فحص الباحثون ذكريات الطلاب مرة أخرى بعد خمسة عشر شهرًا، لم يتذكر سوى نصفهم كيف اكتشفوا القرار بدقة. عندما سُئلوا مرة أخرى بعد ما يقارب الثلاث سنوات من صدور الحكم، كانت أقل من 30 في المائة من ذكريات الطلاب دقيقة؛ وما يقرب من نصفها مليئة بأخطاء كبيرة.
إذن، من الأرجح أن نتذكر الشيء بشكل دقيق جدًا بعد فترة وجيزة من حدوثه، لا سيما إذا كان ذا مغزى أو تأثير. لكن تتراجع دقة هذه التذكر تنازليًا بمرور الوقت – بسرعة في البداية، ومن ثَمَّ تتباطأ. ننتقل من تذكر التفاصيل إلى تذكر جوهر ما حدث. (مرة أخرى، – غالبًا ما تُترك بعض التفاصيل كما هي). كما يوضح مثال تجربة سيمبسون، حتى في حالة وجود حدث لا يُمكن نسيانه، يُصبح تلاشي الذكرى مرتفعا. ويتم نسيان الأحداث الأقل أهمية بالكامل تقريبًا.
ما نقوم به في وقتٍ لاحق تحديدًا هو أن نملأ تفاصيل معينة لحدث معين بما نعتقد أنه كان سيحدث عادةً في هذه الحالة. ويقول شاكتر موضّحًا:
حاول الإجابة بالتفصيل على الأسئلة الثلاثة التالية:
ماذا تفعل خلال يوم عمل اعتيادي؟
ماذا فعلت البارحة؟
وماذا فعلت في ذلك اليوم قبل أسبوع؟
عندما أجاب اثنا عشر موظفًا في القسم الهندسي لشركة كبيرة لتصنيع المنتجات المكتبية على هذه الأسئلة، كان هناك اختلاف كبير بين ما استدعوه من يوم أمس وقبل أسبوع. استعاد الموظفون عدد أنشطة أقل من الأسبوع الماضي مقارنة بالأمس، وكانت الأنشطة التي يتذكرونها من الأسبوع السابق تميل إلى أن تكون جزءًا من يوم روتيني. كثيرًا ما تم تذكر الأنشطة غير الاعتيادية – الخارجة عن الروتين اليومي – بعد حدوثها بيوم أكثر مما تم تذكرها بعد ذلك بأسبوع. تصبح الذاكرة بعد يوم قريبة لتذكر أحداث معينة بشكلٍ حرفي؛ بينما تُصبح بعد أسبوعٍ أقرب إلى الوصف العام لما يحدث عادةً.
لذلك عندما نحتاج إلى استرجاع ذكرى ما، فإننا نميل إلى إعادة تشكيلها بأفضل وجه ممكن، بدءًا من “الجوهر” المتبقي في أدمغتنا، وكذلك ملء فراغات الأحداث (غالبًا بشكل غير صحيح) بافتراض أن هذا الحدث يشبه كثيرًا أحداثًا أخرى. وبشكل عام، بإمكاننا اعتبار هذا افتراضًا صحيحًا لا يوجد سبب بعينه يبرر التذكر الدقيق لوجبة عيد الشكر الماضي – على سبيل المثال- ولذا فإن الديك الرومي يعتبر احتمالًا موثوقًا به. يوقعنا هذا التلاشي في مشكلة في بعض الأحيان، ويشهد على ذلك أي شخص منا نسي اسمًا كان يجب عليه أن يتذكره.
كيف يمكننا المساعدة في حل مشكلة تلاشي الذكريات السريع؟
من الواضح أن أحد الحلول السهلة، إذا كان الأمر يتعلق بشيء نرغب في تذكره على وجه التحديد، وبصيغة غير مُحرفة، هو تسجيله على قدر الإمكان بشكل مُفصل وفي أسرع وقت ممكن. هذا هو الحل الأمثل، لأن الوقت يبدأ في العمل فورًا لجعل ذاكرتنا مشوشة.
الصور المرئية هي تقنية أخرى. فكرة استخدام فن الاستذكار المرئي هي فكرة شائعة في مجال تحسين الذاكرة؛ بمعنى آخر، ربط أجزاء من الذكرى المأمول حفظها بصور شديدة الوضوح (فيل يسحق مهرجًا!)، والتي يمكن تذكرها بسهولة لاحقًا.
تكمن المشكلة في أنه من الصعب تطبيق هذه الطريقة لأنها تتطلب بذل جهد فكري كبير. عليك تكوين صورٍ شيقة ومثيرة للاهتمام في كل مرة تريد أن تتذكر شيئًا ما — لا يحدث بهذه التقنية تحسين عام لأداء الذاكرة وهو ما يهتم به الناس حقًا، حيث يتم تشفير جميع الذكريات المستقبلية بشكل أكثر فعالية.
نهج آخر نستطيع الاستعانة به يتمثل في ربط شيء ما ترغب في تذكره بشيء آخر تعرفه مسبقا لزيادة نسبة تذكره لاحقًا ولكن كما هو الحال مع الصور المرئية، يجب استخدامه بشكل مستمر.
في الحقيقة، وبقدر ما توصلنا إليه، فإن “مُحسِّن الذاكرة العام” الوحيد المتاح لنا هو إنشاء وسائل ربط أفضل – خلق اتصال وربط قصص وصور حية بالأشياء – بالتحديد الوسائل التي نتحدث عنها مرارًا عندما نُناقش منهج “النموذج العقلي”. لن يتحقق ذلك من تلقاء نفسه.
شرود الذهن
ثاني الطرق التي تخذلنا بها ذاكرتنا بسرعة يرتبط بموضوع تلاشي الذكريات مع اختلاف بسيط . في حين أن تلاشي الذكريات يستلزم تذكر شيء ما، ثم بعد ذلك يحدث التلاشي، فإن شرود الذهن هو عملية لا يتم فيها تشفير المعلومات بشكل صحيح من الأساس، أو أنه يتم تجاهلها ببساطة في مرحلة الاسترجاع.
يُفسر الترميز الخاطيء ظواهر تعودنا على حدوثها مثل وضع المفاتيح أو النظارات في غير مكانها بشكل متكرر: المشكلة ليست أن المعلومات تلاشت، بل إنها لم تنتقل من ذاكرتنا العاملة إلى ذاكرتنا طويلة المدى. يحدث هذا غالبًا لأننا مشتتو الانتباه أو لسنا منتبهين في لحظة التشفير (على سبيل المثال، عندما نزيل نظاراتنا).
على الرغم من أن الانتباه المُشتت يمكن أن يمنعنا من الاحتفاظ بالتفاصيل، من المثير للاهتمام أن نعلم أننا ما زلنا نستطيع ترميز بعض الدلائل الأساسية:
يستلزم الشعور بالألفة تجاه شيء أن يكون هناك شعور ابتدائي أن شيئًا ما قد حدث سابقًا، دون الالتفات إلى تفاصيل معينة. في مطعم، على سبيل المثال، ربما لاحظت على طاولة قريبة شخصًا ما كنت متأكدًا من أنك قابلته سابقًا على الرغم من عدم تذكر تفاصيل مثل اسم الشخص أو كيف تعرفه. تشير الدراسات المخبرية إلى أن الانتباه المُشتت أثناء التشفير له تأثير جذري على التذكر لاحقًا، وله تأثير ضئيل أو معدوم على إحساسك أن الشيء/الشخص مألوف.
ربما تحدث هذه الظاهرة لأن الانتباه المُشتت يمنعنا من الإسهاب في التفاصيل الضرورية للتذكر اللاحق، ولكنه يسمح لنا بتسجيل بعض المعلومات الأولية التي تؤدي لاحقًا إلى نوع من الألفة .
يشير شاكتر أيضًا إلى أمر قد يكون فيه نوع من المواساة لكبار السن: الشيخوخة تنتج تأثيرًا إدراكيًا مشابهًا لتشتت الانتباه. السبب الذي يجعل كبار السن يشعرون بأنهم أخطأوا في وضع مفاتيحهم أو دفتر الشيكات باستمرار هو أن تراجع قدرة المخ بالنسبة للمصادر المعرفية يشابه مشكلة “الانتباه المُقسم” التي تجعلنا جميعًا نضع مفاتيحنا أو دفتر الشيكات في غير أماكنها.
إحدى الظواهر المرتبطة بمشكلة التشفير الضعيف هذه تُسمى عمى عدم الانتباه بسبب التغيرات – عدم القدرة على رؤية الاختلافات التي تتكشّف لنا في المشاهد أو الأشياء بمرور الوقت. على غرار قضية “غليان الضفدع ببطء” التي يعرفها معظمنا، يتسبب هذا العمى بفشلنا في رؤية التغييرات الطفيفة التي تحدث من حولنا. ونطلق على هذه الظاهرة اسم مشكلة الغوريلا الخفية، والتي اشتهرت من خلال العرض الحي الذي قدمه دانييلا سايمونز وكريستوفر كابريس.
وفي تجربة أخرى، كان سايمونز قادرًا على إثبات أنه حتى في المحادثات الواقعية، يمكنه مبادلة رجل بآخر في كثير من الأحيان دون أن يلاحظ شريكه في المحادثة! يستخدم السحرة والمحتالون هذه الحيل بانتظام للخداع والإبهار.
ما يحدث هنا هو عبارة عن ترميز سطحي – على غرار مُشكلة تلاشي الذكريات: غالبًا ما نشفّر فقط مستوى سطحيًا من المعلومات المتعلقة بما يحدث أمامنا، حتى عند التحدث إلى شخص حقيقي. وبالتالي، لا يتم تسجيل التفاصيل المتغيرة غير الملحوظة لأنها لم يتم تشفيرها في الأساس! (صنع شيرلوك هولمز مسيرة مهنية في مواجهة هذه النزعة الطبيعية من خلال كونه شديد الملاحظة).
يعتبر هذا طبيعيًا تمامًا، بشكلٍ عام. فهذا النظام يخدمنا بشكلٍ جيد، لكن الحالات التي يخذلنا فيها يمكن أن توقعنا في ورطة.
***
هذا يثير مشكلة شرود الذهن فيما يسميه علماء النفس “الذاكرة المستقبلية” – أي تذكر شيء ما عليك القيام به في المستقبل. نحن جميعًا على دراية بمواقف كالتي ننسى فيها القيام بشيء بشكل مؤكد أخبرنا أنفسنا أننا نحتاج إلى تذكره.
الحل في هذه الحالة هو استخدام إشارات تُساعدنا على التذكر: الذاكرة بعيدة المدى القائمة على الحدث تعمل على النحو التالي: “عندما ترى هاري اليوم، أخبره أن يتصل بي.” الذاكرة بعيدة المدى القائمة على الوقت هي كما يلي: “في الساعة الحادية عشر مساءً، أخرج الفطائر من الفرن.”
إلا أن هذه الطريقة ليست فعالة على الدوام فالذاكرة بعيدة المدى القائمة على الوقت هي الأسوأ على الإطلاق: ليست لدينا دائمًا القدرة على الربط بين 11 مساءً و الفطائر، لأن أشياء أخرى ستحدث أيضًا في الساعة الحادية عشر مساء. ولذا فإن الإشارة المُعتمدة على الوقت غير كافية.
للسبب نفسه، لن تقوم الاشارات القائمة على الحدث بعملها أيضًا إذا لم نكن حريصين:
ضع في اعتبارك أول ذكرى ستحدث في المستقبل. لقد طلب منك فرانك أن تخبر هاري بالاتصال به، لكنك نسيت أن تفعل ذلك. لقد رأيت هاري بالفعل في المكتب، ولكن بدلاً من تذكر رسالة فرانك، تذكرت الرهان الذي بينك أنت وهاري فيما يتعلق ببطولة كرة السلة الجامعية من الليلة الماضية، وقضيت عدة دقائق لتتفاخر وتشمت بسبب فوزك بالرهان قبل أن تبدأ العمل.
إن هاري مرتبط في ذاكرتك بالكثير من الأشياء والأحداث، ليس فقط بجملة فرانك “أخبر هاري أن يتصل بي”. لهذا السبب ليس من المؤكد أن تتذكر هذه الملاحظة عندما تقابل هاري.
تسمح لنا هذه المعلومة أن نبني الحل الأمثل لمشكلة الذاكرة بعيدة المدى (المستقبلية): إشارات محددة ومميزة تستدعي الفعل الدقيق المطلوب، في الوقت المطلوب. يجب أن تكون جميع العناصر في موضعها الصحيح للحصول على الحل الأمثل.
تميل القصاصات اللاصقة لكتابة الملاحظات التي تحمل توجيهات واضحة والموضوعة في مكان مُناسب (في مكان ما لن تتوقع وجود ملاحظات فيه) إلى العمل بشكل جيد. أو كتابة تذكير على هاتفك لمهمة محددة يظهر أمامك كإشعار يظهر بالضبط عند الحاجة. كما قال شاكتر ، “الهدف هو نقل أكبر قدر ممكن من التفاصيل من الذاكرة العاملة إلى التذكيرات المكتوبة.” كن دقيقًا في ما ترغب، واجعل ملاحظاتك مميزة وفي وقتها المناسب. أن نأمل في أن يجني تذكير عفوي ثماره يعني أننا بنسبة معينة سنقوم بخطأ غير مقصود.
بقلم:شين باريش | ترجمة: سلمى سلطان | تدقيق: سحر عثماني | المصدر