غطينا في الجزئين السابقين عن الذاكرة، أربعة مآخذ تخصها: الحجب والإسناد المغلوط وشرود الذهن وسرعة تلاشي الذكريات، باستخدام كتاب دانيال شاكتر “أخطاء الذاكرة السبع” كدليل لنا.
سنقوم بإنهاء المناقشة هذه المرة بثلاث مآخذ أخرى: الإيحاء، والتحيز والإلحاح، آملين أن نصل إلى فهم شامل لذاكرتنا ومتى يمكنها أن توقعنا في الأخطاء.
***
الإيحاء
يشير اسم “الإيحاء” إلى ميل المخ إلى الخلط بين مصادر الذكريات:
يشير الإيحاء إلى ميل الشخص لجمع معلومات معينة من مصادر خارجية – مثل صورة ما رآها أو حديث مع أشخاص آخرين أو شيء مكتوب قام بقراءته أو حتى من وسائل الإعلام – والإيحاء إلى نفسه بأنها ذكريات خاصة به. يرتبط الإيحاء ارتباطًا وثيقًا بالإسناد المغلوط بالنسبة لكون تحويل المصادر الخارجية إلى ذكريات غير دقيقة يحتاج إلى حدوث إسناد مغلوط. ومع ذلك، لا يحدث الإسناد المغلوط إلا في غياب مصدر دقيق والذي يجعل من الإيحاء خطيئة استثنائية للذاكرة.
الإيحاء هي ظاهرة مُعقدة جدًا كونها تجعل الذكريات التي جمعناها من مُختلف المصادر حقيقة وخاصة. مثال على ذلك حالة “المُقاتل المُزيف” التي يعرضها شاكتر في كتابه:
“عُرضتْ قصة محيرة لمُقاتل حرب كوري يُدعى إدوارد دالي في الصفحة الأولى لجريدة نيويورك تايمز في تاريخ 31 مايو عام 2000، حيث اختلق هذا المُقاتل قصصا من وحي خياله عن المعركة التي خاضها مُضيفًا اشتراكه في مذبحةٍ مروعةٍ لم يشترك فيها أساسًا”. أثناء نسجه لقصته الوهمية حاور مُقاتلين قد شاركوا بالفعل في المذبحة التي ادعى هذا المُقاتل مشاركته فيها، – لـ “يذكرهم” بأعماله البطولية. وقد تسللت إيحاءاته هذه بالفعل إلى ذاكرة بعضهم، حيث ادعى أحد المُقاتلين وجود دالي قائلًا: “أعرف أن دالي كان موجودًا. أعرف ذلك”
المُتاح هُنا هو كلمة “تسلُل”. وهو ما يذكرنا بفيلم الرائع كريستوفر نولن “زرع الأفكار” (Inception) والذي يدور حول مجموعة من الخُبراء يحاولون غزو عقول النائمين في محاولة منهم لتغيير ذكرياتهم. هذا الفيلم هو محض خيال، ولكن لا يخلو من بعض الحقيقة: يمكن لفكرة ما بغض النظر عن مصدرها ومع وجود المُحفز الملائم، أن تبدو وكأنها فكرة أو ذكرى خاصة بنا.
تعالوا نعرض مشكلة “الاستجواب بالإيحاء” التي تحدث في التحقيقات الجنائية، وهو عندما يستجوب المُحقق شاهد عيان، وفي محاولة منه لإنعاش ذاكرته، يقوم بسؤاله عدة أسئلة تقود الشاهد إلى إعطاء المُحقق الإجابة التي كان يأملها. هل يعتبر ذلك عبقرية؟ ليس على الدوام.
يعرض شاكتر تجربة -خاصة بعلم النفس- يقوم فيها المُشاركون بمشاهدة مقطع فيديو لعملية سرقة ثم بعد ذلك مباشرةً يتم خداعهم عن طريق الإيحاء لهم بتفاصيل لم تحدث في المقطع أساسًا، مثل ارتداء الضحية لمريلة بيضاء. المدهش في الأمر هو أنه على الرغم من إدراك بعضهم أن فكرة المريلة هي مجرد فكرة تم الإيحاء لهم بوجودها، إلا أن الكثير منهم رددوها دون التأكد من مدى صحتها.
تم التوصل في تجارب سابقة أن الاستجواب بالإيحاء يلعب دور في تشويه الذكريات من خلال إثارة مشكلات متعلقة بمصدر هذه الذكريات والتي تُماثل ما تم طرحه في الفصول السابقة: يقوم المُشاركون بتحقيق الإسناد المغلوط مع المعلومات التي تتمثل في التفاصيل التي أوحي لهم بوجودها في المقطع الأصلي. تقدم نتائج عالِم النفس فيليب هيغام إضافة مثيرة. وجد أنه عندما خضع المشاركون لاختبار الذاكرة بعد دقائق من تلقيهم للمعلومات المغلوطة -وهم يدركون بالطبع أن وجود “المريلة البيضاء” هو مجرد إيحاء من صاحب التجربة- أصروا على الرغم من ذلك في بعض الأحيان أن الضحية كانت ترتدي مريلة بيضاء بالفعل في المقطع الأصلي. بل وارتكبوا هذا الخطأ بنفس الدرجة التي ارتكبها بها الذين خضعوا للاختبار بعد أيام من تلقيهم المعلومات الزائفة، والذين كان لديهم أيضا وقت أكبر للخلط ما بين حقيقة وزيف المعلومات التي أوحيت لهم. تؤكد هذه النتائج على خطورة الإيحاءات المضللة: إذ يمكنها خلق ذكريات زائفة لحدث ما، حتى عندما يتذكر الفرد منا أنها مجرد تفاصيل أوحي له بها.
تلعب مُشكلة الثقة المُفرطة أيضًا دورًا في سقطات الذاكرة والإيحاء. لاحظ تجربة لمادة تَعرِض مقطعا لرجل يدخل متجرًا مُتعدد الأقسام، أُخبر المشاركون فيها أنه قتل أحد رجال الأمن. قيل لبعض المشاركين أنهم أصابوا الاختيار والبعض الآخر أنهم أخطأوا الاختيار بعدما عُرض عليهم مجموعة صور (لم تحتوِ أيٌّ منها على صورة الرجل المُسلح). مَن تعتقد من المجموعتين كانت أكثر ثقة في دقة ذكرياتها فيما بعد؟
كانت بالتأكيد المجموعة التي تم التصديق على اختيارها. لم تكن المجموعة فقط واثقة، بل توهموا أن لديهم تفاصيل أدق لهيئة الرجل المُسلح، على الرغم من كونهم مخطئين مثل المجموعة التي أوهمت أن اختيارها خاطئ. يُطبق هذا الأسلوب بطرق متوسعة. (فكر مثلًا في هيئة مُحلفين تأخذ في حسبانها شهادة شاهد عيان دُعِمَت شهادته تلك من قِبل شرطة لديها ميل لاتجاه معين)
***
أحد الأمثلة المثيرة للاهتمام والمرتبطة بالإيحاء كذلك هي قدرة بعض علماء النفس على زرع ذكريات مزيفة مرتبطة بطفولة بعض الأشخاص في ذاكرتهم بنجاح وبالاعتماد بشكل أساسي على الإيحاء فقط، كما فعل ديكابريو وعشيرته في فيلم “زرع الأفكار”. يجب أن يجعلك هذا تفكر مليًا بخصوص ما تعتقد أنك تتذكره عن الماضي.
سأل عالم النفس إيرا هايمان بعض طلاب الجامعات عن مجموعة مختلفة من ذكريات حدثت في طفولتهم والتي صدّق على حدوثها آباؤهم وسأل بدوره أيضًا عن ذكريات أخرى صدّق آباؤهم على زيفها. على سبيل المثال، سُئل الطلاب: “هل تذكر عندما كنت في الخامسة من عمرك وكنت تركض في حفل زفاف بعض أصدقاء العائلة مع بعض الأطفال الآخرين ثم اصطدمت بطاولة والدي العروس وسكبت مشروب البنش عليهم؟” في البداية لم يَذكُر أحد منهم الذكريات المزيفة، ولكنهم تذكروا تقريبًا جميع الأحداث الحقيقة.
ولكن على الرغم من ذلك تَوَهمت نسبة حوالي من 20 إلى 40 بالمائة من المُشاركين تحت ظروف أخرى تذكرهم للأحداث المزيفة ووصفوها بالفعل في مقابلات أخرى. وصف حوالي نصف المشاركين في إحدى التجارب تلك الذكريات الزائفة على أنها ذكريات جلية وبتفاصيل دقيقة مثلًا أين وكيف قاموا بسكب المشروب. أفاد حوالي أقل من نصف المُشاركين فقط بتذكرهم لبعض الأجزاء والتفاصيل من الحدث، ولكن لم يستطيعوا تذكره بشكل كامل.
هذه هي “قوة الإيحاء”.
خطيئة التحيُز
بشكلٍ أو بآخر تكون لدى ذاكرتنا تحيزات بعضها غير خطير وبعضها الآخر على درجة من الخطورة، ومعظم هذه التحيزات لا يَصعُب فهمها. التحيزات الخاصة بالذاكرة مُفيدة للدراسة لأنها سهلة ومن السهل أيضًا الوقوع فيها، وذلك لأننا نثق في ذاكرتنا بشكل قوي فلا ننتبه لهذه الأخطاء ولكن أحيانًا يجب علينا الحذر.
يُشير التحيز إلى تأثيرات تُشوه معرفتنا ومشاعرنا الحالية وبالتالي تؤثر على تجاربنا الجديدة أو ذكرياتنا اللاحقة الخاصة بتلك التجارب. مثلًا في رواية 1984 تستخدم وزارة الحقيقة (الوزارة المسؤولة عن وسائل الإعلام الإخبارية والترفيهية والفنون الجميلة والكتب التعليمية، والغرض منها هو إعادة كتابة التاريخ لتغيير الحقائق لتناسب عقيدة حزب معين من أجل التأثير الدعائي.) الذاكرة كبيدق في خدمة حكم الحزب الحاكم. وبنفس الطريقة يكشف التحيز عند تذكر التجارب السابقة كيف يمكن للذاكرة أن تكون بيدقًا لميول أنظمتنا الإدراكية.
هناك أربع تحيزات نخضع لها: المُتسق والمُتغير، والإدراك المتأخر، والتحيز المتمركز حول الأنا، والتحيز النمطي.
التحيز المُتسق والمُتغير
الأول هو المُتسق: نقوم هُنا بتنقيح ذكرياتنا عن الماضي بناءً على ما نشعر به في الحاضر. تم إثبات هذه الحقيقة بعد إجراء العديد من التجارب. الأمر يُتعبر كآلية للتكيُف، فإذا رأينا الماضي على حقيقته ربما لن نستطيع تخطيه أبدًا.
تميل ذاكرتنا غالبًا إلى تنقيح ذكرياتنا الماضية حتى يبدو لنا وكأن مشاعرنا ومعرفتنا الحالية حول الماضي هي تمامًا نفس المشاعر التي شعرنا بها من قبل، ونفس المعرفة التي أدركناها سابقًا وقت حدوثه.
وقد ظهر هذا الاتساق في عدة سياقات. إن استدعاء ذكرى عن التجارب المؤلمة السابقة، على سبيل المثال، يتأثر بشدة بمستوى الألم الحالي حول تلك الذكرى. عندما يعاني المرضى المصابون بألم مزمن من مستويات عالية من الألم في الوقت الحاضر، فإنهم يميلون إلى تذكر مستوى مماثل من الألم حيال تجاربهم السابقة; عندما لا يكون الألم الحالي سيئًا للغاية، تبدو تجارب الألم السابقة أكثر اعتدالًا أيضًا. يعكس رد فعلنا حيال المسائل السياسية والاجتماعية التحيز المتسق. مثلًا الأشخاص الذين تغيرت آراؤهم السياسية بمرور الوقت غالبًا ما تخدعهم ذاكرتهم بأن آراءهم السياسية السابقة تشبه آراءهم الجديدة. والحقيقة هي أن ذكرياتهم عن موقفهم السياسي في الماضي تعتمد بشكلٍ أساسيٍ على موقفهم السياسي في الوقت الحاضر وليس العكس.
فكر في موقفك قبل خمس أو عشر سنوات بشأن بعض القضايا المهمة مثل إصدار الأحكام المُتعلقة بجرائم بالمخدرات. هل يمكنك تذكر موقفك حيال الأمر بدقة؟ يعتقد مُعظم الناس أنهم كانوا من المؤيدين لتلك الأحكام. لكن التجارب التي أُجريت أظهرت بسهولة أن نسبة كبيرة من الأشخاص الذين يعتقدون أن “آراءهم ما زالت ثابتة” قد غيروا اتجاهاتهم وآراءهم بشكل كبير بمرور الوقت.
يؤثر تحيز الاتساق على العلاقات بشكل كبير: يقول شاكتر أن مشاعرنا الحالية تجاه شريك حياتنا يمكنها تغيير ذكرياتنا حول مشاعرنا السابقة تجاهه/ا.
خذ بعين الاعتبار دراسة اتبعت ما يقرب من أربعمائة من الأزواج من ميشيغان خلال السنوات الأولى من زواجهم. بالنسبة للأزواج الذين عبروا عن اختفاء سعادتهم على مدار سنوات الدراسة الأربع: أظهر الرجال ميلهم للتوهم بأن بداية زيجاتهم كانت أسوأ مما هي عليه في الواقع على الرغم من اعترافهم أنهم كانوا سُعداء في تلك الفترة. وأشار الباحثون الذين أجروا الدراسة إلى أن “مثل هذه التحيزات يمكن أن تؤدي إلى تدهور الأمور بشكلٍ خطير. “كُلما ساء رأيك في شريك حياتك، ساءت ذكرياتك السابقة عنه وهو ما يُعزز نظرتك السلبية تجاهه/ا.”
في سياقات أخرى، نميل أحيانًا إلى الاتجاه الآخر: نوهم أنفسنا أن الأشياء قد تغيرت أكثر من معدل تغيُرها الحقيقي. أو نتوهم أن الماضي كان أفضل بكثير مما هو عليه اليوم، والعكس.
يُناقش شاكتر دراسة مدتها عشرين عامًا أجريت على مجموعة من النساء بين عامي 1969 و1989، لتقييم شعورهن تجاه زيجاتهن طوال الوقت. تَبَين أن ذكرياتهن عن الماضي كانت في حالة تغيُر مستمر، ولكن هذه الذكريات المزيفة تخدم غرضًا مُعينًا: الحفاظ على الزواج من الانهيار.
أظهرت الزوجات تحيزًا متغيرًا عند التفكير في السنوات العشر الأولى من زواجهن: لقد تذكرن تقييماتهن الأولية لتجربتهن بشكل أسوأ مما كانت عليه في الواقع. أدى ذلك التحيز إلى جعل مشاعرهن في الوقت الحاضر تبدو في تحسن مقارنةً بالبداية، على الرغم من أن الحقيقة هي أن مشاعرهن السلبية تجاه زيجاتهن تضاعفت بعد عشر سنوات مقارنة ببداية الزواج. تُظهر النساء تحيزًا متسقًا في حالة كون الزواج استمر مدة عشرين عامًا وتم سؤالهن عن العقد الثاني منه. تميل النساء إلى التوهم بأن مشاعرهن منذ عشرة أعوام تُطابق مشاعرهن في الوقت الحاضر. ولكن في الواقع صارت مشاعرهن حيال زيجاتهن سلبية أكثر مما كانت عليه قبل عشر أو عشرين عامًا. يساعد كلا النوعين من التحيز النساء على التكيف مع ظروف زيجاتهن.
الغرض من كل هذا هو تقليل التنافر الإدراكي لدينا: نحاول تجنب الإرهاق المعنوي والذهني الذي يحدث نتيجة لوجود أفكار متضاربة. (“يجب أن أحافظ على زواجي”/ “زواجي فاشل” على سبيل المثال)
تحيز الإدراك المُتغير
لن ندخل في تحيز الإدراك المتأخر على نطاق واسع للغاية، لأننا قمنا بتغطيته من قبل والفكرة مألوفة لمعظمنا. ببساطة، تتبدل ذكرياتنا الماضية عن حدث معين للأبد، عندما نُدرك نتيجة ذلك الحدث. نستخدم عدسة الحاضر لرؤية الماضي، كما هو الحال بالنسبة للتحيز المُتسق، لنخدع أنفسنا ونقول إننا كُنا “نعرف طوال الوقت” ولكن الحقيقة هي العكس.
يعتبر جزء كبير من تحيز الإدراك المُتغير مرتبطا بـ التصور الخاطئ للأحداث وتفسيرنا الشخصي لنخلق لها سببا ونتيجة.
نود دائمًا معرفة سبب حدوث الأشياء، وعندما نحصل على رابط سببي واضح لنا في الوقت الحاضر (مثلًا علمت أن جارك قتل زوجته لأنها خانته)، فإن عدسة الإدراك المتأخر تتولى أمر البقية (لطالما كنت أعرف أنه رجل شرير!). نميل إلى النسيان في تلك الأثناء أننا بالطبع لم نعتقد في البداية أنه رجل سيء لأننا كُنا نتركه يجالس ويرعى أطفالنا في إجازة نهاية الأسبوع. هذا هو تحيُز الإدراك المُتأخر وجميعنا نخضع له، إلا إذا بدأنا فحص ماضينا بدقة أكبر أو كتبنا كُل شيء نمر به.
التحيُز المتمركز حول الأنا
يتلخص التحيُز المتمركز حول الأنا في ميلنا لتذكر أنفسنا بشكل أفضل مما كنا عليه في الماضي. نحن لسنا مُحللين محايدين لماضينا، بل متحيزون للغاية ولدينا الدافع لرؤية أنفسنا بشكل معين.
يخلق دورنا في تكويد واسترجاع الذكريات، بالإضافة إلى ميلنا جميعًا إلى رؤية أنفسنا في ضوء إيجابي، تربة خصبة لنمو تحيُزات الذاكرة والتي تدفع معظمنا إلى تذكر تجاربنا السابقة بشكل أفضل. مثال على ذلك طُلاب الجامعات الذين تم إقناعهم أن الانطوائية شيء مُستحب وأنها إحدى علامات التفوق الأكاديمي وبدأوا يبحثون في ذاكرتهم عن كل المواقف التي كانوا فيها انطوائيين أو اجتماعيين. خلق هؤلاء الطُلاب بشكل تلقائي ذكريات أكثر لأنفسهم وهم يتصرفون كانطوائيين وليس كاجتماعيين، على عكس غيرهم من الطلاب الذين تم إقناعهم أن الاجتماعيون أكثر نجاحًا. كان بحثهم داخل ذاكرتهم مَشوبًا برغبة داخلية لرؤية أنفسهم بشكلٍ أفضل وهو ما جعلهم يختارون ذكريات معينة فقط تظهرهم بالشكل المُستحب بالنسبة لهم.
يحدث التحيز المُتمركز حول الأنا بشكل مُتكرر كلما تسنح له الفرصة وهو شبيه لـ ما نسميه “الثقة المُفرطة” ولكن في الميادين السابقة. نرغب أن نرى أنفسنا بشكل ايجابي، وننجح في فعل ذلك. لذلك نحاول أن نستخلص من ذاكرتنا دلائل على امتيازنا. لدينا أوهام تساعدنا في الحفاظ على صورتنا الإيجابية وترفع من معنوياتنا.
يعد هذا بشكل عام أمرًا جيدًا بالنسبة لتقديرنا لذاتنا، ولكن كما يعلم أي زوجين مطلقين، يمكن أن يتسبب ذلك أيضًا في وجود نسخة مشوهة للغاية من الماضي.
التحيُز النمطي
ناقشنا في سلسلتنا حول تنمية شخصية الإنسان، فكرة التنميط كشيء يقوم به البشر بشكل مستمر وتلقائي؛ هذا المفهوم المُنتَقَد هو أمر أساسي لكيفية فهمنا للعالم.
توجد القوالب النمطية لأنها توفر الطاقة والمساحة – فهي تسمح لنا بدمج الكثير مما نتعلمه في فئات ذات أوصاف دقيقة وعلى نطاق واسع. عندما نتعلم أشياء جديدة، إما نُقسّمها داخل فئات موجودة بالفعل، أو نُنشئ فئات جديدة، أو نعدل قليلاً من الفئات القديمة (غير المهمة بالنسبة لنا، لأنها تتطلب الجهد الأكبر). لا تُعتبر هذه معلومات جديدة.
لأن المثير للاهتمام هو الدرجة التي يؤثر بها التنميط على ذكرياتنا.
إذا أخبرتك أن جوليان فنان مبدع وحساس وكريم ولا يعرف الخوف، فمن المرجح أن تتذكر السمتين الأوليين، اللتين تتناسبان مع الصورة النمطية للفنان عن السمتين الأخيرتين، اللتين لا تتناسبان. إذا أخبرتك أنه حليق الرأس، وقمت بسرد بعض سماته، فمن المرجح أن تتذكر أنه متمرد وعدواني أكثر من كونه محظوظًا ومتواضعًا. من المرجح أن يحدث هذا التحيز بشكل خاص عندما يحمل الأشخاص تصورات نمطية عن فئات معينة من الناس. على سبيل المثال، من المرجح أن يتذكر الشخص الذي لديه تحيزات عنصرية السمات، التصوير النمطي لسلوك الأمريكيين من أصل أفريقي أكثر من شخص أقل تحيزًا منه، وتقل احتمالية تذكره للسلوكيات التي لا تتناسب مع الصورة النمطية التي لديه لذات الفئة.
ليس هذا فقط، ولكن عندما تحدث أشياء تتعارض مع توقعاتنا، فنحن قادرون على تشويه الماضي بطريقة تجعله يتماشى مع الصورة النمطية التي لدينا. عندما نحاول تذكر حكاية بعد إدراك نهايتها، فمن الأرجح أن نشوه تفاصيل القصة بطريقة تجعل الأمر برمته منطقيًا ويتناسب مع طريقة فهمنا للعالم. يرتبط هذا بمفهومي التصور الخاطئ وتحيز الإدراك المتأخر الذين تم مناقشتهما سابقًا.
***
الخطيئة الأخيرة التي ناقشها شاكتر في كتابه هي المثابرة، الحقيقة الصعبة في كثير من الأحيان أن بعض الذكريات، وخاصة السلبية منها، تستمر لفترة أطول بكثير مما نتمنى. لن نقوم بتغطيته هنا، ولكن نقترح عليك مراجعة الكتاب بالكامل للحصول على قصب السبق حول هذه النقطة.
وبهذا، سنختتم سلسلتنا حول الذاكرة البشرية. خذ ما تعلمته، واستوعبه، ثم واصل المضي قدمًا في سعيك لفهم الطبيعة البشرية والعالم من حولك.
بقلم: شين باريش | ترجمة: سلمى سلطان | تدقيق: مريم الغافرية | المصدر