تعتبر سنة 2021 سنة الأمم المتحدة للاقتصاد الإبداعي للتنمية المستدامة. واعترافًا بأهمية القطاع الإبداعي، ضُمّنت قطاعات الثقافة والإبداع بجانب قطاعات الاقتصاد والتكنولوجيا في أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. يلعبُ قطاعا الثقافة والإبداع دوراً مهما في تقدم الحوار والتفاهم بين الشعوب، ويساهمان في تمكين الأفراد للعمل نحو التنمية المستدامة، ويمثلان أساسًا للابتكار والذي يدفع عجلة التنمية الشاملة والمستدامة. وقد وضعت جائحة كوفيد 19 الجهود المشتركة التي تبذلها الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص والمنظمات الدولية في بُعد جديد مختلف، مسلطة الضوء على أهمية الاقتصاد الإبداعي حيث كان جزءًا لا يتجزأ من رحلة التعافي العالمي.
يسلط قرار الأمم المتحدة المرتبط بالاقتصاد الإبداعي الضوء على دور هذا القطاع باعتباره أداة مهمة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، حيث تدعم 81 دولة هذا القرار (قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة) أي نصف دول العالم تقريبًا وقد تم الاتفاق عليه في 19 ديسمبر 2019.
ينطوي على تعزيز الصناعات الثقافية والإبداعية بشكل استراتيجي من أجل تنمية مستدامة وشاملة فوائد على المدى الطويل في المستقبل، ففي الوقت الذي يحاول فيه العالم التعافي من الجائحة وآثارها غير المسبوقة، أصبح المسار الاقتصادي غير واضح، حيثُ من شأن هذه الصناعات زيادة جودة الحياة، وتحفيز الابتكار مما ينتج عنه اقتصاد أكثر مرونة، يتميز بقدرته على الوقوف في وجه التحديات المستقبلية والتكيف معها.
تمثل الصناعات الإبداعية 3% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، ولكن نمو الاقتصاد الإبداعي العالمي يتغير سريعًا ليصل إلى نسبة 9% سنويًا، و 12% في الدول النامية. وقد تضاعفت قيمة سوق الصناعات الإبداعية من 208 مليار دولار في عام 2002 إلى 509 مليار دولار في عام 2015 بزيادة معدل نمو الصادرات إلى أكثر من 7% خلال ثلاثة عشر عامًا، وسيمثل الاقتصاد الإبداعي وفقًا للتوقعات الأخيرة حوالي 10% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي العالمي في السنوات القادمة.
إن الاقتصاد الإبداعي لا يعتبر أحد أسرع قطاعات الاقتصاد العالمي نموًا وحسب وإنما يتميز أيضًا بكونه أحد أكثر القطاعات سريعة التحول والمدرة للدخل ومن أكثر القطاعات صناعةً لفرص العمل وعائدات التصدير. ولكن الفرص غالباً ما تكون موزعة بشكل غيرمتساوٍ، وما لم تُبذل الجهود في هذا الجانب، فمن شأن هذا النمو أن ينعكس سلبًا ويسبب خسائرَ بيئية، لذلك من الأفضل إيجاد حلول أكثر استدامة وشمولاً قبل نمو القطاع بشكل أكبر.
على مستوى العالم، تم تخصيص 31 تريليون دولار من الأصول تحت الإدارة (AUM) للاستثمار والتأثير المستدام. يوسع الاستثمار المؤثر نطاق أعماله ليشمل المؤسسات التي تتبع معايير سلامة العمال وتقدم مكافآت ومزايا عادلة لهم، كما تتبنى مبادئ التنوع والمساواة، وتشرك المجتمع المحلي وتسهم في المحافظة على البيئة. ويمتاز نمو الاستثمار المؤثر بتطوير أدوات استثمارية أكثر استجابة لتلبية احتياجات الرأسمالية المحددة للصناعات والمواضيع ذات التأثير والمناطق الجغرافية والسكان.
تعاونت كل من Fundación Compromiso وNesta وUpstart Co-Lab في إعداد هذا التقرير لجذب المستثمرين وتوضيح إمكانية الاستثمار في الاقتصاد الإبداعي العالمي، في حين أن الاستثمار المؤثر الموجه للاقتصاد الإبداعي ما يزال قطاعاً ناشئاً حتى الآن، إلا أن هناك أمثلة متزايدة للمستثمرين ورجال الأعمال المهتمين بقطاع الاقتصاد الإبداعي. حيث بدأ مديرو الصناديق الاستثمارية في كل من البلدان المتقدمة (بما في ذلك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وسويسرا) والبلدان النامية (كدول شرق أفريقيا) بإطلاق أدوات استثمارية تربط الاستثمار المستدام والمؤثر بالاقتصاد الإبداعي.
ساهم في هذا التقرير 44 خبيرًا من 17 دولة بمقالات مختلفة تدور حول محورين: الإبداع في العمل والذي يتناول الاقتصاد الإبداعي ومساهمته في معالجة قضايا رئيسية متعلقة بالشمولية والاستدامة، ويتناول المحور الثاني رأس المال المؤثر، والذي يصف مجموعة من الجهود لتمويل الأنشطة الإبداعية. وقد شارك مستشارو الثروات والمستثمرون ورجال الأعمال والمسؤولون الحكوميون ورواد الفن رؤيتهم للاقتصاد الإبداعي كمصدر للفرص التي ستتيح للمستثمر الذي يفهم قوة الفن والتصميم والثقافة والتراث والإبداع تحقيق الأثر الاجتماعي والبيئي والعائد المادي الجيد.
تهدف الأمثلة ووجهات النظر المعروضة في هذا التقرير إلى إلهام صانعي السياسات ومديري الصناديق الاستثمارية ومستشاري الثروات والمستثمرين سواء من المؤسسات أو الأفراد والممولين الخييريين للنظام البيئي العالمي، للاستثمار وإعطاء الأولوية للاقتصاد الإبداعي، وقد يكون هذا التقرير بمثابة دعوة للعمل لرواد الفن وهواة جمع الأعمال الفنية والمنظمات الإبداعية التجارية والخيرية وكبار الفنانين لاستغلال الفرصة لجذب مصادر التمويل المختلفة والتي تحقق مساعي هادفة في مجالات الفن والتصميم والثقافة والتراث والإبداع.
ما الاقتصاد الإبداعي؟
“الإبداع” شيء جديد ومفيد في الوقت نفسه. وقد ظهر مصطلح “الاقتصاد الإبداعي” في مقال كتبه بيتر كوي في عام 2000 حول التحول الوشيك للاقتصاد العالمي من اقتصاد صناعي إلى اقتصاد تكمن إمكانياته في ” القوة المتنامية للأفكار”. كما ذكر جون هوكينز في كتابه الصادر عام 2001، بعنوان الاقتصاد الإبداعي: كيف تكسب المال من الأفكار، واصفًا الاقتصاد الإبداعي بأنه طريقة جديدة للتفكير لإعادة إحياء مجالات التصنيع والخدمات والتجارة والترفيه بالتركيز على المواهب أو المهارات الفردية والفن والثقافة والتصميم والابتكار.
رُفع ملف “الاقتصاد الإبداعي” إلى أجندة الاقتصاد العالمي والتنمية في الدورة الحادية عشرة لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد 11) في ساو باولو، البرازيل في 2004 باعتبارها “الأنشطة الاقتصادية القائمة على المعرفة والتي تقوم عليها “الصناعات الإبداعية” ويمتد المصطلح ليشمل جميع أجزاء الصناعات الإبداعية التي تعتبر مصدرًا مهمًا للقيم التجارية والثقافية بما في ذلك التجارة والعمل والإنتاج.
ترتبط اليوم مفاهيم الاقتصاد الإبداعي عادة بمقياس النشاط الاقتصادي في منطقة جغرافية معينة، حيث تُحدد مجموعة ذات صلة من صناعات الفن والثقافة والتصميم والابتكار، ويتم تقييم المساهمة الاقتصادية لهذه الصناعات داخل تلك المنطقة، كما تُحدد مجموعة فريدة من الصناعات كل اقتصاد إبداعي محلي بحيث يعكس ثقافة المكان وتقاليده وتراثه.
صنف مختبر Upstart Co-Lab الاقتصاد الإبداعي في مجموعة مكونة من 145 صناعة مرتبطة بمساهمات وإنتاج وتوزيع المنتجات الإبداعية باستخدام نظام التصنيف الصناعي في أمريكا الشمالية (NAICS) وقد حدد المختبر خمس ركائز للاقتصاد الإبداعي: الموضة الأخلاقية، والغذاء المستدام، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي، والصناعات الإبداعية الأخرى والأماكن الإبداعية، بناءً على بحث أجرته رابطة الاقتصاد الإبداعي (CEC) – وهي مجموعة تابعة لشبكة الإبداع الوطنية، والمكتب الوطني للفنون ومكتب التحليل الاقتصادي و جمعية أمريكيون من أجل الفنون ووزارة الثقافة والإعلام والرياضة في المملكة المتحدة، ووكالة نيستا الإبداعية في المملكة المتحدة، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).
حسب آخر بحث أعدته اليونسكو في عام 2013 حققت الصناعات الإبداعية عالميًا عائدات بقيمة 2.25 تريليون دولار أمريكي ووظفت 29.5 مليون شخص في جميع أنحاء العالم بشكل رسمي. وفي السوق الناشئة، يعد الاقتصاد الحرفي محركًا رئيسيًا للوظائف غير الرسمية لحوالي 300 مليون شخص، ومن المتوقع أن يصل إلى تقييم عالمي يقدر بـ 985 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2023.
تُحدد الصناعات الإبداعية في:
الموضة الأخلاقية: الشركات التي تنتج الملابس، والأحذية، والمجوهرات والإكسسوارات، التي تواجه تحديات الصناعة المتعلقة بالعمالة والتأثير البيئي والحوكمة و/أو الحفاظ على التراث الثقافي.
استدامة الموارد الغذائية: الشركات المنتجة للأغذية والمشروبات والشركات المقدمة لخدمات التغذية التي تعالج وتنشر الوعي لمستهلكيها بما له علاقة بالحفاظ على الموارد والتراث الثقافي و/ أو التوجه للأطعمة الصحية.
وسائل التواصل الاجتماعي: الشركات التي تستفيد من قوة التواصل وسرد القصص والتكنولوجيا لتحقيق نتائج اجتماعية إيجابية على نطاق واسع وإتاحة الفرصة للأصوات غير المسموعة و/أو بناء قوى عاملة متنوعة.
الأعمال الإبداعية الأخرى: المؤسسات والمنشآت المساهمة في إنتاج وتوزيع الأعمال الفنية والتصميم والتراث والثقافة التي تتبع سياسة الاستدامة وتلك التي توفر وظائف ذات تأثير اجتماعي.
المساحات الإبداعية: المشاريع العقارية ميسورة التكلفة والتي تستهدف الشريحة المبدعة أو شركات الصناعات الإبداعية التي تفيد الأحياء المجاورة لها.
ما المقصود بـ الاستثمار المؤثر؟
هو استثمار يهدف إلى إحداث تأثير اجتماعي وبيئي إيجابي مع عوائد مالية، كما أنه نهج استثماري يمكن تطبيقه على جميع فئات الأصول وهو عكس الاستثمار التقليدي الذي يفصل العائد المالي عن التأثيرات البيئية والاجتماعية وسياسات الحوكمة. حيث ينظر المستثمر المؤثر في كيفية توافق الأهداف والقيم الاجتماعية والبيئية في استثماراته مع أهدافه المالية.
بينما تختلف المصطلحات بين ممارسيها إلا أن الاستثمار المؤثر هو مصطلح شامل لمفاهيم أخرى مثل الاستثمار المستدام، ESG (الاستثمار في الشركات ذات السياسات المراعية للممارسات البيئية والاجتماعية والحوكمة) و SRI (الاستثمار المسؤول اجتماعيًا أو المستدام أو المؤثر)
تصنيف الاستثمار المؤثر
لأغراض هذا التقرير، سيُستخدم الاستثمار المؤثر كمصطلح شامل لمجموعة من المفاهيم المتداخلة:
العوامل البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG) هي بيانات غير مالية والتي قد ينظر إليها المستثمر كجزء من تحليل خطة الاستثمار لتقييم ما إذا كان هذا الاستثمار يعزز الممارسات المستدامة والفعالة والتي تحد من المخاطر المحتملة.
الاستثمار المؤثر هو استثمار يُجرى في الشركات والمؤسسات والهيئات بهدف إحداث تأثير اجتماعي وبيئي قابل للقياس بجانب العائد المالي، ويمكن ممارسة هذا النوع من الاستثمارات في الشركات الناشئة والمتقدمة واستهداف عوائد تتراوح من أقل من سعر السوق إلى سعر السوق، حسب الظروف. يسعى المستثمرون المؤثرون إلى وضع رأس المال في الأعمال التجارية التي يمكن أن تعود بقوة إيجابية للمؤسسات.
الاستثمار المسؤول اجتماعيًا SRI، أو الاستثمار الأخضر، أو الاستثمار الأخلاقي، وهو عبارة عن أي استراتيجية استثمار تسعى إلى مراعاة كل من العائد المالي والمنفعة الاجتماعية معًا، وتضم ممارسات الشركات التي تعزز الحماية البيئية وحماية المستهلك وحقوق الإنسان والتنوع.
الاستثمار المستدام هو الاستثمار بمكاسب طويلة الأجل المتوقعة في المجالات الاجتماعية والبيئية والحوكمة، حيثُ يتم وضع رؤية مستقبلية للتأثير المستدام كنقطة مرجعية لتطوير الاستراتيجيات المتبعة.
إن الاقتصاد الإبداعي لا يعتبر أحد أسرع قطاعات الاقتصاد العالمي نموًا وحسب وإنما يشكل أيضًا أحد أكثر القطاعات سريعة التحول والمدرَّة للدخل ومن أكثر القطاعات صناعةً لفرص العمل وعائدات التصدير.
لم تتم صياغة مصطلح الاستثمار المؤثر إلا في عام 2008 ويعتبر عمر هذا النهج 10 سنوات، إلا أن فلسفة الاستثمار لتعزيز القيم والتغيير المجتمعي لها أمثلة مختلفة عبر التاريخ: بدءًا من رفض الكويكرز (جمعية الأصدقاء الدينية) أن تدعم أموالهم تجارة الرقيق إلى الأوامر الدينية التي لا تسمح بالاستثمار في “الأسهم اللاأخلاقية” إلى حركة مكافحة التمييز العنصري في الثمانينات.
لا يستبعد هذا النوع من الاستثمارات الممارسات التي تم تصنيفها على أنها ضارة على المجتمع والبيئة فقط وإنما تسعى أيضًا لخلق فرص بناءة.
تستهدف المؤسسات المالية لتنمية المجتمع الاستثمارات لتوليد فرص اقتصادية حقيقية في المجتمعات المفتقرة لخدمات. في مراحل الاستثمار الأولى، يتم الاستثمار المؤثر في الشركات التي تدعم الطاقة المتجددة أو التي تدعم رائدات الأعمال، بينما تستثمر الأموال التي تم تجميعها من الأسهم العامة (الأفراد) في الشركات ذات الممارسات المؤسسية الأفضل في موضوعات مثل العدالة الاجتماعية أو أهداف التنمية المستدامة.
عالميًا، بلغت أصول الاستثمار المؤثر الخاضعة للإدارة 31 تريليون دولار أمريكي بداية عام 2018، بزيادة قدرها 34% عن عام 2016، كما شهد حجم رأس المال للاستثمار المؤثر نموًا كبيرًا في السنوات الأخيرة حيث استثمرت المؤسسات المالية العالمية الرائدة استثمارًا مؤثرًا مدروسًا بتعيينها فِرَقًا متخصصة في الاستثمار المؤثر وإطلاقها صناديق استثمارٍ مؤثرٍ جديدة استجابةً لطلب العميل والوعي بدور الأعمال التجارية في المجتمع.
في وقت إعداد هذا التقرير في عام 2020، خصصت كل من Apollo Global Management و Bain Capital وBank of America و BlackRock و Blackstone و Goldman Sachs و J.P. Morgan و Morgan Stanley و UBS مجموعات للاستثمار المؤثر، بينما تدير Generation Investment Management و KKR وLeapFrog Investments و Prudential Financial و Turner Impact Capital و UBS صناديق استثمارات مؤثرة تتجاوز1 مليار دولار أمريكي.
ترتبط نشأة صناديق الاستثمار المؤثر مع التوقعات للدور الذي تمثله الأعمال التجارية في المجتمع، أكد لاري فينك الرئيس التنفيذي لشركة BlackRock -أكبر شركة إدارة أصول في العالم- على الرابط الوثيق بين الربح والاستدامة طويلة المدى في خطاباته السنوية في 2018 للمستثمرين والرؤساء التنفيذيين، كما أكد في خطاباته المؤرخة 2020 أن “على الاستدامة أن تكون معيارنا الجديد في الاستثمار”. كما صرح ديفيد روبنشتاين، الرئيس التنفيذي المشارك ومؤسس مجموعة The Carlyle – وهي شركة مساهمة متعددة الجنسيات متخصصة بإدارة الأصول البديلة والخدمات المالية- بأنه من المرجح أن يتم تقييم الشركات بناءً على مساهمتها وأدائها في التأثير على المجتمع والبيئة والحوكمة بنفس درجة تقييمها لأدائها المالي، وقد لا تحظى الشركات التي تهتم بالجانب المالي فقط دون الاهتمام بقضايا المجتمع والبيئة والحوكمة بتقدير كبير في السوق كما هو الحال اليوم. ويتبع روبنشتاين هذه الفلسفة كالتزام على نطاق مؤسسي تحت شعار “الاستثمار من أجل التأثير”، مشيرًا إلى أن: ” الأهداف المجتمعية للمستثمر المؤثر- الشمولية والتنوع، والاستدامة البيئية والحوكمة المسؤولة- هي التي تولد العوائد المنشودة للسوق”. وفي بيانها لعام 2019، التزمت Business Roundtable – وهي جمعية للرؤساء التنفيذيين لأكبر شركات الولايات المتحدة- تجاه جميع ذوي الشأن بما في ذلك العملاء والموظفين والموردين والمجتمعات والبيئة وشجعت رواد الاستثمار على دعم الشركات التي تبني قيمة طويلة الأجل عن طريق الاستثمار في موظفيها ومجتمعاتها.”، يعتبر هذا البيان تحولاً جذرياً في التوجه الأولي للمساهمين على مدى الخمسين عاما الماضية.
تأثير الاستثمار في الاقتصاد الإبداعي اليوم
لم يكن الاقتصاد الإبداعي واضحًا ومفهومًا بعد من قبل قطاع الاستثمار المؤثر، فعلى سبيل المثال، رصدت الشبكة العالمية للاستثمار المؤثر GIIN لمدة 10 سنوات بيانات عن “الثقافة والفنون” في استطلاعها السنوي للأعضاء البالغ عددهم 289 عضوًا عالميًا، ويبلغ عدد أصول الاستثمار المؤثر فيها 221 مليار دولار أمريكي خاضعة للإدارة. في عام 2020 أعلنت نسبة قطاعي الثقافة والفنون 0.1% من الأصول الخاضعة للإدارة ونسبة 9% فقط من موافقة المساهمين. مع ذلك أُشير في تقريرٍ صدر في 2020 عن خطأ رواد الاستثمار المؤثر في تعريف الاقتصاد الإبداعي بشكلٍ ضيق، حيث ضمنت GIIN في تقريرها التالي لأول مرة بأن “قد تكون المخصصات لبعض القطاعات أكبر في الواقع مما تستعرضه هذه التحليلات، فمثلًا، يستثمر البعض في مجال الفنون والثقافة من خلال استثماراتهم في قطاعات أخرى مثل الإسكان أو التعليم، ويمكن تصنيف هذا النوع من الاستثمارات استثمارًا مؤثرًا في الإسكان أو التعليم، على الرغم من تأثيرها على الثقافة والفنون.”
إن تضييق تعريف قطاع الثقافة والفنون يُفقده فرصًا استثمارية كبيرة، فشركة Upstart Co-Lap’s أصدرت تقريرًا بعنوان Hiding in Plain Sight: Impact Investing in the Creative Economy (النقطة العمياء: الاستثمار المؤثر في الاقتصاد الإبداعي.) صنفت فيه أكثر من 100 من الأسهم الخاصة، والديون الخاصة والصناديق العقارية، والتي تمثل ما يقدر بـ 60 مليار دولار أمريكي من الأصول المُدارة، والتي كانت نشطة في قطاع الاقتصاد الإبداعي. 19% من الأموال التي تمت مراجعتها لها استراتيجيات واضحة للاقتصاد الإبداعي أو استثمرت في واحدة أو أكثر من مجالات الاقتصاد الإبداعي الخمس، بينما ثلث الأموال استثمرت في العديد من مجالات الاقتصاد الإبداعي. من أهم المواضيع التي ركزت عليها الاستثمارات في هذه الدراسة هي موضوعات متعلقة بالتأثيرات البيئية أو الوظائف الجيدة، أو حقوق المرأة أو رواد الأعمال ذوي البشرة السمراء. أما بالنسبة لقطاع الثقافة فلم يكن من الأولويات لدى الغالبية من المستثمرين، إلا أن العديد من شركاتهم تعمل أساسًا في الصناعات الإبداعية، مما يدل على الارتباط الوثيق بين الاقتصاد الإبداعي والتأثير الاجتماعي والبيئي. وفي السنوات الأخيرة، ازداد وعي المستهلك في طريقة إنتاج الأطعمة والملابس وحتى وسائل الترفيه، قد تكون رفاهية الإنسان واستدامة موارد الكوكب من القضايا القديمة لكنها تتطور في الاتجاه الغالب اليوم، كما أن المستهلك يطالب بممارسات مستدامة وأخلاقية من الشركات التي يضعون أموالهم فيها، والأمر لا يتعلق فقط بالاستدامة والأخلاق وإنما أيضًا طلب المستهلك المزيد من المنتجات والتجارب النوعية والجذابة. إن التغييرات في القوة الشرائية تجبر الشركات حول العالم من تنويع عروضها لجذب المزيد من المستهلكين المختلفين.
ينجذب المستثمرون المؤثرون للصناعات الإبداعية نظرًا لحجمها: المشاكل العالمية، فرص السوق الواسعة، الطلب الاستهلاكي الكبير. حيث يحاول المستثمرون ذوو التأثير المبكر في الموضة الأخلاقية أن يعيدوا تأهيل سلسلة التوريد العالمية لتصبح أكثر استدامة بيئيًا وتحُسن سبل العيش، بينما يراهن مستثمرو قطاع الأغذية المستدامة بمنتجات وتجارب جديدة ولذيذة تنعكس على صحة الأفراد والكوكب ككل. في الجانب الآخر يرى ناشطو وسائل التواصل الاجتماعي القوة في سرد قصص أولئك الذين لم نُسمع أصواتهم قط، لخلق فرص وظيفية اقتصادية جيدة في الوقت نفسه. أما بالنسبة لمستثمري العقارات في الولايات المتحدة في أماكن مثل دنفر وشيكاغو ولوس أنجلوس ونيويورك، فإنهم يعملون على دمج الإبداع والثقافة في مشاريع واسعة النطاق متعددة الاستخدامات ومتعددة الدخل، مما يضيف قيمة إلى الأصول المستثمَرة والمجتمعات المحيطة بهم. يمثل اجتماع الربح والغاية دورًا جوهريًا في كل صناعة من صناعات الاقتصاد الإبداعي.
أمثلة على الاستثمار المؤثر في قطاعات الاقتصاد الإبداعي
للاقتصاد الإبداعي القدرة على جذب المستهلكين وإشراكهم وتثقيفهم لتحقيق سلسلة التوريد الأخلاقية والمستدامة لوسائل الإعلام لتحقيق التغيير الإيجابي. المستثمر المؤثر المخضرم هو من يضع أمواله في الموضة الأخلاقية والأغذية المستدامة ووسائل التواصل الاجتماعي المؤثرة لتحقيق أهداف بيئية واجتماعية مثل الحفاظ على البيئة، المساواة بين الجنسين والمساواة العرقية، وتحقيق الفرص الاقتصادية، يقدم هذا التقرير شهادات مقنعة من مستثمرين ملتزمين ورواد أعمال مبدعين لأولئك الذين يبحثون عن اقتصاد إبداعي شامل ومنصف ومستدام، حيث سيجدون فرصًا عديدة لوضع رأس مال يتوافق مع القيم التي يبحثون عنها.
فيما يلي أمثلة لصناديق استثمارية تسمح للمستثمر المؤثر باستثمار رأس المال في الاقتصاد الإبداعي:
إدارة الاستثمار المجتمعي (CIM)
هي جهة تدير الاستثمار المؤثر المؤسسي وتوفر تمويلات استراتيجية للديون لتوسيع نطاق الابتكار المسؤول عن طريق تمويل الشركات الصغيرة وغيرهم من المقترضين الأفراد المحرومين من الخدمات في الولايات المتحدة. تستثمر هذه المؤسسة في المنتجات الائتمانية المبتكرة للدائنين (غير المصرفيين)، على سبيل المثال لا الحصر، منصات الإقراض عبر الانترنت التي تعالج الفجوة بين البنوك والمقرضين البديلين ذوي التكلفة العالية. كما تمول الشركات المملوكة للنساء والأعمال المملوكة لذوي البشرة السمراء والسكان الأصليين وذوي البشرة الملونة BIPOC والمتمرسين في مجال الأعمال بمقدار مرتين إلى ثلاث مرات أكثر من البنوك التقليدية والمؤسسات المالية. بشكل عام، حققت الشركات الممولة عن طريق CIM إجمالي إيرادات يُقدَّر بـ 8 مليار دولار أمريكي، وخلقت 10000 فرصة وظيفية وحافظت على 69000 وظيفة أخرى، إضافة إلى ذلك، فإن 24 بالمائة من محفظة إقراض المؤسسة تستثمر في الأعمال الصغيرة في مجال الاقتصاد الإبداعي حسب تقرير Upstart Co-Lab.
توفر مؤسسة دعم المبادرات المحلية LISC في نيويورك مساحات العمل ذات الأسعار المعقولة التي تمكن المبدعين في مجال الاقتصاد الإبداعي من بدء أعمالهم التجارية وتنميتها، وتساعد في توظيف الأفراد في وظائف إبداعية عالية الجودة وتحافظ على روح مدينة نيويورك كمكان يُنتج فيه الإبداع وليس فقط مستهلك ، وهو أول صندوق استثماري مؤثر يركز على الفنون والتصميم والثقافة والإبداع في سياق تنمية المجتمع. حقق هذا الصندوق 6.2 مليون دولار أمريكي في عام 2019، حيث قدم للمستثمرين سندات لمدة 8 سنوات مع فائدة سنوية بنسبة 2.75%. كما حقق هذا الصندوق التصنيفAA من قبل S&P Global Rating، والجدير بالذكر أن هذا الصندوق قد تأسس بشراكة مع Upstart Co-Lab.Purpose Evergreen Capital GmbH & Co. KGaA (PEC)
هي شركة قابضة توفر رأس المال طويل الأجل لتمويل الشركات الملتزمة بملكية إشرافية ، مع اتباع نهج اقتصادي وقانوني لحوكمة الشركات والذي يحمي الشركة ويحقق استقلالها ويحدد المصير التنظيمي لها إلى أجل طويل المدى. عادة ما تخضع الشركات الملتزمة بمشرف (وكيل) إلى مشاركة مباشرة في عمليات الشركة عكس المساهمين الخارجيين. تركز شركة PEC على أربعة أهداف وهي: دعم حوكمة الشركات، تعزيز الأمن الاقتصادي للموظفين، تعزيز الإدماج في مكان العمل وتعزيز تنمية المجتمع عن طريق خلق فرص العمل، كما تستثمر هذه المؤسسة في الشركات المربحة والكبيرة التي تتماشى مع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة في قطاعات تشمل الأزياء والمنسوجات والأغذية العضوية والزراعة والمنصات الرقمية. وأشارت الشركة إلى أن نحو 60% من استثمارات محفظتها الحالية والمستقبلية كانت في مجالات الاقتصاد الإبداعي حسب تقرير Upstart Co-Lab.
الاقتصاد الإبداعي كمصدر للاستثمار المؤثر، صناديق التقاعد، صناديق الثروة السيادية، الصناديق الخيرية
لقد كانت بعض المؤسسات والجامعات مستثمر فاعل ذات تأثير مؤسسي على مدى السنوات العشر الماضية، وبينما يركز هذا التقرير على فرص الاستثمار المؤثر المتاحة في قطاعات الاقتصاد الإبداعي، إلا أنه من المجحف غض النظر عن هذه المؤسسات كمستثمر مؤثر محتمل.
إن تضييق تعريف قطاع الثقافة والفنون يُفقده فُرَصًا استثمارية مهمة وكبيرة.
التزمت Netflix في عام 2020 بتخصيص 2% من إيراداتها – التي تصل إلى 100 مليون دولار أمريكي – للمؤسسات المالية والمنظمات التي تدعم ذوي البشرة السمراء بشكل مباشر في الولايات المتحدة، وقد وصفت نتفليكس هذه المبادرة بأنها جزء من التزامها بقضية المساواة العرقية ومحاولة لإيجاد عامل واحد على الأقل يساهم في تقليل الفقر لـ 19% من ذوي البشرة السمراء الذين لا يملكون ثروات أو أي أصول على الإطلاق – أي أكثر من ضعف معدل ذوي البشرة البيضاء- وفقًا للنظام الاحتياطي الفدرالي بالولايات المتحدة.
في عام 2019 نقلت مؤسسة آندي وارهول 25% من منحتها التي تبلغ 300 مليون دولار أمريكي لبناء استراتيجية المسؤولية المجتمعية. وفي نفس العام اعتمدت مؤسسة Souls Grown Deep Foundation & Community Partnership – وهي مؤسسة تدعم الفنانين الأمريكيين من الأصول الأفريقية ومجتمعاتهم من خلال تعزيز التمكين الاقتصادي و العدالة العرقية والاجتماعية والتقدم التعليمي- 100% من مخصصاتها في الاستثمار المؤثر. ومن جانب آخر استثمرت مؤسسة Building for the Arts- شركة متخصصة في إنتاج مبادرات الفنون المجتمعية ورأس المال الإبداعي وصندوق يمول الفنانين المبتكرين، وكل من هذه الأقسام تستثمر من مخصصاتها في مؤسسة دعم المبادرات المحلية بنيويورك وهو أول صندوق للاستثمار المؤثر في قطاع الاقتصاد الإبداعي للتنمية المجتمعية (طُور بالشراكة معUpstart Co-Lab في 2018 و 2019.)
منذ 2018، خصص متحف اللوفر للمسؤولية الاجتماعية 5% من صندوق المنح الذي تبلغ مخصصاته 250 مليون يورو، مع التركيز على أعمال الصناعات الحرفية والتقليدية، والسياحة الثقافية، والتراث الثقافي والتعليم وكل ما له علاقة بمتحف اللوفر. على سبيل المثال، استثمر صندوق المتحف في Mirabaud Patrimoine Vivant وهو صندوق للأسهم الخاصة يركز على الاستثمار في الأعمال المرتبطة بالصناعات والحرف التقليدية الأوروبية. كما يستثمر في Alpha Diamant II وهو صندوق للأسهم الخاصة يخصص 80% من العائدات في التبرعات وأكثر من 5% في دعم التعليم، وAlter Equity صندوق استثماري يستثمر في الشركات التي تبتكر حلولًا بيئية واجتماعية ويتبرع بـ 5% من العائدات لمشاريع التراث الفرنسي.
في عام 2016، تعهد كل من المتحف الميداني للتاريخ الطبيعي بشيكاغو والمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي في نيويورك بمنع الوقود الأحفوري تماشيًا مع برنامجهم وموقفهم السياسي بما يتعلق بتغير المناخ.
وفي عام 2015، تعهد معهد كاليفورنيا للفنون CalArts بالتخلص من الوقود الأحفوري، مما حقق هذا التحول ما يقارب 700 ألف دولار أمريكي من عائدات الاستثمار لهذا المعهد من عام 2016 وحتى 2020.
أثناء كتابة هذا التقرير، لا يبدو لنا المستقبل واضحاً، وقد يكون العالم قد بدأ بتسخير جهوده في التركيز على إحداث التغييرات الاجتماعية والبيئية من خلال صناعات الاقتصاد الإبداعي، حيث يعيد العالم بناء نفسه بعد جائحة كوفيد 19.y
بقلم: لورا كالانان | ترجمة: فاخرة الراشدية | تدقيق الترجمة : سميرة المخمرية |المصدر