نظرية التطور: مرآة على المستقبل

 

تشير نظريات داروين لانعدام أي احتمالية للحاضر، وأن المستقبل ما هو إلا شيء مبهم وغير قابل للتنبؤ. “ولد كل واحد منا في واقع تاريخي معين، تحكمه معايير وقيم خاصة به، ويديره نظام اقتصادي وسياسي فريد. وما علينا إلا أن نتعامل مع هذا الواقع كأمر مُسلّم به، وأنه طبيعي وغير قابل للتغيير. وفي الوقت نفسه، ننسى أن عالمنا قد نشأ من سلسلة من الأحداث العرَضية، وأن التاريخ لم يكتف بتشكيل التكنولوجيا والسياسة والمجتمع فحسب، بل حتى أفكارنا ومخاوفنا وأحلامنا. تطاردنا خيبات الماضي منذ زمن أسلافنا، وتمد يديها نحو أعناقنا موجهة روؤسنا نحو مستقبل واحد. لقد شعرنا بهذه القبضة منذ الصرخة الأولى ولهذا لا ننفك أن نفترض أنها جزء ممتد منا، وما سنصبح عليه لاحقاً. وكنتيجة حتمية، لم نناضل جاهدين لنتخلص من هذه القبضة ونتصور مستقبلًا بديلًا “.

– مقتطفات من كتاب الإنسان الإله: موجز تاريخ الغد ليوفال نوح هراري

يرتبط سلوكنا – خاصة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي – ارتباطًا وثيقًا بكيفية اعتقادنا أنه سيُنظر إليه. لإلقاء نظرة عن قرب حول تأثير هذا المنظور في سياق العلامات التجارية، قمت بتلخيصه لكم: “عند شراء الأفراد للمنتجات، فهم يسعون من خلالها إلى شراء إصدار أفضل من أنفسهم ” أو “الاقتصاد المعتمد”، في الجانب الآخر، العلامات التجارية ما هي إلا غيض من فيض، إذ أن اعتماد العلامات التجارية في مشهد التسوق يحكم علينا بالطريقة التي نتعامل بها مع مختلف الأمور. ولكي نفهم السبب، فمن الضروري أن نسلط الضوء على أمرين: أولهما لماذا يشكّل اعتماد العلامات التجارية أهمية كبرى بالنسبة لنا، وثانيًا، أن كل شيء موجود حولنا جاء نتاج تطور- أي الاختيار الطبيعي (أو غير الطبيعي).

لنبدأ باعتماده في نمط حياتنا اليومية.

تأثير الاعتماد على اتخاذ القرار

لقد تطور البشر في مجموعات صغيرة، لا يتجاوز عددهم 150 شخصاً. وكلما زاد العدد، واجهنا صعوبات في الحفاظ على علاقات مألوفة ومستقرة مع المجتمع، فضلاً عن تدهور الروابط التي جمعت بين أفراد المجتمع مع بعضهم البعض. معًا في هذه المجموعات، كان من الضروري أن تكون هناك آلية لتحديد الشخص السام الذي يصل تأثيره لباقي المجموعة وطرده. وهكذا، فقد نشأت من بين هذه المجموعات المبكرة أحاديث القيل والقال والنميمة وهذه كانت الآلية المُثلى لطرد شخص من المجموعة بأقل قدر ممكن من الاحتكاك.

كما مكنت الأقاويل المجموعات من صياغة معارف مشتركة حول الأفراد داخلها. لم يكن الأمر يتمحور حول طرد الشخص غير المرغوب، لكن يكمن التحدي في اعتراف المجتمع بعدم جدوى وجوده بينهم! وهكذا، يمكن الاعتماد على الجميع للتصرف عندما يحين وقت الطرد. وبما أن الطرد من المجموعة كان يعني موتًا شبه مؤكد، لا يُغني عن حقيقة أن بعضنا قد تطور مع الوقت مبرمجا لينسجم مع المجتمع بكل سهولة. أما أولئك الذين لم ينسجموا فقد ماتوا ولم يتكاثروا، لذا لم يبق منهم أحد.

وبالتالي، لدينا قدرة متطورة على فهم ما سيوافق أو لن يوافق عليه الآخرون، فضلاً عن تأثيرها العميق على قراراتنا.

وامتدادًا لهذه الفكرة، فإن الأمر يستحق أن ندرس كيف تؤثر عمليات الاختيار التي تحدُث في كل من عمليات التطور ونمو الأسواق على عملية توزيع الاعتماد الحقيقية. ولكي نفهم السبب، يتعين علينا أولاً أن نفهم كيف تحدُث عملية التطور البشري.

كيف تحدث عملية التطور التطور (ولكن أولاً، كيف لا تحدث)

لسنوات اعتقدتُ – بشكل خاطئ – أن التطور يحدث “لنا” نحن، كالنمو أو الشيخوخة. لكن هذا بعيدًا كلَّ البعد عن الحقيقة. التطور يحدث ببطء وباستمرار في كل مكان حولنا – ونحن لسنا جزءًا منه كما نعتقد.

يمثل كل واحد منا استراتيجية موجودة على امتداد مجموعة واسعة لا يمكن تخيلها من الاستراتيجيات الأخرى

نحن – البشر – لا “نتطور”. ويُعد من أكبر المغالطات أن نرمز لــ “الشيء” بأنه يتطور، في الواقع يمثل كل فرد منا استراتيجية موجودة على امتداد مجموعة واسعة لا يمكن تخيلها من الاستراتيجيات الأخرى، وكلها تنتشر بشكل مصادف بسبب عجز الجسم عن نسخ نفسه بشكل مثالي أثناء التكاثر.
وقد جاء مصطلح الطفرات لوصف السمات التي تميز العيوب في هذه النسخ، ولتوضيح التنوع البيولوجي الشاسع للكائن البشري. يتم اختبار هذه الطفرات مثل أصابع الإبهام المتقابلة في السوق ودراسة فكرة استنساخها لمعرفة ما إذا كان الفرد الحامل للطفرة قادرًا على التكاثر أو لا، وهنا يعمل اقتصادنا بالطريقة نفسها.

الاختيار في الأسواق التنافسية

لو أمعنا النظر في فكرة تطور محتوى يوتيوب. في غضون 60 ثانية، يتم تحميل حوالي 300 ساعة من المحتوى على هذه المنصة ، ويتم مشاهدة المحتوى مرة واحدة قبل أن يطويه النسيان. وعلى الرغم من ذلك، تحقق أقلية صغيرة انتشارًا واسعًا، ثم يعدّل آخرون الخصائص المسؤولة عن القبول الواسع الذي حظيت به لإنشاء محتوى مماثل. وهكذا، فإن العملية مستمرة.

ووفقًا لنظرية الأسواق التنافسية، فإن أفضل المنتجات تفوز على المدى الطويل، ويكون المستهلكون أفضل حالًا. وقد جاءت نظرية التطور لتقترح الشيء نفسه تقريبًا، مع وجود أهم اختلافين رئيسيين من بين قائمة من الاختلافات: أولاهما، تحديد عملية النسخ أسهل بكثير من عملية التناسخ في السوق (في النهاية مقاطع الفيديو على اليوتيوب، لا تتكاثر)؛ ثانيًا، إن السوق مخصص للسمات القابلة للتوريث، مثل محتوى يوتيوب.

توضح هذه الاختلافات حقيقة أساسية: تمامًا مثلما صمدت الحياة النباتية والحيوانية من حولنا أكثر من كل البقية، كل شيء “طبيعي” في المجتمع الحديث – المنتجات التي نشتريها، والمبادئ التي نتمسك بها، والأيديولوجيات التي نتبناها – هي التي صمدت للنهاية في سوق التنافسية.

وبعبارة أخرى، سلوكنا هو نتاج بحت لما قد يوافق عليه المجتمع والسوق.

والحجة المضادة هنا بطبيعة الحال هي أننا نفعل الكثير بلا تفكير واعٍ في الكيفية التي سوف يُنظر بها إلى الأمر. لا نأخذ في رد فعل الآخرين بعين الاعتبار، على سبيل المثال، عندما نتوقف في محطة البنزين لملء خزان الوقود. وفي حين أن هذا صحيح، إلا أنه يتجاهل عملية الموافقة المستندة إلى السوق التي أفسحت المجال لمحطات الوقود في المقام الأول. لقد جعلتنا عملية الموافقة هذه نربط رعايتهم بالموافقة.

نحن على قيد الحياة اليوم لأننا نجيد التصرف وفقًا لما نعرف أنه قد تم اعتماده من قبل المجتمع

كانت محطات الوقود تتنافس فيما مضى (وحتى الآن- شركة تسلا كمثال) مع أشكال أخرى من الوقود وموزعيه للحصول على موافقة السوق. اليوم، ومع ذلك، هم في كل مكان، بعد أن فازوا بهذه المنافسة جاعلين من محطات الوقود الخاصة بهم الخيار الوحيد لتوزيع الوقود على الإطلاق، ويجعل من الصعب علينا تصور البدائل. نعتقد أن تحيزنا لمحطات الوقود كنوع من العيوب المجتمعية ولا تربطها أي علاقة بالطريقة التي نريد أن ينظر بها الآخرون إلينا. إن طريقة التفكير هذه ـ وإن كانت منطقية ـ خاطئة.

في الواقع، هذه الأنواع من سلوكيات المستهلك “العادية” متعلقة بكيف سيُنظر إليها. يكمن في أغوار أعماق ماضينا التطوري القدرة على التعرف إلى السلوك غير الطبيعي وإبعاد أنفسنا عنه – تذكر، أولئك الذين لم يفعلوا لقوا حتفهم ولم يتكاثروا. نحن على قيد الحياة اليوم لأننا نجيد التصرف وفقًا لما نعرف أنه سبق الموافقة عليه من المجتمع، والأهم من ذلك، ما نعرف بأنه ليس كذلك.

 

فلنتأمل هنا كم من الحياة الحديثة تعتمد على القدرة على نقل نفسك إلى مكان ما بالسهولة نفسها التي تسمح بها السيارات التي تعمل بالوقود. والأفضل من ذلك، اسأل نفسك: ماذا سيحدث للعالم إذا اختفت محطات الوقود ببساطة؟ الإجابة على هذا السؤال لا حصر لها، لكنها ليست “لا شيء”.

يوضح هذا الفكر أن كل شيء موجود يحتوي على الاعتماد المشترك المتطور على كل شيء آخر، وهو الاعتماد المتبادل الذي نتجاهله بوعي ولكننا نفهمه بشكل لا شعوري، والذي لا يمكن تصنيفه إلا على أنه تكييف السوق لنا لمعرفة ما يعتبره المجتمع “طبيعيًا”.

ربما لخص جون موير هذا الأمر على أفضل وجه في هذا الاقتباس:

“عندما نحاول اختيار أي شيء بمفرده، نجده مرتبط بكل شيء آخر في الكون”.

بوسعنا أن نفهم اقتباس موير باعتباره بياناً للحقيقة ودعوة. على الرغم من أنه من غير المجدي تحليل أي شيء خالٍ من السياق المحيط به (وبالتالي الاقتباس)، هناك درس يمكن تعلمه من هذا العبث. ولكن من المؤسف أن هذا الدرس لا يتعلمه أغلبنا أبدا.
نحن لا نتعلم كيف نحلل الأشخاص والأعراف في سياق الأنظمة التي تشكلهم ويشكلونها في الوقت نفسه. بدلاً من ذلك، نُعلَّم تحليل القصص: الروايات التي تتسم ببساطة اصطناعية تحمينا من التعقيد المطلق للواقع وترابطه.

كل شيء حولنا لديه اعتماد مشترك متطور على كل شيء آخر.

وعند إدراك ذلك، فإن ما يتضح على الفور هو كيف يعيش معظمنا بلا تفكير، ويمر خلال الحياة بعدم مبالاة تقريبًا في مدى احتمالية كل شيء من حولنا. يمكن وضع كل ما نقوم به في مجموعة ضيقة من سلوك الاعتمادية المشتركة حاليًا والذي تجاوز كل السلوكيات الأخرى في سوق تنافسية (كالحياة). نعتقد أن هذا كل ما في الأمر، حتى مع وجود عدد لا يحصى من الوجود غير المحقق الذي يجلس خارج الطيف الذي يميز العالم الذي نستيقظ فيه، وننجرف فيه، ونغفو فيه، مرارًا وتكرارًا مرة أخرى، حتى لا نفعل ذلك يومًا ما.

هذا يوضح أيضًا سبب انجذابنا إلى السلوك غير الطبيعي وصده في الوقت نفسه. يوقظنا الخلل مما يمكن أن يكون أحلام يقظة دائمة؛ مع ذلك نحن مضطرون تمامًا إلى مراقبة الموجود خارج نطاق الحياة الطبيعية والتعليق عليه (انظر: الصحف الشعبية، القيل والقال، الطقس). لا يسعنا إلا أن نستمع إلى تمتمات غير مترابطة من متشرد واسع العينين يهتز جيئةً وذهابًا بجانبنا في الحافلة، أو الانهيارات التي لا يمكن التنبؤ بها كما هو متوقع لأولئك الذين ينفقون الأموال على الناس ليصرفوا أموالهم (انظر: هوليوود). لا يمكننا أن نشيح ناظرينا عن التلفزيون عندما تطاير اللهيب من المبنى وينفجر، وننسى إمكانية التنبؤ بالحياة في لحظة، لكننا نتذكر حداثة الأمور غير الطبيعية إلى الأبد.

يقابل هوسنا باللامألوف حاجتنا الماسة للتأكد من أنها لا تقضي علينا تمامًا. هذا يفسر لماذا لا يمكن صرف نظرنا بعيدًا عن ذلك الرجل على متن الحافلة، أو عن الثنائي في صحيفة الفضائح، أو عن ذلك المبنى المحترق؛ القيام بذلك سيكون بمثابة فقدان السلطة التي نعتقد أننا نمتلكها بينما ما زلنا نلاحظها.

في الحالة الطبيعة، أن تكون غير طبيعي هو أن تكون مرفوضاً. أن تكون مرفوض يعني أن تكون وحيدا، وأن تكون وحيدا يعني أن تكون ميتاً. نحن لا ندرك ذلك، ولكن بعد آلاف السنين لم ننسى.

وفي ما يلي هي سلوكياتنا الافتراضية تلك التي حظيت تاريخياً بأكبر قدر من الموافقة من السوق. بينما تعمل الوكالات والشركات لإقناعك بأن الناس سيرونك كما تريد أن يُنظر إليك إذا قمت بشراء منتجهم (اختر: شباب / نحيف / ذكي / مناسب، وما إلى ذلك)، فإن عملية اختيار السوق مشغولة بتوضيح أي السلوكيات مرتبطة عمليًا بجميع السلوكيات الأخرى، أو أي السلوكيات يمكنك القيام بها دون أن تزعج أي شخص.

نحن البشر دليل على موافقة الانتقاء الطبيعي. للحصول على دليل على ما يفعله السوق، ننظر إلى أبعد من نجاح كل شيء حولنا (الباقي انقرض).

لنتأمل قضية الحداثة: نحن نشرب القهوة في الصباح والبيرة في المساء بولاء يمكن تصنيفه على أنه طقوس، متجاهلين أن هناك بالتأكيد مشروبات أخرى تتنافس على اهتمامنا وتفضيلنا. نحن نتصافح افتراضيًا تقريبًا، ونفشل في إدراك أنه ربما كانت هناك أساليب أخرى للتحية التي تلاشت لسبب أو لآخر في الفراغ الكوني للتاريخ. نحن نقتنع بالإيديولوجيات مثل الدين لأن ممارستها يُعد أمر “طبيعي” و “مقبول”. في هذه الأثناء، نتجاهل الحروب التي خاضها وفاز بها أولئك الذين تعتبر كلماتهم الراسخة الآن كقانون، لا لشيءٍ سوى لأنه من الأسهل القيام بذلك بدلًا من البحث عن تجارب أولئك الذين لم يعيشوا لفترة كافية لتوثيقها في كتاب. ربما الأهم من ذلك، أننا نميل إلى تجاهل مدى ارتباط كل هذه السلوكيات ببعضها البعض.

وهناك استثناءات، ولكن معظمنا يأخذ العالم كما هو لأن وتيرة العيش المتسارعة فيه تعمينا عن إدراك أن الوضع الراهن أو المستقبل الذي نشعر بأننا نسير نحوه أمر لا مفر منه.

فهم هذا الأمر، يمنحنا شعورًا كبيرًا بالفخر والتفاؤل. ويعزوا الأمر الأول بعد مئات الآلاف من السنين ما زلنا هنا، ووصولاً إلى  الماضي المكتوب يشترط علينا أن نؤمن بمستقبل مكتوب بالمثل، فإن فهم العالم كنظام بيئي معتمد يوضح بصورة غير محتملة أنه لا يوجد شيء أبعد عن الحقيقة.

يكمن الجمال في إدراكنا أنه مهما غزت التقنيات الحديثة جوانب حياتنا والسيطرة على القادم من أيامنا، في نهاية المطاف، المستقبل هو في جعبة المجهول، لا أحد يعلمه، مثلما كان حاضرنا مجهول في الماضي. وعلى الرغم من أنه قد يبدو جماد بصرف النظر عن ما قد يحمله هذا المستقبل، كل ذلك سيكون ناتجًا عن عملية الاعتماد مهما اختلفت ، هناك جمال يكمن في معرفة أن الاعتماد الذي ننتظره لن يحصل نتاج بعض المبدعين، أو المخططين، ولكن بفعلنا نحن. سيحدث جراء العالم المعقد الذي نعيش فيه، إذا لم نكن مكملين للدائرة التي نعيش فيها.

بقلم: زاندر نيتركوت | ترجمة: أفراح السيابي، مريم الريامي | تقيق الترجمة: مريم الغافري | المصدر

Exit mobile version