في قلب رواية الكاتب الأميركي فرانك نوريس الواقعية التي تدور حول مطلع القرن، تكمن المحاولة الجوهرية لمشاركة الخضة اليومية وعنف الحداثة. وفي هذا المقال، يتقصى هنري گياردينا كيف ساعد هذا المحور ونهج نوريس السردي الفريد للقصص في تمهيد الطريق لأسلوب فيلمي حقيقي.
تبدأ حكاية السينما بالعنف. صُنعت أول كاميرا للصور المتحركة على يد إيتيان جول ماري، وهو العالم الفرنسي الذي أثناء سعيه لإثبات نظرية التطور لداروين من خلال تسجيل الحيوانات المتحركة، ابتكر جهازًا على شكل بندقية – “بندقية التصوير الفوتوغرافي” – حتى يسجل الطيور أثناء طيرانها.
حتى بدون هذه التفاصيل، كان هناك شعور بالانتهاك متأصل في هذا المفهوم لدى أولئك الذين تعرضوا لأول مرة للصور المتحركة. عُرف الفيلم في البداية بالجانب المتغير نفسه الذي جعل من الصعب تعريفه. فهل هو طريقة لتوثيق الحياة أم لرواية القصص؟ هل هو في سبيل الحقيقة أم الخيال؟ الفن أم العلم؟ هل يمكن الوثوق في النتائج الشبيهة بالظل للكاميرا على أنها نتيجة ملموسة أو أنها أكثر من مجرد طيف؟
على الرغم من تطوير جهاز الفيلم الأول في نهاية القرن التاسع عشر، إلا أنه لم يصل إلى مرحلة النضج الكامل إلا في بداية القرن العشرين المختلف تمامًا. فكان أول ما أثار إعجاب العالمين ماري والمصور إدوارد مويبرديدج، الذين شاركوا في صنع كاميرا لالتقاط الصور المتحركة بالصدفة، هو مفهوم التقاط الواقع بشكل كامل. أما بالنسبة لجمهوره الأول، فالفيلم يمثل أمرًا مختلفًا: تلاعب كامل بالواقع وتعبير مزعج عن الحداثة وانعكاس لتناقضات الحياة الحديثة.
لذا كانت أولى مظاهر السينما، ابتداء من الثوماتروب الخشن وما بعده، مصحوبة بالشعور بأن الصور المتحركة مخادعة ومضللة. وما عزز النفور بين الأفلام الأولى وجماهيرها هو قصة ردة فعل الجمهور المرتعب اتجاه فيلم الأخويين لوميير L’Arriveé d’un Train لعام 1896. وهو ما يشار إليه بـ”ـالأسطورة التأسيسية” للسينما- هي فكرة أن الجماهير الأولى للصور المتحركة لم تكن لديها القدرة ولا الأدوات لتمييز الفيلم عن الواقع.
ولا يشير روائي مطلع القرن فرانك نوريس إلى فن السينما الجديد آنذاك في كتاباته بشكل متكرر ولكن عندما يفعل ذلك، فإن ذلك دائمًا ما يكون لأجل هدف مميز. في روايته ماكتيج (McTeague) عام 1899، تذهب مجموعة من الشخصيات إلى المسرح ويُقدم لهم فيلم قصير جزءًا من البرنامج. وتتفاوت ردودهم من تعجبٍ إلى ارتيابٍ؛ فهم يواجهون الاستحالة المطلقة لما يظهر أمامهم، حتى أن ماكتيج نفسه كان “مذهولًا”: “انظر إلى ذلك الحصان، إنه يحرك رأسه” صاح بانفعال وكان متحمسًا تمامًا. “انظر إلى ذلك التلفريك، إنه قادم- والرجل الذي يعبر الشارع. انظر، هنا تأتي شاحنة. حسنًا، لم يسبق لي أن أرى مثل هذا في كل حياتي!”
كتب نوريس ماكتيج في أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر، بعد ما أمضى مدة من الزمن في كتابة تقارير عن الحرب الأميركية الإسپانية لصحيفة سان فرانسيسكو. وفتحت له الرواية – وهي قصة مروعة عن الجشع والانتقام والداروينية الجنسية – باب الشهرة في سن التاسعة والعشرين. وكان رد فعل الجمهور الأميركي في ذلك الوقت – الذي كان مايزال متزمتًا ومحافظًا نسبيًا في مطلع القرن – على الطبيعانية لرواية ماكتيج مزيجًا من الانبهار والخوف، وهو الإحساس بأن اللياقة الأخلاقية قد انتُهكت في قصة نوريس التي ليس بها أي محظور عن جنس جريمة القتل. كان تصوير الجنس والحداثة مختلفًا عن أي شيء موجود في المشهد الأدبي الأميركي الحالي، وعليه كان من الصعب لحدٍ ما تصنيف المؤلف الشاب في البداية. فبدا كأنه خرج من العدم في عام 1889م؛ مراسل في سان فرانسيسكو يبلغ من العمر تسعة وعشرين عامًا وخرج برواية بارزة لا يبدو أنها تتناسب مع أي قالب موجود. وفي محاولةٍ لربطه ببعض التقاليد الموجودة مسبقًا، غالبًا ما أشارت الصحافة الأميركية إلى نوريس بِعَدِّه”زولا الأميركي” الذي مكنه تصويره الجرافيكي للعالم الحديث العنيف أن يتفوق على الخبير الفرنسي نفسه – كما تفوقوا على ثيودور درايزر بعد سنوات – حيث أنه قبل خوض التحدي بأعماله المشهورة في المدرسة الطبيعانية. لكن ارتياح نوريس لتصوير النشاط الجنسي العنيف وعالم الآلات والشعور بالعرق الأميركي “بوتقة الانصهار” (بما في ذلك الأقسام الكبيرة المكتوبة باللهجة والعديد من الصور المعادية للسامية المؤسفة) هو ما جعله كاتبًا غير لائق وفقًا لمعايير ذلك الوقت. وهو ما كان أيضًا سببًا في جعل مجموعة أعماله نوعًا من المخططات لما ستصبح عليه السينما في وقت قصير: وهو الأمر الذي لم يكن حتى الآن فنًا أو سلعة كاملة بل بشكل مباشر بينهما، متاجرة بالجنس والعنف لتجذب جماهيرها الأولى وتبقيهم في مقاعدهم.
إن تصوير رواية ماكتيج لجمهور أحد أوائل الأفلام التجارية هو مشهد يتناسب بشكل غريب مع بقية القصة، حيث يشكل نذيرًا غريبًا لأمور قادمة. فمن شك ماكتيج وارتياب أم زوجته من جهاز الفيلم كأنه خدعة وافتتان زوجته ترينا به، يحصل القارئ على عرض موجز للاستجابات المختلفة لواحد من أكثر الأحداث الحديثة عنفًا في ذلك الوقت: رحلة إلى السينما، ليشاهدوا واقع ماضٍ يتكشف كما لو كان في الوقت الحقيقي أمام أناس كانوا غير قادرين على تصديق هذا الواقع. ويشكل هذا جزءًا من مشروع نوريس الكبير؛ أعماله الصغيرة والمتسقة من ناحية الموضوع التي أنتجها في سن التاسعة والعشرين حتى وفاته بعد ثلاث سنوات في الثانية والثلاثين: تصوير الخضة اليومية للإعلام والتحول الصناعي وتسجيل الزمن وعرض صورته المتخيلة على أنها الحقيقة من خلال جهاز الفيلم. فحتى لو كانت قصة إغماء أفراد الجمهور عند وصول القطار في الشاشة كما يظن الكثيرون من وحي الخيال، فإن سبب وجودها معتقدًا تقليديًّا ينبع من انفصال حقيقي للغاية، وهو جزء من فرضية العصر الصناعي. حيث كيف يمكن للواقع الحالي أن يحمل وثيقة حية من الماضي؟ وكيف يمكن لقسم من الوقت المفقود أن يظهر مرة أخرى بشكل واقعي في الوقت الحاضر؟
أصبحت العلاقة المعقدة بين طريقة تمثيل الحياة والطريقة التي يغير بها هذا التمثيل بنية الحياة الحقيقية دراسة في حد ذاتها بحلول مطلع القرن. وقارن برغسون في محاضرة في باريس عام 1902بين “آلية” الفكر وآلية الكاميرا. فيقول في الحياة اليومية، “نحن بالكاد نفعل أي شيء آخر غير الشروع في نوع من التصوير السينمائي بداخلنا”.
صدرت رواية الأخطبوط لنوريس في عام 1901، قبل عام من محاضرة برغسون. وفيها، تراود إحدى الشخصيات الرئيسية رؤية سينمائية قبل النوم:
… بينما كان عقله يرتاح في تلك الحالة الغريبة المنومة التي تأتي قبل النوم مباشرة، مرت عليه سلسلة من الصور لأنشطة اليوم أمام مخيلته مثل بكرة الكينتوسكوب.
بحلول عام 1902، صُور بالفعل التماثل الطبيعي بين العقل والكاميرا بصفتهما عاملين متساويين للتفسير البصري. وما بدأ صدمةً للنظام سرعان ما أصبح مستوعبا ثقافيًا، بالرغم من أنه مايزال غريبًا إلى حد ما. وستصبح الحداثة نوعًا من الاستجابة لهذا الأمر؛ حيث تطرح مجموعة من الفن والأدب تركز على نقطة اتصال بين الواقع المادي والدماغ البشري الذي يواجهه ويعيد تفسيره من دون أن يغفل عن أي تفصيل.
كان الفرق الوحيد الذي بدا أنه كان موجودًا عند جماهير الأفلام الأولى هو بين الإيمان والفهم. فالثقة في مثل هذا الاختراع الذي لا يمكن تصديقه بسهولة مثل الكاميرا تتطلب قفزة إيمانية جماعية كبيرة، على غرار النوع الذي يتطلبه الدين أو الأشكال الروحانية الغيبية. في الواقع، كان الفيلم منذ البداية يُقارن بالأشباح والأطياف والأحلام، والتي هي خيالات ينسجها العقل ولكن لا يثق بها العقل المنطقي. وهي كذلك أمور لم يكن لدى العلم ولا الدين أي وسيلة لجعلها مترابطة منطقيًّا، وعلى هذا النحو ستصبح قريبًا من علامات علم النفس. وكان المكان الطبيعي للفيلم هو داخل هذه المنطقة – بين شيء ما يُشاهد وشيء يُصدق، وبين شيء موجود ولكن لا يمكن تفسيره بالكامل بما يرضي الكثيرين- وهو ما جعله يظهر غريبًا وفقًا لتعريف فرويد الشهير في عام 1919: الأمر الذي يثير شكوكنا ليس فقط حول بيئتنا الخارجية، ولكن أيضًا حول استقرار عقولنا ومشاعرنا وقدراتنا في الإدراك.
في عام 1898، تعرض نوريس لصدمة من النوع المألوف أثناء عمله بصفته مراسلًا في الحرب الإسپانية الأميركية؛ فيصف صور المعركة التي لا تمحى من ذهنه في رسالة كتبها وهو في الجبهة:
“أريد أن أنتزع هذه الأشياء من ذهني وأطفئ الحرارة في دمي، لذلك إن حالفني الحظ، فسأعود إلى الأماكن القديمة لمدة ثلاثة أسابيع، وفي الجزء الأكبر من هذا الوقت آمل أن أتمرغ و أتمدد على أطول عشب يمكن أن أجده في محمية بريسيديو على المنحدرات المطلة على المحيط و تمتص الأوزون وأشم الروائح التي لا تأتي من النباتات المتعفنة والمحروقة والخيول الميتة والمياه السيئة”.
كانت نية نوريس عند عودته إلى أميركا هي العودة إلى أسلوب حياة سليم وهادئ ولكنه عوضًا عن ذلك استغل فترة التعافي بعد الحرب في وضع تصور وكتابة القسم الأكبر من رواية ماكتيج؛ العمل الواقعي الكئيب الذي من شأنه أن يعزز سمعة كاتبه بعَدِّهطبيعانيًّا شجاعًا ثابتًا وروائيًّا للعنف. لم يكن الواقع العنيف للعالم المتغير أمرًا يمكن تجاهله أو نسيانه بمجرد خوضه، لاسيما إن عايشه في بيئة القتال. فظهر هذ الواقع في أعمال نوريس وفي مظاهر سينمائية من شأنها أن تؤثر بدورها في فن صناعة الأفلام الذي كان ما يزال في مراحله الأولى وقت وفاته.
كتب نوريس ثماني روايات، إلى جانب مجموعة كبيرة من القصص القصيرة والمقالات الصحفية. ولأن مهنته قصيرة وغير محددة نسبيًّا، أثار وضوح أسلوبه وثباته الدهشة منذ البداية. فمن ماكتيج وصاعدًا، أصبحت موضوعاته واضحة، وحتى أسلوبه في تحويلها إلى قصة. في أقدم رواياته الأولى الڤيكتورية Vandover and the Brute يرسم رسمًا أوليًا تجريبيًا تقريبًا لمفهوم “الحيوان البشري”، الذي أخذه من صاحب التأثير الأعظم وأحد أقدم الطبيعانيين، إميل زولا. حيث تتبع الرواية تدهور بطلها، فاندوفر، وانتقاله من حالة الشباب والنقاء إلى الفساد التام والانحطاط، الناجم عن الاعتداءات الجنسية وفقدان الأموال. تعد ماكتيج نسخة أكثر تعقيدًا من نفس هذه القصة، مع مجموعة أكبر من الشخصيات وتركيز أكبر على مكان الأحداث. فتُوصف شخصية ماكتيج وهو طبيب الأسنان بأنه غير متعلم وحاد الطبع، وبدا بأنه سينجو في البداية عن طريق زواجه من ترينا، وهي شخصية أكثر لباقة قليلا من الطبقة البرجوازية، وأبناء المهاجرين الألمان الجدد. ومع ذلك، تتراجع هاتان الشخصيتان وتصبحان بائستين بسبب سلسلة من التغييرات في دخلهما ووضعهما الاجتماعي، وعندها يتجلى العنف الغريزي والمتأجج عندهما.
رواية الأخطبوط هي أول رواية من الثلاثية التي خطط نوريس لكتابتها باسم “ثلاثية القمح”، وهي مختارات تعد بمثابة أطروحة صحفية خيالية (تشبه إلى حد كبير ما ستكون عليه رواية الأدغال لسنكلير في عام 1906) تتبع حياة محصول القمح ابتداءً من نموه حتى توزيعه على مضاربي الشركات. تفتتح رواية الأخطبوط الحكاية بإعادة تصور مأساة Mussel Slough عام 1880، وهي مثال دموي على احتكار الشركات الذي أصبح في الوقت الذي أعاد نوريس سردها في عام 1900 جزءًا مهمًا من تاريخ تطوير الساحل الغربي.
أما الرواية الثانية الحفرة فتسرد حكاية لورا جادوين، وهي امرأة مثقفة ومثالية متزوجة من رجل كادت تعاملاته في البورصة أن تدمر كليهما. وكان من المقرر للرواية الأخيرة الذئب أن تكون عن نمو القمح والمجاعة في أوروبا. ولكن توفي نوريس قبل أن يشرع في كتاباتها.
كان أدب الغرب الأميركي في مطلع القرن ناشئًا من الصفر تقريبًا، كما أنه يفتقر إلى تقليد أدبي متميز يمكن أن يُوسع أو يُعلق عليه أو ينبثق منه شيء جديد. فقصصه مستندة ومستلهمة من المشهد العام المتطور للغرب نفسه، الذي كان في هذه الفترة يقف مباشرة بين هويته الأصلية بصفته برية وبين مناخ التصنيع الذي سرعان ما أصبح واقعًا جديدًا. فلم تعد المناظر الطبيعية البرية مترامية الأطراف في كاليفورنيا هي الغرب الأميركي القديم، ولم تعد أيضًا مركزًا حضريًا تمامًا. وبطبيعة الحال ستغير صناعة الأفلام كل هذاــ وبسرعة.
ترعرع نوريس في الطبيعة الحضرية المتغيرة في شيكاغو وسان فرانسيسكو، فجعل هدفه بقرب نهاية حياته تتبع هذه التغييرات سياسيًا في أدبه. ومع ذلك، فإن تطوره الفني بصفته رسامًا وصحفيًّا وأخيرًا كاتبَ نثر تحدد من خلال علاقته بالعالم المرئي والطرق المتغيرة لتفسير ذلك العالم الذي كان ينمو حوله خلال الفترة التي عاش فيها.
يقول كُتاب سيرته: ” كان من إرث تجربته التصويرية وكذلك يعد من إرثه الصحفي عمل جمالي روائي قلل من أهمية دور الترخيص الإبداعي وشدد على القيم الأكاديمية المتمثلة في الملاحظة الدقيقة للحياة والقدرة التقنية في تمثيلها”. أما فيما يتعلق بمهام نوريس الخارجية لصالح Wave، فتُسند إليه مهمة التصوير. قال ويل إروين، وهو مراسل آخر في Wave: “بغض النظر عما كان يفكر بذلك اليوم، ومهما رأى بعيون الوميض [الكاميرا] أو بعين خياله، فهو قد يكتب ويطبع”. لذلك عندما ذهب لتغطية الحرب الإسپانية الأميركية، كان من المتوقع أن يوثق هو وزملاؤه الصحفيون ما رأوه بصريًا وكذلك كتابيًا. وكانت تلك الحرب بعد كل شيء أول حرب أميركية مصورة.
في أوائل أعمال نوريس الصحفية لصالح The Wave و McClure، كان بالفعل قد طور أهم جوانب هذا الأسلوب. كان ظاهرًا في الرمزية القاسية المهيمنة والاستعارة الصريحة – التي من شأنها في الروايات أن تفسح المجال للاختلاف على لقب هوميروس – والتي هي عملية يحول بها شخصياته باستخدام عبارات متكررة وغير متغيرة إلى كيانات بصرية ثابتة يمكن استدعاؤها صورًا حقيقيةً في ذاكرة القارئ. هناك أيضًا أسلوب السرد المتقدم ذو الطابع الحركي وهو أسلوب دائري وذاتي المرجع، مثل ذلك المستخدم لوصف المناظر البانورامية للموقع التي تفتح كلاً من رواية ماكتيج و الأخطبوط. وأسلوب الوصف المتكرر الذي يُعرف بالاستخدام المفرط للصفات، والتي تكون غالبًا بشكل ثلاثي (مثلا في ماكتيج، يوصف عطر شعر ترينا بأنه “حلو، ثقيل، مسبب للوهن”. في حين يوصف الدافع الجنسي لماكتيج بـ”ـبشع، وحشي، لا يمكن مقاومته”) والتي تسعى لتحاكي على الصفحة الأسلوب الحركي للحدث الذي يصفونه في المشهد. قد يكون عمل نوريس يعكس المهمة السينمائية وذلك من خلال المزية البسيطة المتمثلة في نشأته جنبًا إلى جنب معها. ولكن يبدو أن ميل نوريس للتحرير على الصفحة قد وضع مخططا لأسلوب فيلمي حقيقي. فإن لم تكن رواياته عبارة عن سيناريوهات لأفلام، فهي على الأقل معالجة الفيلم متطورة للغاية، تستبق نوعًا سرديًا بصريًّا بديهيًّا لم يتقنه الفيلم بعد.
في الفترة ما بين 1909 و 1924، نشأت تقنية التحرير الكلاسيكية، وطُورت في أميركا بشكل أساسي على يد ديفيد غريفيث. وفي الفترة نفسها حُولت أربعة من أعمال نوريس البارزة إلى فيلم. فاُقتسبت ماكتيج ثلاث مرات والحفرة مرتين. وأدت الاقتباسات الأولى والأخيرة إلى تحول مهم في الطريقة التي نوقشت بها السينما بصفتها شكلًا فنيًّا والقوانين المتغيرة للاقتباس الفني في الثقافة بشكل عام. ويعرض فيلم احتكار القمح A Corner in Wheat”” لعام 1909، الذي اقتبسه وأخرجه ديفيد غريفيت، واحدة من أول الاستخدامات المتطورة التحرير المتوازي في تاريخ السينما من خلال الانتقال بين المواقع ليظهر الحقائق الاجتماعية المختلفة لشخصياته جنبا إلى جنب أثناء عرضها في الوقت الفعلي للفيلم. ويعد فيلم الطمع لعام 1924 إحدى محاولات إريك فون ستروهايم الشهيرة المحكوم عليها بالفشل لترجمة ماكتيج صفحة تلو الأخرى إلى لغة الشاشة.
في رواية الأخطبوط قام نوريس بالفعل بتحرير الصفحة، وذلك بالقفز بين المواقع ليظهر الفرق بين الحقائق المختلفة للطبقة العاملة المحرومة وأسلوب الحياة المتخم للأثرياء. ويُعرض هذا الاختلاف بطريقة تجعل القارئ يشعر بمستوى معين من المسؤولية تجاهه. فتكون ردة الفعل مزيجًا من السخط والشعور بالذنب والعجز. فها هم الأغنياء، وها هم الفقراء، وها هي الفجوة بينهم. وتكون العلاقة بينهما وكيف يجب أن نشعر حيالها واضحة.
لا شيء يفصل بينهما سوى خط؛ فاصل بصري في السرد. فلم تبذل أي محاولة من جانب نوريس لمساعدة القارئ في التعرف على مواقعهم الجديدة – فكان القطع مفاجئًا وشديدًا ومربكًا تقريبًا. ومن هذا التسلسل التجريبي الغريب أخذ فيلم غريفيت توجيهاته.
يجمع فيلم احتكار القمح بين الجوانب الأكثر دراماتيكية في رواية الأخطبوط و رواية الحفرة لتقديم بيانا أكثر إيجازًا من الناحية العاطفية حول التفاوت الاقتصادي. يختصر غريفيت أطروحة “ثلاثية القمح” في ثلاث عشرة دقيقة، موضحًا لنا الحياة المختلفة لمحصول القمح: تجريديا (سوق الأوراق المالية)، وواقعيا، وعلى الرفوف، حيث دفعت قوى السوق قيمتها إلى ما هو أبعد مما يمكن أن يوفره المواطنون من الطبقة الدنيا والمتوسطة (أو حتى حصاده من قبل المزارعين الفقراء). ويُوضع السبب والنتيجة جنبًا إلى جنب مثل اللوحات الفنية الحية.
فيقُدم لنا حفل عشاء مفعم بالحيوية في لقطة واحدة:
ولوحة الفقر في اللقطة التالية:
في اللقطة الثانية، يقف الممثلون ساكنين- إنها لحظة بصرية بحتة دون أي محاولة من جانب الممثلين لمحاكاة الواقع. إن الإحساس بالحياة الذي توقف تمامًا هو أكثر وضوحًا في القطع المتنافر بين مشهد حفل العشاء ذي الرسوم المتحركة المكثفة وهذا البورتريه الصارخ. ويكون القطع بسرعة كبيرة جدًا بحيث لا يمكننا فعل أي شيء سوى مقارنة الصور والشعور بها.
عندما أعاد غريفيث تفسير موت شرير نوريس على الشاشة، استخدم نفس أسلوب القطع ليوضح نقطة أخلاقية مبهمة. في إحدى اللقطات، يسقط ملك القمح في حفرة القمح المدروس، وهي نفس المادة التي جعلته ثري:
وفي اللقطة الثانية، اندلعت أعمال شغب في المخبز و استدعيت الشرطة:
في نهاية المشهد التالي، يُدفن ملك القمح بشكل كامل تقريبا وكأنه في ساعة رملية عنيفة . فتظهر أصابعه فقط:
أصبح التحرير المتوازي بعد فليم احتكار القمح نوعًا من تقنيات التصريح. فكان طريقة سريعة وبديهية لتكوين علاقة واضحة بين تسلسلين منفصلين للصور كانا من الممكن أن يرمزا لأي شيء بدون هذه العلاقة.
في مقال نوريس عام 1897 الخيال هو الاختيار “Fiction is Selection”، يجادل بأن الكتاب هم محررون أكثر من كونهم مخترعين. وظيفة “الكاتب ومصمم الفسيفساء على حد سواء” هي “الاختيار والجمع”. فيقول: بأن القصة يجب أن تنحت من التصميم غير المصقول بعد في دماغ الكاتب، لأنه لا يمكن إنشاء أي شيء لم يكن موجودًا مختبئًا مسبقًا بشكل ما في ثنايا الذاكرة. “خيال!”. “لا يوجد شيء من هذا القبيل؛ لا يمكنك تخيل أي شيء لم تره وتشاهده مسبقًا”.
كانت أعظم قوة للفيلم منذ البداية هي قدرته على التلاعب عاطفيًا بالمشاهدين على نطاق واسع. فقد خاطب شخصًا واحدًا بنفس القوة والسهولة التي خاطب بها الملايين، متحكمًا بالمشاهدين بسلاسة وموجهًا إياهم نحو نتيجة متوقعة ومعروفة مسبقًا والتي يعتقد أنه قد جاء بها بشكل طبيعي، من خلال عملية طبيعية و تعاطفية. وكان سرد القصص السينمائي حتى في أبكر مظاهره وسيلة لتحويل الجسم البشري الذي لا يمكن التنبؤ به بشكل مخيف إلى مجموعة من الاستجابات التي يمكن التنبؤ بها.
إذا كانت الكاميرا بصفتها آلية، في الربع الأول من القرن العشرين، تمثل الحقيقة الخالصة، فإن التحرير كان الاختيار والتلاعب والعنف. إذا كان الفيلم بصفته لقطات مصورة يمثل الموضوعية، فإن التحرير يسمح بحضور المؤلف. كان التحرير هو الجانب الفني الحقيقي لأسلوب سرد القصص الذي كان مايزال جديدًا جدًا بحيث لا يمكن عدُّهُ شكلًا من أشكال الفن. وأعطى التحرير للفيلم ما يحتاجه بشدة ليصبح فنًّا في نظر جمهوره: وجهة نظر.
بقلم: هنري گياردينا | ترجمة: لمياء العريمية | تدقيق: عهود المخيني | المصدر