جرائم العُنف مرضٌ معدٍ- كيف نسيطر عليه؟

عادةً، إصابات الوجه لا تقتلك، ولكن بإمكانها أن تتسبب في تشويهه. تعمل كريستين غودال، جرَّاحة للوجهِ والفكين في غلاسغو منذ عام 2000، وعالجت المئات إن لم يكن الآلاف من مرضى يعانون إصابات في الرقبة، أو الوجه، أو الرأس أو الفك.

أحيانًا ما تكون الإصابات ناجمة عن مضرب البيسبول، مسببًا كسور العظام وكدمات خطيرة كتلك التي يسببها حادث سيارة. في كثير من الأحيان، يكون السبب ضربة سكين تترك جرحًا في الجبين أو الخد، وندبًا محفورةً على الوجه، أو ربما بسبب ضربة منجل مخلِّفةً جرحًا في الفك مصحوبًا بقطع الجلد وتكسُّر في العظام. 

في منتصف الليل، جاء شاب إلى المستشفى، وجهه مجروح بالسكين، كانت غودال قلقة من جولة صباح اليوم التالي، إذ سيتوجب عليها إخباره باستحالة إخفاء الندبة، ولكن ردة فعله فاجأتها، قالت غودال: “كان غير عابئ بها، وعندما جاء بعض أصدقائه لزيارته -في فترة الظهيرة- عرفتُ لمَ لم تكن مشكلة بالنسبة له؛ لأن كل واحد منهم به ندبة، وهو انضم للجماعة توا”، وظلت الحادثة في ذهنها، إذ أن ذلك بمثابة دلالة على مدى سوء الحالة التي وصلت إليها مدينتها.

في عام 2005، نشرت الأمم المتحدة تقريرًا أعلنت فيه أن أسكتلندا أكثر الدول عنفًا في العالم، وفي العام نفسه، أجرت منظمة الصحة العالمية دراسة تتعلق بأعداد الجرائم في 21 دولة أوروبية، وأظهرت الدراسة أن غلاسغو “عاصمة القتل” في أوروبا، إذ إن أكثر من ألف شخص يحتاجون لعلاج إصابات الوجه سنويًا، الكثير منها نتيجة العنف.

أمضت غودال معظم حياتها في غلاسغو، تخيط الجروح وتصلِح الأنسجة التالفة، ولكن تبقى مشاكل معظم المرضى لزمن طويل بعد خروجهم من المستشفى، مثل المعاناة من ألم مزمن، أو اضطراب ما بعد الصدمة، أو العلاج الذاتي بالكحول والمخدرات.

وغالبًا ما يعود الأشخاص أنفسهم من خلال أقسام الحوادث والطوارئ مرة تلو مرة، مع تكرار الضحايا ومرتكبي الهجمات العنيفة. تقول غودال: “كنا حقًا جيدين في إصلاح الأنسجة التالفة، لكنني فكرت في ما يمكننا فعله لمنعهم من المجيء هنا من الأساس”.

يمارس البشر مجموعة واسعة من السلوكيات الخطرة، يمكن أن تؤدي إلى مشاكل صحية خطيرة مثل التدخين، أو الإفراط في تناول الطعام وغيرها، ولطالما كانت الحكمة الشهيرة بأن يشجع الأطباء المرضى على تغيير سلوكهم -من خلال حثهم على الإقلاع عن التدخين، أو اتباع حمية غذائية- بدلًا من انتظار علاج انتفاخ الرئة، أو السمنة وما يصاحبها من مشاكل قلبية، والتي تكون -عادةً- نتيجة لمثل تلك الممارسات.

لكن عندما يتعلق الأمر بالعنف، غالبًا ما تكون المناقشة مستندة إلى افتراض أن هذا السلوك فطري وغير قابل للتغيير، وأن الناس التي تمارسه لا يرجى لها توبة. كثيراً ما يجري البحث عن حلول في نظام العدالة الجنائية، من خلال أكثر الأحكام صرامة، أو زيادة عمليات الإيقاف والتفتيش (على الرغم من أنها أثبتت عدم فعاليتها في التقليل من الجريمة)؛ فهل تطبيق الإجراء الخاطئ يتسبب في كل ذلك؟!

في 2005، كتبت كارين مكلوسكي، المحلل الرئيسي لشرطة ستراثكلايد تقريرًا يشير إلى أن الشرطة التقليدية لم تقلص العنف في الواقع، ودائمًا ما تتضمن هذه التقارير قائمة من التوصيات. يتذكر ويل ليندن، وقد عمل مع مكلوسكي محللًا في ذاك الوقت: كانت إحدى تلك التوصيات مضحكة، وهي (افعل شيئًا مختلفا)، لا أعتقد أنه كان يُراد لتلك التوصية أن تظهر، لكن رئيس الشرطة قال: “حسنا، اذهبوا وافعلوا شيئًا مختلفاً”.

بدأ فريق مكلوسكي -بقيادتها وزميلها جون كرنوتشان- يجمع الأدلة عن دوافع العنف. قال ليندن “تتمثل الأسباب الرئيسية للعنف في أسكتلندا -على وجه الخصوص- في الفقر وعدم المساواة وأشياء مثل الذكورة السامة وتعاطي الكحول، وكانت كل هذه العوامل خارج حدود عمل الشرطة “.

بحثوا بعد ذلك كثيرًا حول العالم لإيجاد برامج رائدة تعمل على منع العنف للتعلم منها، وكان هذا أساس إنشاء وحدة الحد من العنف (VRU)، ويشغل ليندن منصب المدير لها حاليًا. أخذ الفريق بعض العناصر من هذه البرامج، وركزوا للحصول على الدعم من مجموعة من المؤسسات الأسكتلندية مثل الخدمة الصحية، ودعم الإدمان ومراكز العمل. منذ انطلاق وحدة الحد من العنف في 2005، انخفض معدل القتل في غلاسغو إلى 60%،  وقالت غودال:” انخفض عدد المصابين بجروح الوجه في مستشفى غلاسغو إلى النصف، وعددهم الآن حوالي 500 شخص في السنة”.

تُوصَف استراتيجية وحدة الحد من العنف بأنها نهج للحفاظ على “الصحة العامة” للحد من العنف، هذا يشير إلى مدرسة فكرية بأكملها تقترح أنه فضلًا عن المشاكل الصحية الواضحة الناتجة عن العنف -الصدمات النفسية والإصابات الجسدية- فإن السلوك العنيف بحد ذاته وباء ينتشر من شخص لآخر.

إن إحدى المؤشرات الأساسية الدالة على أن شخصًا ما سيرتكب جريمة عنف هي أن يكون نفسه ضحية لإحدى تلك الجرائم، وتفسر فكرة انتشار العنف بين الناس وتناميه بنفسه وتغييره لعادات الجماعة، لماذا قد تشهد إحدى المناطق مزيدًا من عمليات الطعن أو إطلاق النار أكثر من منطقة أخرى تعاني من العديد من المشاكل الاجتماعية نفسها!

يذكر دليل منظمة الصحة العالمية للوقاية من العنف: “على الرغم من حقيقة وجود العنف على الدوام، فيجب ألا يتقبله العالم كجزء لا مفر منه في الحالة الإنسانية”، وذكر الدليل نفسه “العنف يمكن منعه وتقليص تأثيره بالطريقة ذاتها التي منعت بها جهود الصحة العامة من المضاعفات المرتبطة بالحمل، وإصابات العمل، والأمراض المعدية، والأمراض الناجمة عن الأغذية والمياه الملوثة في أجزاء كثيرة من العالم. إن العوامل التي تسهم في إحداث ردود فعل عنيفة -سواء كانت عوامل سلوكية أو متعلقة بظروف اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو ثقافية- يمكن تغييرها”.

لكن في معظم أنحاء العالم، فإن التشدد في الجريمة هو الفائز في التصويت، ما يجعل هذا الأمر صعبًا. كيف فعلت غلاسغو ذلك؟ بينما  كانوا يبحثون ما يعنيه فعليًا علاج العنف باعتباره مشكلة صحية، بدأت وحدة الحد من العنف أولا بشيكاغو.


© Nathalie Lees for Mosaic

في 1980م، وفي أوائل 1990م، كان عالِم الأوبئة الأمريكي، غاري سلوتكين، في الصومال، وكان واحدا من ستة أطباء يعملون في 40 مخيما للاجئين تضم مليون شخص، وينصّب تركيزه على انتشار مرض السل والكوليرا.

يعتمد احتواء الأمراض المعدية بشكل كبير على البيانات أولًا، إذ يحدد مسؤولو الصحة العامة الأماكن الأكثر إصابة بالعدوى، ثم التركيز على احتواء انتشار المرض في هذه المناطق، وغالبًا ما يحدث هذا الاحتواء عن طريق مساعدة الناس لتغيير سلوكهم، وعندها يمكن ملاحظة التأثير السريع حتى عندما لا يمكن معالجة العوامل الهيكلية الأكبر.

على سبيل المثال، غالبًا ما ينتشر مرض الإسهال بسبب سوء الصرف الصحي وإمدادات المياه، ويستغرق الأمر وقتًا طويلًا لتحسين أنظمة السباكة، ولكن في هذه الحالات، يمكن إنقاذ آلاف الأرواح من خلال إعطاء الناس حلول الإمهاء الفموي.

اتبع سلوتكين هذه الخطوات لاحتواء تفشي المرض في مخيمات اللاجئين الصوماليين، ومرة أخرى لاحقًا، عندما عمل لدى منظمة الصحة العالمية للوقاية من الإيدز. مهما كانت طبيعة المرض المعدي الذي نحاول الحد منه؛ فإن خطوات احتوائه تكون تقريبًا متشابهة. سألته:”ما القواسم المشتركة بينها؟ فأخبرني سلوتكين وهو في مكتبه في شيكاغو: كل هذه الأشياء تنتشر، مرض القلب لا ينتشر، والسكتات الدماغية لا تنتشر”.

تغيير العادات السلوكية أكثر فعالية من مجرد إعطاء الناس معلومات حول كيفية فعل ذلك. لتغيير السلوك -سواء كان ذلك باستخدام حلول تعويض السوائل، أو تجنب المياه القذرة- فإن استخدام مراسلين موثوقين ضروري جدًا.

يقول سلوتكين: “في كل حالات تفشي الأمراض هذه استعنا بعاملِين في مجال التوعية من المجموعة نفسها (ضمن مجموعة السكان المستهدفة)، لاجئين من الصومال للوصول إلى اللاجئين المصابين بالسل والكوليرا، وأمهات للوصول إلى الأمهات لتوعيتهن بجدوى الرضاعة الطبيعية وإدارة الإسهال”.

بعد أكثر من عقد من العمل في الخارج، عاد سلوتكين إلى بلده الأصلي شيكاغو -في أواخر عام 1990م- منهكًا من السفر الدائم والتعرض المستمر للموت. يقول: “كنت أريد استراحة من كل هذه الأوبئة”، لم يخطر بباله أن أمريكا تواجه مشاكل أيضًا. لقد استُنزِف لسنوات من ذعر الأوبئة والنضال في البلدان النامية الفقيرة، لكنه عاد ليواجه نوعًا مختلفًا من المشاكل؛ ارتفاع معدل جرائم القتل بشكل فظيع.

بدأت أفكاره حول معالجة هذه المشكلة بشكلٍ فردي، تولدت من هوسه بالرسوم البيانية التي طورها في الخارج من جمع خرائط وبيانات عن عنف البنادق في شيكاغو، ووضع يده على أوجه الشبه مع خرائط تفشي الأمراض؛ فجميعها لا يمكن تفاديها، وأوضح “المنحنيات الوبائية متشابهة، ففي الواقع، يؤدي حدث ما إلى حدث آخر، وهو تشخيص عملية انتشار العدوى، تسبب الإنفلونزا المزيد من الإنفلونزا، ونزلات البرد تسبب المزيد من الزكام، ويؤدي العنف إلى مزيد من العنف”.

وقتها، كان خروجًا جذريًا عن التفكير السائد حول العنف، المرتكز في المقام الأول على العقاب. يقول سلوتكين “الفكرة الخاطئة هي أن هؤلاء الناس (سيئون) ونعرف ما يجب فعله بهم، أي معاقبتهم”. يشكِّل ذلك سوء فهم للإنسان، إذ يتشكل السلوك عن طريق النمذجة والنسخ، عندما تنظر من منظور صحي؛ فأنت لا تلم، بل تحاول أن تفهم، وتسعى إلى إيجاد الحلول”.

أمضى سلوتكين السنوات القليلة التالية محاولًا جمع المال لمشروع تجريبي، يستخدم فيه خطوات ضد العنف شبيهة بتلك التي تتخذها منظمة الصحة العالمية للسيطرة على تفشي الكوليرا والسل أو فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز). اعتمد على ثلاثة محاور رئيسية؛ الحد من الانتقال، ومنع الانتشار مستقبلا، وتغيير أساليب المجموعة.

في عام 2000م، انطلق المشروع في غرب منتزه حي غارفيلد في شيكاغو، وخلال السنة الأولى انخفض إطلاق النار بنسبة 67%. حصل المشروع على مزيد من التمويل، وأجريت تجارب في عدد أكبر من الأحياء السكنية، وفي كل مكان أطلق فيه المشروع، انخفض العنف بنسبة 40% على الأقل، وبدأت هذه الطريقة تُكرّر في مدن أخرى.

يقول سلوتكين “عندما حاولنا السيطرة على تفشي فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز)، كان الأمر يتعلق بتغيير تفكير الشخص في ما إذا كان يرغب في ممارسة سلوك جنسي خطر أم لا”، وتابع قائلًا “هذا أصعب بكثير من تغيير سلوك العنف، لا يرغب الناس في تغيير سلوكهم الجنسي، لكنهم فعلًا لا يريدون سلوكًا عنيفًا”. على الرغم من أن هناك العديد من العوامل الهيكلية أعمق أثرًا في انتشار العنف في شيكاغو -مثل  الفقر، وندرة الوظائف، والحرمان، والعنصرية، والفصل العنصري- إلا أن سلوتكين يعتقد بإمكانية إنقاذ الناس عبر تغيير سلوك الأفراد وأساليب الجماعة. 

كما هو الحال في أماكن كثيرة، غالبًا ما تتخذ مناقشة العنف في شيكاغو نبرة شديدة العنصرية، إذ يكثر في مدينة شيكاغو الفصل والتمييز العنصري، أكثرية السكان في العديد من أحياء ساوث سايد حوالي 95% هم من الأمريكيين الأفارقة، وأما الأحياء الأخرى، فأكثر من 95% منهم أمريكيين مكسيكيين، ومعظم هذه المناطق محرومة بشدة من النواحي الاقتصادية والاجتماعية، وعانت لسنوات من إهمال الدولة، ويمكن أن تصل معدلات جرائم القتل فيها إلى عشرة أضعافها في المناطق الأكثر ثراءً بشيكاغو.

لكن أكد سلوتكين أن هذا التجميع لا علاقة له بالعرق، بل بالأنماط السلوكية التي تنتقل بين الناس -عادة ما تكون وسط مجموعة صغيرة من السكان الشباب/ الذكور- “اللغة تملي الطريقة التي يستجيب بها الناس، لذلك لا نستخدم كلمات مثل مجرم أو عصابة  أو سفاح- فنحن نتحدث عن العدوى والانتقال والصحة.

اليوم توجد منظمة سلوتكين Cure Violence في قسم الصحة العامة في جامعة إلينوي، بشيكاغو، وهناك ملصق في الممر -يُظهِر صورة لصبي صغير- تحمل مقولة أسفلها تقول “لا تطلق النار، أريد أن أكبر”. 

تعمل المنظمة الآن في 13 حيًّا بشيكاغو، كما أن البرنامج يُطَبَّق في نيويورك، وبالتيمور ولوس أنجلوس، وفي دول أخرى حول العالم. يعمل البرنامج على تدريب المنظمات المحلية، التي تبحث -بدورها- عن أشخاص موثوقين في المنطقة للنهوض بهذا العمل.

على الرغم من الجدل الدائر حول استخدام منظمة Cure Violence للإحصاءات؛ فقد أظهرت دراسات أكاديمية عديدة فعالية هذه الطريقة، إذ وجدت دراسة أجريت عام 2009م في جامعة نورث وسترن أن الجريمة انخفضت في جميع الأحياء الخاضعة للدراسة، والتي طُبِّقَ فيها البرنامج.

وفي عام 2012م، درس الباحثون في كلية الصحة العامة بجامعة جونز هوبكنز في بالتيمور أربعة أجزاء كانت تطبق البرنامج، ووجدوا أن عمليات إطلاق النار وجرائم القتل انخفضت في الأجزاء الأربعة جميعها. وفي كثير من الأحيان كانت النتائج لافتة للنظر؛ ففي سان بيدرو سولا، هندوراس، شهدت المناطق الخمس الأولى لمكافحة العنف انخفاضًا من 98 عملية إطلاق نار خلال الفترة من يناير إلى مايو 2014م إلى 12 فقط في الفترة نفسها من عام 2015م.


© Nathalie Lees for Mosaic

ديمتريوس كول في الـ 43 من عمره، وهو رجل لطيف الحديث، قضى 12 عامًا من عمره في السجن، نشأ في منطقة شيكاغو التي اشتُهِرت بالعنف، وفي الخامسة عشر، شاهد أقرب أصدقائه يموت بإطلاق عيار ناري، وعلى الرغم من ذلك، كان يحظى بحياة أسرية مستقرة بعيدًا عن العصابات؛ فخطط للانضمام إلى القوات البحرية.

ومع بلوغه التاسعة عشر، اشترى أحد أصدقائه سيارة جديدة، وأثناء محاولة بعض فتيان الحي سرقة السيارة، أطلقوا النار على صديقه. لم يتوقف كول عن التفكير حتى انتقم لصديقه، وفي تلك الدقائق القليلة، تغيرت حياته كليًّا، إذ أُرسِلَ إلى السجن جراء فِعلته، تاركًا صديقه مشلولًا، غير قادر على العمل مرة أخرى.

قال كول “كان تصرفي مبنيًا على العاطفة كما ترون”. يعمل كول في Cure Violence غرب إنجلوود بحي ساوث سايد في شيكاغو منذ أكتوبر 2017م. ومنذ ذلك الحين، بدأ يرى الناس يمرون بنفس الموقف الذي مر به يومًا ما، ودأب على إقناعهم بالتوقف عن ذلك، ويقول “كنا نحاول إقناعهم بأن هذا طريق مسدود، وكنت أقول لهم إن هناك طريقتين فقط لإنهاء هذا إما السجن أو الموت”.

يعمل ديمتريوس كول “محاربًا للعنف” لدى Cure Violence للتدخل في عواقب حالات إطلاق النار؛ لمنع حالات الانتقام وتهدئة الناس قبل أن تتفاقم النزاعات وتصل إلى درجة العنف.

يقول لي كول: “مهمتي منع عمليات الانتقال، ونحاول التوصل إلى طرق مختلفة لردع هؤلاء الأطفال عن الطرق التي اعتادوا على التفكير بها، واستبدالها بنظرة مختلفة”.

استعمل محاربو العنف تقنيات كثيرة أُخِذَت بعضها من العلاج الإدراكي السلوكي، وهي كما سردها كول “التظليل الإيجابي”، ويعني ترديد كلمات الناس عليهم، “مجالسة الأطفال”، وتعني ببساطة البقاء مع شخص ما حتى يهدأ، بالإضافة إلى التأكيد على العواقب. يقول كول: “لا يَعرف الكثير من الأطفال من أين تأتي الوجبة التالية، وأمهاتهم تنتشي”. يقول الناس إن كل شيء منطقي، لكنّ هذا غير صحيح؛ فالمنطق ليس شائعا لدى كثير من الناس”.

تعتمد قدرة المحاربين على مصداقيتهم كي تكون فعالة، قضى كثيرون، مثل كول، فترات طويلة في السجن، ويمكنهم التحدث عن ذلك من واقع خبرة في هذا الأمر، كما أن معظمهم على علاقة وثيقة مع المجتمع المحلي، لذا يمكنهم اختيار التصرف المناسب عند حدوث إطلاق للنار، مثلًا إقناع الأحباء بعدم الانتقام، لكنهم يدركون أيضًا ما إذا كان الصراع يتأجج بين شخصين أو مجموعات متنافسة، ويمكنهم التحرك حينها لنزع فتيل التوتر أو اقتراح بدائل سلمية.

يقول كول “قد لا نكون قادرين على الوصول إلى الجميع، لكن بالنسبة إلى القليل من الناس الذين توصلنا إليهم فإن الأمر جميل”. يواصل كول حديثه ضاحكًا وهو يتحدث عن شاب عمل معه فيقول “كان في حالة من الفوضى، وكان جميع الفتية الصغار الآخرين يتخذونه قدوة لهم، لقد كان الرجل الذي ذاع صيته في المكان، ويُشار إليه بالبنان، فهو دائما ما يقاتل. والآن قد تغير كليًا، وعندما يراه الجميع يعمل معنا، أصبحوا يرغبون بالانضمام للمركز والحصول على وظيفة”.

غراند كروسينغ، منطقة أخرى ضمن ساوث سايد، وموقع لأحد أحدث مراكز مكافحة العنف، افتتح في ديسمبر/كانون الأول 2017م، يقع في شارع مزدحم، في واجهة متجر غير مُعَنوَن أُختير بعناية باعتباره مساحة محايدة لمختلف المجموعات المتنافسة.

في بعض أيام الربيع بعد الظهر، عندما زرت المركز، التقيت بصبي مراهق به ندبة واضحة على وجهه جالسًا في مكتب الاستقبال، وفي المكتب يلعب الموظفون لعبة الدومينو، في الوقت الذي كانت تُبَثُّ فيه مباراة البيسبول على التلفزيون خلفهم، والمكان يغص بمجموعة من الشباب يتحدثون إلى العاملين في مجال التوعية، ويستخدمون أجهزة الكمبيوتر.

كان مشرف الموقع ديميتريس واتلي يتابع سير المعاملات الورقية في المكتب الخلفي، بدأ العمل في Cure Violence بشكل متقطع منذ عام 2008م، بعدما خرج من السجن بعد أن قضى فيه 17 سنة، وشعر أنه بحاجة لعمل شيء مختلف في حياته؛ فانضم إلى المركز، وكانت مهمته الأولى في وودلون، المنطقة التي نشأ فيها.

انتقل إلى المجموعة الأكثر تضررًا بتوتر العصابات متجاهلًا احتجاجات أسرته، وعمل ليل نهار لإقامة “معاهدات سلام” بين جماعات الشباب المتناحرة. في بداية الأمر، استلزم ذلك إقناع المجموعتين بالابتعاد عن بعضهما البعض، ثم التركيز تدريجيًا على الأفراد لتغيير وجهات نظرهم حول العنف، ومساعدتهم في العثور على عمل أو العودة إلى مقاعد الدراسة. يقول كول “أدركتُ أنني كنت أصنع فارقًا عندما رأيت كبار السن يعودون إلى الرواق مرة أخرى ويشربون قهوتهم”.

على الرغم من أنه يجب دائمًا تكييف أي مركز في كل موقع، إلا أن Cure Violence دائمًا ما تتبع الخطوات نفسها تقريبًا عند تأسيس مركز في مكان جديد. أولاً، يتم تحديد مناطق العنف لمعرفة مواقع تجمعها. أراني واتلي نسخة من خريطة غراند كروسينغ تشير إلى أماكن حدوث جرائم القتل، وتُظهِر أن الشوارع والأحياء التي تتجمع فيها البقع الداكنة هي المركز الرئيسي لأماكن حدوث الجرائم. بعد ذلك، يُوَظَّف عُمالا ثقة لديهم علاقات وثيقة بالمجتمع المحلي. قال كول “إن نوع الرجال الذين نبحث عنهم هم المحترَمون في المجتمع، والذين تمكنوا سابقًا من إيقاف بعض النزاعات، في محاولة لتقديم المساعدة الفاعلة للفتيان؛ لفضّ العراكات التافهة التي تنشب بينهم وتهدئتها..”.

يتجول محاربون العنف في الشوارع أثناء خدمتهم للتعرف إلى أصحاب المتاجر والجيران، وبناء علاقات مع الشبان والفتيات الذين يعتبرون أكثر عرضة للمخاطر. يقول واتلي “بإمكانهم معرفة ما إذا كان هناك عراك قد نشب أو أن عراكًا على وشك الحدوث”، ويضيف “إن هذا ما يجعل محاربي العنف ناجحين، وهو ما يتطلب تواجدهم”.

ويوظف المركز 11 مُحاربًا للعنف، يقضون عادة ما لا يقل عن ست ساعات من أصل ثمان ساعات في التنقل بين أحيائهم، بالإضافة إلى أربعة من موظفي التوعية الذين يتفاعلون مع المشاركين على المدى البعيد، تمتد من ستة أشهر إلى سنتين، يحاول العاملون في مجال التوعية تغيير السلوك تجاه العنف، بالإضافة إلى إيجاد فرص عمل لأولئك الأشخاص أو توجيههم ودعمهم أو تعليمهم.

يقول جيرمين بيس الموظف التوعوي في غراند كروسينغ: “يجب أن يكون لديك بعض الحيل”؛ ففي بعض الأحيان، قد يجذب اهتمام أحد الفتيان عبر مساعدته في الحصول على بطاقة هوية مثل رخصة القيادة؛ فهذا يصنع فرقًا لا سيما وأن بعض هؤلاء الفتيان والفتيات يعتقدون بأن لا أحد يهتم بمعاناتهم على الإطلاق.

يستخدم بيس هذه الافتتاحية أثناء محاولته لتغيير نظرتهم اتجاه العنف، فيقول “بمجرد أن تبدأ في إظهار اهتمامك وتتصل بهم، قد يتصلون بك يومًا ويقولون: (سيدي! إننا لم نتناول الطعام منذ يومين)، ومن ثَمَّ تذهب إليهم لتشتري لهم شيئًا يأكلونه. عندها ستحصل على فرصة أكبر للحديث معهم”. يساعد موظفو التوعية عملاءهم في كل ما يحتاجون إليه  سواء بإحالتهم إلى علاج الإدمان، أو إيجاد فرص وظيفية لهم، أو حتى شراء ملابس جديدة لارتدائها في المقابلات.

يمثل العمل تحديًا كبيرًا، لا سيما مع الفئة العمرية الأصغر إذ يكون ضغط الأقران على بعضهم البعض قويًا. قُتل أحد الشباب -وكان قد عمل مع بيس مؤخرًا- رميًا بالرصاص بعد مدة بسيطة من عمله.

في حين يؤكد سلوتكين على سرعة فاعلية هذا النموذج في الحد من جرائم القتل، وكيف أنه أقل تكلفة من السجن الجماعي؛ فإن تجاهل حقيقة أن الأمر يتطلب كثيرًا من الجهود لبلوغ نتائج أفضل مسألة غير ممكنة. بعض مناطق العصابات في شيكاغو صغيرة جدًا، مجرد أحياء سكنية قليلة، وقد يكون محارب العنف المسؤول عن إحدى المناطق غير مشهور أو لا يثق به الناس في منطقة أخرى، ولضمان سير العمل، يجب أن يكون هناك محارب واحد على الأقل لديه علاقات قوية في كل منطقة؛ فإذا وقع نزاع أمكنه تسوية الخلاف.

يستخدم كول أشخاصًا محليين في غرب آنغلوود لبناء علاقات مع أناسٍ يمكنهم مساعدته في الوصول إلى الآخرين. يقول كول “كنت حاضرًا هناك؛ لأنه من الصعب العودة إلى المجتمع مرة أخرى بعد الخروج من السجن. إذا كان الناس يعرفونك ويعرفون تاريخك، فبإمكانك إيقاف الكثير من الأشياء المؤسفة كحوادث إطلاق النار والقتل، وأنا قادر على إظهار ذلك للناس وإخبارهم أن بإمكانهم فعل هذا، كما يمكنهم التغيير”.


في غلاسغو، لم تكن كريستين غودال تلتقي بالمرضى فقط بعد تعرضهم للهجوم مباشرةً؛ ففي بعض الأحيان يزورها الناس بعد أشهر أو حتى بعد سنوات من إصابتهم، باحثين عن حل لمشاكلهم. وفي إحدى المرات، جاءت امرأة شابة بعد عام من تعرضها لجرح في وجهها إثر اعتداء شريكها عليها بسكين، وترك الهجوم ندبة كبيرة، ولم يكن بالإمكان معالجتها بأي جراحة.

تصفها غودال “كانت جميلة حقًا، واجتماعية ولديها وظيفة وكل الأشياء المعتادة، لكنها لم تكن قادرة على الخروج من المنزل، ولا حتى الذهاب إلى العمل”، وتتابع غودال “إنه لأمر يدمي القلب حين يختنق الإنسان بالعبرة؛ فتركت العمل في مجال الاستشارات بعدما شعرت بالعجز”. قررت غودال المساهمة في تخفيف آلام هؤلاء المصابين، وفي عام 2008م، أسست جمعية خيرية بالشراكة مع جراحَينِ اثنين تحت مسمى Medics Against Violence، وأصبحت المؤسسة الخيرية شريكةً في الوحدة المعنية بالحد من العنف.

عندما أنشئت وحدة الحد من العنف في عام 2005م، بحث كارين مكلسكي وجون كارنوتشان -من شرطة ستراثكلايد- في أنحاء العالم عن حلول ممكنة لمشكلة العنف بغلاسغو، وفي نهاية المطاف، توصلا إلى أسلوب هو عبارة عن مزيج من طريقة أخصائي علم الإجرام جاري سلوتكين ومنهجية ديفيد كينيدي.

يقتضي نموذج كنيدي -أطلق في بوسطن في التسعينيات- جمْع أعضاء العصابات وإعطاءهم فرصة للاختيار بين نبذ العنف والانضمام إلى صفوف الدراسة أوالعمل، أو مواجهة عقوبات صارمة، وهذا يعني تكثيف التدابير العقابية التقليدية -مثل زيادة التوقيف والتفتيش والحكم الصارم على حيازة السكاكين- إلى جانب التدابير الوقائية بما يتماشى مع نهج الصحة العامة.

يقول ويل ليدين القائم بأعمال مدير وحدة الحد من العنف “كان هذا الأمر ضروريًا من الناحية السياسية”، ويضيف “قبل أن نذهب إلى الخدمة ونأمرهم بتغيير طريقتهم في بعض الأمور، كان علينا أن نبيِّن لهم أن الشرطة تبذل قصارى جهدها، ولكن ذلك لم يكن كافيًا”. كان التركيز في البداية متساويًا إلى حدٍّ ما بين عمل الشرطة الأكثر صرامة والعمل الوقائي، أما اليوم فإن حوالي 90% من التمويل والتركيز ينصب على الوقاية. ويضيف ليدين “إذا لم يكن لدينا هذا التغيير؛ فسنقضي معظم وقتنا في مواجهة الصحافة”.

تدير قوات الشرطة -بدعم من الحكومة الاسكتلندية- وحدة الحد من العنف، وهذا أمر غير مألوف إلى حد ما، واسكتلندا الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك قوات شرطة اعتمدت رسميًا نموذج الصحة العامة، بينما في شيكاغو تدير الجامعة علاج العنف، أما في نيويورك وبالتيمور فإن البرامج المماثلة تخضع للإدارات الصحية بالمدن. يقول سلوتكين وهو من المناهضين لنموذج الصحة العامة للعنف “إنه من المروِّع أن تديره الشرطة؛ لأنها غالبًا ما تكون جزءًا من المشكلة”.

إلى جانب الشرطة، هناك مجموعة كبيرة من المسؤولين الحكوميين -من أطباء وأخصائيين اجتماعيين- يعملون للحد من العنف. يتوجه مسعفو مؤسسة غودال ضد العنف إلى المدارس لتثقيف الأطفال حول جرائم السكين؛ لحثهم على التفكير عمليا حول كيفية الرد إذا -على سبيل المثال- أخبرهم أحد الأصدقاء بأنه يمتلك سكينا.

كما أنها توظِّف “متجولين” يتدخلون بشكل مباشر بعد حوادث العنف؛ لتفادي النزاع ومساعدة الناس في الحصول على الدعم، مثل محاربي العنف العاملين في شيكاغو. بعض مناطق غلاسغو لا يوجد بها المتجولون؛ بدلاً من ذلك يعملون في أقسام الحوادث والطوارئ، ويقتربون من الأشخاص القادمين ضمن الحوادث العنيفة. تقول غودال “يأتي كثير من الأشخاص إلى وحدة الحوادث والطوارئ وهم يخططون للانتقام، ومن المهم جدًا ألا يسمح لهم بتنفيذ انتقامهم”.

© Nathalie Lees for Mosaic

في مجال الوقاية من العنف، تعرف هذه اللحظة “بلحظة إمكانية الوصول والتعلم”، أي أنه عندما يكون شخص ما أكثر تقبلًا من المعتاد للمساعدة. يقول ليندن “الألم حافز مذهل للتغيير”، وبعد المحادثة الأولية، يواصل المتجول مساعدة الشخص للحصول على العلاج من تعاطي المخدرات أو الكحول، وإيجاد فرص عمل أو العلاج، ويحاول المتجول تقديم المساعدة في وقتٍ قياسي.

يقول ليندن “عندما يرغب شخص ما بالتغيير، يجب أن يكون قادرًا على التكيف والتنقل، ففي غضون ستة أسابيع أو 12 أسبوعًا، تتشكَّل عنده عقلية مختلفة. قبل إحالة شخص ما، فإننا نتأكد أنه لن يقف في طابور انتظار”، وهذا يتطلب تعاونًا كبيرًا بين المؤسسات المختلفة.

خلال بحثهم في الوقاية من العنف، عثر مكلوسكي وكارنوشان بالصدفة على نموذج الصحة العامة، لكن سرعان ما اكتشفا شبكةً دولية متنامية تعتمد على أعمال ترتكز على جمع البيانات بشكل كبير، فانضمَّا إلى تحالف منظمة الصحة العالمية لمنع العنف، وهي منظمة عالمية شاملة تنشر دراسات من جميع أنحاء العالم. تقول غودال “قد ينجح شيء ما في جامايكا، ولكن ربما لن ينجح في اسكتلندا ما لم نُجرِ عليه بعض التعديلات، ومع ذلك فمن المفيد حقًا معرفة ما يفعله الآخرون وما الذي ينجح”.

تكييف وتطبيق فكرة في منطقة محددة أمر مهم، لكن منظمة الصحة العالمية تقسم نموذج الصحة العامة للعنف إلى أربع خطوات؛ الخطوة الأولى، كشف أكبر قدر ممكن من المعرفة الأساسية عن جميع جوانب العنف، والخطوة الثانية، التحقيق في سبب حدوث العنف بالنظر في الأسباب والارتباطات وعوامل الخطر، والخطوة الثالثة استكشاف طرق منع العنف باستخدام هذه المعلومات، وتتلخص الخطوة الرابعة في تنفيذ هذه الاستراتيجيات.

تقول إرشادات منظمة الصحة العالمية “إن الاقتناع القوي بأن السلوك العنيف وعواقبه يمكن منعها بمثابة نقطة البداية”، ويحتاج هذا العمل إلى مستويات هائلة من التعاون -أطول من دورة انتخابية لمدة أربع أو خمس سنوات- حتى نرى تأثيرًا جديًا وملموسًا. يلاحظ ليندن أن أسكتلندا لديها مستوى غير عادي من الإجماع السياسي، بالإضافة إلى تمويل الحكومات المتعاقبة لهذا العمل، ويتابع قائلًا “إن مجرد تسمية العنف بالمرض والقول إننا بحاجة إلى منع انتشاره لن يوقفه. إن نموذج الصحة العامة أو الوقاية غير فعال ما لم نستخدم طرقا قائمة على الأدلة لمعالجة المشكلة الحقيقية”.

على الرغم من وجود أدلة متزايدة، فإن الحكومات في بعض الأحيان مترددة في الاستثمار بشكل صحيح، وحول هذه النقطة يقول سلوتكين بغضب واضح “لا تكمن الصعوبة في كيفية الحد من العنف، بل في الطريقة التي يفهم بها الناس المشكلة”. يرسم سلوتكين متوازٍ للإيدز والوصمة المرتبطة بهؤلاء الذين أصيبوا به خلال تفشيه للمرة الأولى في ثمانينيات القرن الماضي.

في مساء مشمس في وسط مدينة شيكاغو، أشاهد سلوتكين يلقي محاضرة إلى جمهور من الشباب العاملين. في شيكاغو، وصلت جرائم القتل إلى أعلى مستوى لها منذ 20 عامًا في عام 2016م، وفي العام التالي، هدد الرئيس دونالد ترامب بإرسال “الفيدراليين”. يعرض سلوتكين رسومًا بيانية توضح أنه في كل مرة يُقطع التمويل عن منظمة Cure Violence في منطقة معينة، ترتفع حوادث إطلاق النار، وعندما يعود التمويل، فإنها تنخفض. (يجادل النقاد أنه من المستحيل استخلاص استنتاجات حول السببية بسبب عوامل أخرى تؤثر في مشهد الجرائم).

يقول سلوتكين للجمهور “على الرغم من الكميات الهائلة من البيانات، من الصعب الحصول على تمويل لهذا العمل، السجن الجماعي ليس له أي بيانات جيدة، لكنه مُمَوَّل. هذه المشكلة الصحية الوحيدة الوبائية التي لا تعالجها وزارة الصحة”.

عانى واتلي، المشرف على المركز في فرع غراند كروسينغ، من هذه الانخفاضات في التمويل بشكل مباشر، إذ خسر وظيفته مرارًا وتكرارًا في السنوات العشر الماضية منذ أن بدأ العمل في Cure Violence، فقد أُلغي مشروع عمل عليه في منطقته في وود لون، ولم يعد الناس القدامى يشربون قهوتهم على الشرفة.


أين يمكن إدخال نموذج الصحة العامة للعنف بعد ذلك؟ أحد الاحتمالات أن يطبق في لندن، حيث بلغت جرائم الطعن بالسكين -تحت أقل من 25 عامًا- أعلى ارتفاع لها في عام 2017م منذ خمس سنوات. في الأشهر الأخيرة، كان مفوض شرطة العاصمة، كريسيدا ديك، ورئيس البلدية، صادق خان، من بين من طالبوا بتطبيق نموذج الصحة العامة.

يقول دنكان بيو، قائد فريق الصدمات النفسية والجراحية في مستشفى كلية كينغْز لندن “إن عدم جدوى التحدث إلى العائلات وإخبار الأمهات أن أطفالهن ماتوا قد دفع كثيرين منا إلى التفكير: ما الذي يمكن أن نفعله لإيقاف العنف بشكل عملي وملموس؟”

عالج بيو عددًا لا يحصى من ضحايا الهجمات بالسكين، إذ يتغير عدد المرضى طوال اليوم، ودائمًا هناك زيادة في عدد الضحايا من الشباب (الذين تتراوح أعمارهم بين 11 و20عامًا) بعد الخروج من المدرسة، ويقدِّر بيو أن ما يصل إلى نصف الأشخاص الذين يراهم لديهم “إصابات طعن عنيفة”، وعادة ما يكون بسكين أو إصابة بندقية، وهذا عكس بقية مناطق المملكة المتحدة؛ فمعظم المصابين بالصدمات ضحايا حوادث سيارات، لا سيما خارج المناطق الحضرية. نقف دومًا مشدوهين عندما يصل شخص ما بالزي المدرسي به جرح مميت ناتج عن ضرب سكين، ولكن تعلم الجراحون التركيز على الأشخاص الناجين، ومن منظور طبي، كلما كان المريض أصغر سنًا، كان من الأسهل علاجه؛ فعظامه أكثر مرونة وتلتئم بشكل أسرع.

وكما هو الحال في العديد من الأماكن الأخرى، اعتمدت لندن حلولا من خلال تطبيق القانون مثل العقوبات الإلزامية لحيازة السكين، وزيادة في الإيقاف والتقصي، وتشكيل “قاعدة بيانات للعصابات”، ومن ثَمَّ تُرسَل رسائل إلى الشباب وأولياء أمورهم لتهديدهم بالتداعيات القانونية، وقد وجدت الدراسات الأكاديمية أن قاعدة البيانات هذه، مثل الإيقاف والتقصي، تعد تمييزًا عنصريًا (في مانشستر، معظم الأشخاص في قاعدة البيانات من الأقليات العرقية، رغم أن معظم الأشخاص الذين اعتقلوا بسبب جرائم العنف هم شباب من البيض).

تختلف الطريقة الصحيحة لتطبيق نموذج الصحة العامة في جميع أنحاء العالم، لكن الخيط الموحد هو فكرة الاعتقاد بأن الناس قادرون على التغيير، ودعم هذا الاعتقاد بالاستثمار. ولكي يكون فعالًا؛ فإنه يتطلب وضع استراتيجية ومساهمة رفيعة المستوى لتعزيز العمل.

يقول بيو “لقد نجحوا في القيام بذلك في اسكتلندا بشجاعتهم، ودفنوا الأحقاد قائلين سنعمل جميعًا ونستثمر الفرصة”.

هناك بالفعل العديد من مشاريع منع العنف الملتزمة تقريبًا بروح الصحة العامة في لندن. شارك بيو في تأسيس مؤسسة خيرية تدعى “النمو ضد العنف”، ويذهب منتسبوها إلى المدارس؛ لتثقيف الشباب حول عنف السكين، ومنظمة أخرى هي Red Thread، وهي تدير برنامجًا للمتجولين عبر أقسام الطوارئ والحوادث في أربعة مدن داخلية. تثقف المنظمات المجتمعية الشعبية وتدعم الناس لمنع العنف، ولكن بالنسبة للجزء الأكبر، تعاني هذه المشاريع من نقص في التمويل، أو التمويل قصير الأجل، ما يعيق عملها ويضيِّق دائرة تأثيرها. على مدى السنوات الثماني الماضية، ساءت معظم الخدمات المقدمة للشباب والأعمال المقدمة في الشوارع في العاصمة؛ فقد تم تخفيض 36% في المتوسط من خدمات الشباب في أحياء لندن، وتقلص بعضها أكثر من 50%.

أدى ذلك إلى حالة يتعذر معها تقديم خدمات الإحالة التي توفرها بعض المنظمات مثل “Red Thread” أن تصارع للعثور على منظمات لإحالة الشباب إلى ما بعد التدخل.

لكن بيو متفائل بقدوم لحظة يكون الدعم الحقيقي من الأحزاب “للقيام بشيء مختلف”، كما فعلت أسكتلندا في عام 2005م. لندن مدينة متنوعة للغاية، ليس فقط في التركيبة السكانية العرقية، ولكن في اختلاف أنماط العنف.

يشير بيو إلى أن بعض المناطق الأكثر تضررًا قد يتناسب فيها تطبيق نموذج مقاطعة شيكاغو، إذ يعمل محاربو العنف في الشوارع، وفي أماكن أخرى قد يكون الدعم الأكثر شمولية والحد من الفقر -مثل وحدة الحد من العنف في اسكتلندا- أكثر فعالية. يقول بيو “الشيء الذي لا يمكن أن نحصل عليه هو وجود مجتمعات لديها إحساس بعدم الجدوى من أن العنف أمر لا مفر منه. إنهم يستحقون الأفضل. يُظهِر العنف أنماطًا مشابهة للأمراض المعدية، نعرف ذلك، ويمكن الوقاية منه “.


بعد مرور ثلاثة عشر عامًا على تأسيسها، احتفظت وحدة الوقاية من العنف بمرونتها وانفتاحها على الأفكار الجديدة، ففي عام 2012م، سافر إيان موراي، وهو شرطي يعمل لدى وحدة الوقاية من العنف، إلى لوس أنجلوس لزيارة شركة هومبوي إندستريز، وهي شركة تموين توظِّف أفراد العصابات السابقين.

بالإضافة إلى توفير فرص عمل لمدة عام لمجرمي العنف السابقين، تقدِّم هومبوي اندستريز التوجيه والعلاج النفسي، ومجموعة أخرى من أشكال الدعم. عاد موراي مستلهمًا من هذه التجربة، وفكر في كيفية وضع “طابع أسكتلندي لتنفيذ الفكرة”.

كانت النتيجة تأسيس شركة بريف هارت إندستريز، وهي مؤسسة اجتماعية تديرها وحدة الحد من العنف، تتمثل أعمالها الرئيسية في شركة ستريت آند آرو -وهي شاحنة طعام تقف في منطقة بارتيك في غلاسغو- تقدم شطائر برجر دجاج بريبري وشرائح سمك التاكو، وتوظِّف مرتكبي جرائم العنف السابقين لمدة عام، وتوفر لهم التوجيه المكثف، وكذلك العلاج النفسي المنتظم والمساعدة في محو الأمية، وتوفير السكن، وتربية الأبناء أو أي شيء آخر قد يلزمهم. يجب أن يكون لدى المشاركين تاريخ إجرامي، ويجب عليهم الامتناع عن المخدرات والكحول، كما يجب أن يكونوا مستعدين للتغيير.

يقول موراي وهو يقف خارج شاحنة الطعام في يوم معتاد في غلاسغو وأشعة الشمس المتقطعة التي تتخللها موجة من المطر “علينا أن نفهم المشاكل”، لقد ظلت الشرطة تمتلك خبرة واسعة لسنوات طويلة في التحري وإنفاذ القانون، فأنا أفضّل أن أكون على قمة المنحدر وأضع السياج، وأوقف شخصا ما عن القفز، بدلًا من أن أكون في أسفل المنحدر في انتظاره حتى يقفز. هذا هو نموذج الصحة العامة، وبالنسبة لي، يجب أن تبحث عن حلول للمشكلات بدلًا من انتظار حدوثها”.

يعمل ألين ذو 27 عامًا في ستريت آند آرو منذ ثلاثة أشهر، وعندما سألته عن المدة التي قضاها في السجن، لم يستطيع أن يخبرني وأضاع الطريق، ولكن وفقًا لموراي، أُرسِل إلى السجن 27 مرة. يقول آلين وهو رجل طويل القامة، يتجنب التواصل بالعين “لم أكن من أسرة داعمة، لذلك اخترت الطريق الخطأ من شرب الكحول، وتعاطي المخدرات، والعنف، والفوضى، والسجن. هذه كانت حياتي، من الصعب التوقف إذا بدأت في هذا الطريق”.

بعد فترة سجنه الأخيرة، ذهب إلى إعادة التأهيل، وأخبره شخص ما هناك عن ستريت آند آرو؛ فتقدم بطلب الحصول على وظيفة، وصُدِمَ عندما حصل عليها، وقال لي “لقد جئت إلى هنا دون أي شيء، ولا أعني شيئًا، ولكن كلما ابتعدت عن الفوضى، أصبحت حياتي أفضل وأفضل”.

توقف محاولًا التفكير في طريقة للتعبير عن التغيرات، ثم أضاف “أرى أشخاصًا يمتلكون سيارات الآن وأنا فقط.. هذا ليس ما فكرت به فقط، الآن لدي خطط لبدء الحصول على رخصة قيادة. أريد حياةً هادئة فقط. لم أكن أريد ذلك من قبل، أردت فقط أن أتناول المخدرات”. يتوقف المطر فجأة وتظهر الشمس، آلين يلوِّح في السماء “في منطقتي عندما كان الجو مشمسا، أكون أكثر قلقا حيث كثير من الناس يحملون السكاكين”، وكما يقول “لن أشعر بالقلق عندما يكون الجو مشمسًا بعد اليوم، فهناك مستقبل أمامي”.

بالنسبة للعديد من المشاركين، كان من الواضح أن الأشياء البسيطة يمكن أن تشكل تحديًا لهم مثل الوصول في الوقت المحدد، تلقي الأوامر، ارتداء الزي الرسمي. يقدم لهم المتجولون والعاملون الدعم ليكونوا مستعدين للحصول على وظيفة انتظامية في نهاية العام. وفي الوقت نفسه، يؤدي المتجولون نفس ما يؤديه محاربو العنف في مقاطعات شيكاغو من خلال تعديل السلوك لمنع انتشار العنف. يُنشئ المتجولون علاقة مع المتدربين ويساعدونهم على تغيير استجاباتهم للنزاعات.

يقول آلان غيلمور، أحد المتجولين في ستريت آند آرو “إنها تهدئ الضربات قليلًا، الحياة تستمر، وعادة ما يحدث شيء خاطئ؛ فيبدأ الغضب وتناول الكحول. نحن ندعمهم من خلال ذلك، ونحدد كيف يمكنهم التعامل مع مثل تلك الأحداث؛ فتستطيع أن ترى النضج والنمو في مدة قصيرة من الزمن “.

حقق البرنامج نجاحًا كبيرًا، وظل 80% من المشاركين خارج السجون وأصبح لديهم وظائف. لاحظ موراي الفرق الكبير في آلين فوصفه قائلا “أعرفه من خلال وظائفي السابقة في الشرطة على مر السنين، كان بإمكاني القبض على ذلك الرجل عشر مرات متتالية ولم أكن لأصنع أي فرق ولو كان بسيطًا في سلوكه، أما الآن من خلال دعمه والتواصل معه، يمكنني أن أصنع تغييرًا مستدامًا على المدى الطويل في سلوكه”، ويتابع قوله “لا أستطيع أن أصدق مدى كرم هذا الرجل، لا أستطيع السماح له بأن يترك العمل، من الرائع أن تبدأ الاهتمام بهم ويبدأوا الاهتمام بأنفسهم “.


بقلم: سميرة شاكل | ترجمة: مريم النوفلي | تدقيق الترجمة: شيخة الجساسي و عزة الغافري | تدقيق لغوي: محمد الشبراوي | تحرير: بسام أبو قصيدة | المصدر

Exit mobile version