تحدّث بالحقيقة لتمتلك السُّلطة

يجب أن لا نصمت أمام الحقيقة، وأن نواصل نضالنا للقضاء على كل ما يهدد النساء والفتيات من الصمت أمام العنف الجنسي

ما زلت أذكر المرة الأولى التي اعترفت فيها أمام العلن بأنه قد تم اختطافي واغتصابي  ومن قِبل رجل اعتدْتُ العيشَ معه، كنتُ حينها في محاضرة لقراءة النصوص الأدبية في الجامعة التي أعمل فيها. حتى ذلك الوقت،  كُنت قد قدّمتُ ما  يكفي من القراءات، وعلى غير عادتي أشعر بالتوتر والتعب هذه المرة وأنا أجلس في الصف الأول واستمع لهذه القراءات بالتحديد في انتظار دوري لأعتلي المنصة.  ويُعزى الأمر، أني كنت قبل هذا كُله  طالبة دراسات عليا في الجامعة نفسها وجمهوري كان مكونًا من أساتذتي ومعلميَّ السابقين – واليوم أصبحوا زملاء وأصدقاء. يوجد بين الحضور أيضاً طلاب سابقون، وطلاب جدد، وطلاب مستقبليون، بالإضافة إلى أشخاص لم أقابلهم من قبل، ولن أعرفهم أبدًا لو قابلتهم مرة أخرى. بقي قارئ واحد أمامي، لكني لا أسمع كلمة مما يقول. يدي تهتز وأنا أحمل الكتاب الذي سأقرأ منه – ولكن لم يتبقَ سوى نسخة طباعة صغيرة فقط. تسمرت ساقي تحتي وأنا أهمّ بالوقوف، إبطاي يتصببان عرقًا، ومرارتي تشتعل. ويخبرني الدم المتصاعد على وجهي أن ما أنا على وشك القيام به هو أمر مخجل ومحرج وخاطئ، لكني لمدة 14 عامًا  ظللت صامتة. اليوم أريد كسر جدار الصمت.

يخبرني الدم المتصاعد على وجهي أن ما أنا على وشك القيام به هو أمر مخجل ومحرج وخاطئ، لكني لمدة 14 عامًا ، ظللت صامتة. اليوم أريد كسر حاجز الصمت..

تبدو قصة فيلومينا ذات صلة هنا – تلك القصة التحذيرية القديمة  التي تدور حول الصمت  أمام الاغتصاب، واستحالة الحديث عنه. وقد جاءت شخصية فيلومينا فيلم Ovid’s Metamorphoses ، شخصية ثانوية تحكي قصة أميرة من أثينا تتعرض للاغتصاب على يد شخصية أقل أهمية إلى حد ما، الذي يصادف أن يكون زوج أختها، الملك تيريوس، طاغية من المملكة التي تشن الحرب عبر البحر على موطن فيلومينا في اليونان. بعد الاغتصاب -وبعد أن مزقت شعرها وخدشت وضربت ذراعيها – شتمت تيريوس ووعدت بإخبار الجميع بما فعله. وبشيء من الخوف والغضب، يتوجه تيريوس لسيفه، ولكن بدلاً من قتلها ، كما كانت تأمل، قام بقطع لسانها لمنعها من التحدث.

يبدو من المستحيل التحدث عن الاغتصاب على وجه التحديد والذي لا يقتصر على أن  تهديد القصاص العنيف حقيقي، سواء كان صريحًا أو ضمنيًا، بل يمتد استحالة الحديث عنه  بسبب الاعتقاد السائد في ثقافتنا بأن الاغتصاب هو انحراف: عنف لا يمكن تصوره، لا يمكن فهمه، لذلك كان من المحرمات التي لا توصف كما قيل لنا، لأن احترام قدسية المرأة وسلامتها هو القاعدة. وتلك بالطبع ليست الطريقة التي اختبرت بها معظم النساء أجسادهن عبر التاريخ. بالنسبة لمعظم النساء، كان الاغتصاب هو القاعدة واحترامهن هو الاستثناء.

علمتُ من وسائل التواصل الاجتماعي أنه في ساعات الصباح الباكر من يوم 12 أغسطس 2011 ، استيقظت فتاة في السادسة عشرة من عمرها في ستوبينفيل بولاية أوهايو في فناء منزلها الأمامي، وهي ما تزال في حالة سكر قليلاً، غير متأكدة من كيفية وصولها إلى هناك. لقد علمتْ عن طريق تفحص بعض تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي في هاتفها  مثل Instagram و Twitter و Tumblr ما حدث في الليلة السابقة.

وحينما اصطحبها والداها إلى مركز الشرطة بعد يومين لتقديم التهم، كانت الصور والتغريدات ومقاطع الفيديو قد أزيلت. حيث صرحت والدة الفتاة للصحافة “لقد علمت ابنتي بما حدث لها في تلك الليلة من خلال قراءة القصة عنها في الصحف المحلية”. وقد كان هناك شريط فيديو تم تسجيله في تلك الليلة عندما قام أحد مرتادي الحفلات، وهو لاعب كرة قدم بولاية أوهايو يدعى مايكل نوديانوس، يرمي بمزاح عن بعض الرجال وهم يغتصبون ويبولون على فتاة ميتة.

يقول مايكل نوديانوس في شريط فيديو مدته 12 دقيقة عن ضحكه الهستيري:

 إنها أكثر فتكاً من أوبي وان” ( شخصية خيالية من سلسة أفلام عالم حرب النجوم).

إنها أكثر فتكا من ابن أندي ريد.

إنها أكثر فتكا من كريس هنري.

إنها أكثر فتكا من زوجة أو جي.

اغتصبوها أكثر من تلك التي اغتصبها الشرطي مارسيلاس والاس في فيلم لب الخيال.

اغتصبوها بشكل أسرع من اغتصاب مايك تايسون.

اغتصبوها أكثر من فريق دوق لاكروس.

لقد تعرضت للاغتصاب الآن، إنها مجرد جثة.

أثناء محاكمة الاغتصاب في أوهايو، تبيّن أن الشخص الذي سجل مقطع الفيديو الذي تبلغ مدته 12 دقيقة، والذي يضحك فيه نوديانوس حول الاغتصاب، هو نفس الشخص الذي سجل فيديو لأحد المدعى عليهم وهم يتحرشون بالضحية في مؤخرة السيارة. إنه شاهد للادعاء ومُنح حصانة لشهادته. وعلى الرغم من أنه اعترف فيما بعد بحذف الفيديو لأنه أدرك أنه “كان خطأ” ، إلا أنه يقول إنه سجله لأنه اعتقد أن الفتاة يجب أن تعرف ما حدث لها. إنه شيء أرادها أن تراه: كيف كانت عارية بشكل كامل وهم يتحرشون بها. يعترف الشاهد أنه كان في الطابق السفلي حيث تم تصوير الفيديو لمدة 12 دقيقة. إنها ضحكته التي نسمعها. إنها يده تحاول تثبيت الكاميرا. في غرفة أخرى من نفس الطابق السفلي، ربما حتى أثناء تصويره مقطع فيديو، فتى آخر يلتقط صوراً للفتاة البالغة من العمر 16 عامًا: عارية ، فاقدة الوعي ، مستلقية على الأرض.

وبعد أن تم العثور على اثنين من الصبية المذنبين في القضية. وبعد النطق بالحكم، ينهار أحدهم وهو يبكي في قاعة المحكمة و ينتحب مثل طفل: “لقد انتهت حياتي. لا أحد يريدني الآن “.

ما تزال الفتاة مجهولة ولم يعلن اسمها حتى الان، على الرغم من أن بعض التقارير كشفت عن هويتها بلا مبالاة ثم قامت بحجبها بسرعة مرة أخرى. لا يهم فقد كان معظم الناس في المدينة يعرفون بالفعل من هي. والآن هي تتلقى تهديدات بالقتل. نبذها وهجرها أصدقاؤها. يتحدث محاميها عن الفتاة، ويقول إنها تشعر بالارتياح: “إنها تريد فقط العودة إلى حياتها الطبيعية” وهو يومئ برأسه خلال تحدثه، كما لو أن هذه لم تكن “حياة طبيعية” بالفعل للعديد من الفتيات.

تتقدم النساء والفتيات كل يوم باتهامات ضد رجال مشهورين أو غير معروفين، أقوياء أو فقراء، يتوجهن باتهامات ضد هارفي وينشتاين وبيل كوسبي و وودي ألن وداستن هوفمان ومات لاور وبيتون مانينج؛ ضد رجال لم نسمع أسماءهم من قبل في الكليات والمدارس الإعدادية والمدارس الثانوية والمدارس المتوسطة، في المستشفيات والجامعات والسجون، في الجيش، وفي مكاتب المحاماة، حتى في البيت الأبيض. لقد قيل لنا أن هذه الاتهامات هي الاستثناء، أو أن هؤلاء النساء يكذبن أو يحاولن جذب الاهتمام أو ابتزاز الرجال للحصول على المال.

يقول بودلير “إن أفضل خدعة من الشيطان هو إقناعك بأنه غير موجود”.

في هيوستن، حيث أعيش، تتقدم فتاة تبلغ من العمر 16 عامًا تُعرف باسم جادَا لتتهم علنيًا رجلين بتخديرها في حفلة واغتصابها ونشر صور لجسدها وهي فاقدة الوعي على وسائل التواصل الاجتماعي، وبذراع واحدة مدسوسة وراء ظهرها. إن قيام هؤلاء الرجال بنشر هذه الصور دون خوف من العواقب هو دليل على أنهم ليس لديهم سبب للاعتقاد بأنه ستكون هناك عواقب. لم تكن جادَا هي الفتاة الوحيدة في الحفلة التي اعتدي عليها بهذه الطريقة، هؤلاء الرجال أنفسهم ، إلى جانب رجال آخرين ، قاموا بتخدير فتيات أخريات، واغتصابهن، وسجلوا فيديو لأنفسهم يغتصبونهن، ونشروا هذه الصور ومقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي ، حيث تم مشاركتها وتداولها.

بعد انتشار حادثة الاعتداء، تظهر جادَا على قناة MSNBC للتحدث مع رونان فارو، الذي يربط بين قصتها وقصة تاريخ عائلته في العنف وسوء المعاملة. في شهر فبراير الماضي، صرحت أخت رونان، ديلان فارو، برسالة مفتوحة حول تجربتها في الاعتداء الجنسي على يد والدها الشهير والقوي، وودي آلن. نشرت صحيفة نيويورك تايمز خطاب فارو المؤلف من 936 كلمة في عمود على الإنترنت ؛ بعد ستة أيام، أعطت التايمز ألين 1800 كلمة في النسخة المطبوعة للرد، وهو رد انتقامي ينكر فيه هذه الاتهامات، ويصفها بأنها “مضحكة ” ، “وتملك حقد دفين وبحسب إدعاءات ألن الأمر كله مؤامرة انتقام قديم حاكتها ميا فارو، والدة ديلان، التي كانت، كما يقول مجنونة وحقودة، إذ اتهمته بأنه كان على علاقة مع ابنتها بالتبني سون يي بريفين والتي كانت فتاة مراهقة عندما بدأت علاقتهما. في روايته، لا يمكن تصديق ميا بسبب تاريخها في إقامة علاقات مع رجال أكبر منها سناً، بسبب حقدها على رفضها، لأنها ربما كذبت بشأن أبوة ابنها رونان – أن تجربة ديلان هي قصة خيالية أنشأتها الأم، إذ لا يمكن أن يرتكب هذه الجريمة بسبب خوفه من المساحات المغلقة، بينما في الواقع أن الاتهام هو جريمة وأنه ضحية لها.

عندما ألقي القبض على رجلين – كلينتون أونيالام، وهو شخص بالغ وكذلك آخر من الأحداث لم يُذكر اسمه – في ديسمبر، عادت جادَا إلى MSNBC للتحدث مع رونان فارو مرة أخرى. وكما حدث من قبل، ظهرت مع صديق للعائلة، هو كما يصف نفسه بأنه ناشط  اسمه Quanell)X) وهو مناهض لقضيتها والمتحدث باسمها، ويساعدها في الاتصال بالشرطة وجذب انتباه وسائل الإعلام إلى القضية. يبدو أن هذه هي المهارة الأساسية ل Quanell X. في عام 2011 ، نظم مسيرة في كليفلاند، تكساس، لدعم مجموعة من 21 رجلاً أدينوا فيما بعد بقيامهم باغتصاب جماعي  لفتاة تبلغ من العمر  11 عامًا. في هذا التجمع، ألقى باللوم على والدي الفتاة كونهما السبب في عنف الرجال  عليها، وألقى باللوم على الفتاة، وأشار إلى حساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي كدليل على أنها كانت بالفعل نشطة جنسيًا مع الرجال البالغين، واتهم الشرطة بالسماح بأن يتم التحقيق بإدارة جماعة كو كلوكس كلان السّرية العنصرية  والتي يرمز لها ب KKK – حدث كل هذا على الرغم من أن الجريمة التقطت عبر الفيديو وانتشرت في الوقت الذي ذهبت فيه الفتاة إلى الشرطة. كانت مقتطفات الفيديو التي  عرضت مرارًا وتكرارًا على الأخبار معظمها عبارة عن رسومات، في حين أن الأجزاء التي لم يتم عرضها ليست كذلك. تمت إدانة جميع الرجال الـ 21، ولكن فقط لأنهم اعترفوا بالذنب، حتى أن بعضهم تلقى أحكامًا مخففة تصل إلى سبع سنوات تحت المراقبة.

يجلس كوانيل إكس  بجوار جادَا عندما كانت فارو تسألها كيف تشعر حيال القبض على هذين الرجلين، وما الذي تريد رؤيته يحدث لهما. وبعد صمت طويل وتردد،قالت: “أود أن أرى العدالة. هذا هو ما أريده.”

يتكرر هذا الوضع في جميع أنحاء البلاد بتغييرات طفيفة: أبلغت امرأة عن حالات اغتصاب، وقيل لها إن الأولاد هذه طبيعتهم. شيء مخجل، فالمرأه التي تبلغ عن حالات الاغتصاب لا يصدقونها، بل بالعكس، تنبذ وتصاب بالصدمة، تتغير حياة المرأة إلى الأبد ولا رجعة فيها. في أسوأ الأحوال، تدمر نفسها. ومع ذلك، يبدو أن الرجال يزدهرون في ثقافة يمكنهم من خلالها اغتصاب النساء دون عقاب.

أعلم أعلم. ليس كل الرجال

أحد الرجال – أستاذ في جامعة جورجيا – علم أن مذكراته قد رفضت من قبل ناشر مرة أخرى، في نفس الوقت الذي أقرأ فيه هذه القراءة في الجامعة التي أعمل فيها. “ماذا عليّ أن أفعل لبيع مذكرات في هذا البلد؟” يشعر بالأسى حيال زميلته الأنثى. “خطفت واغتصبت؟” فكرت  زميلته أولاً في تجاهله، وعدم قول أي شيء على الإطلاق، بل سألته إذا كان يتحدث عني بالتحديد، عن كتابي. فردّ: نعم وأشار إلى نوع ما من كتب جيمس فراي، ربما يتهمني باختلاق الأمر برمته للحصول على الاهتمام وقبول النشر. بعد أشهر، تستقيل الزميلة من وظيفتها – لا أعرف ما إذا كان هناك أمران مرتبطان بهما – وبعد ذلك بكثير أخبرتني هذه القصة أثناء وقوفها في مطبخ منزلي.

سوزان ب. أنتوني، التي كتبت في عام 1900، قبل عشرين سنة من حصول المرأة على حق التصويت، قدمتُ ما يلي: “ليس هناك أي خطوة متقدمة اتخذتها النساء موضع خلاف كبير مثل التحدث في الأماكن العامة، ليس من أجل أمر حاولن القيام به، ولا حتى لتأمين حق الاقتراع ، فتعرضن لسوء المعاملة والإدانة والعداء”.

أنا على الهاتف مع محررة في مجلة نسائية معروفة بنصائحها الجنسية أكثر من تغطيتها للأدب المعاصر. المحررة تتكلم بلهجة بريطانية – أعتقد أنها بريطانية على أي حال – وهي تسأل أسئلة مدروسة وحساسة حول كتابي وحياتي، حول الروابط التي أراها بين ممارسات ال BDSM والتي تشمل رضى الطرفين والسادية والمازوخية والسيطرة وبين العنف الجنسي، إن وجدت، ونصيحتي للنساء اللائي نجون من الاعتداء الجنسي والعنف المنزلي. لا أشعر بالغرابة أو بعدم الارتياح لإخبارها عن تعرضي للاغتصاب، فلن أرى  وجهها بعد هذا الحوار.

بعد أن أغلقنا الهاتف، لم أسمع منها أو أي شخص آخر في مجلتها مرة أخرى إلا بعد أسابيع ، فقط قبل وضع القضية في جدول النشر، عندما طلب محامي الشركة الأم لهذه المجلة رؤية تقارير الشرطة لقضيتي، مدعيًا أنهم يقومون بهذه الترتيبات حسب اللازم، لحماية أنفسهم من أي دعوى تشهير قد يتقدم بها الرجل الذي اتهمته بالخطف والاغتصاب.

ضع في اعتبارك: أنا لا أدلي باسم هذا الشخص – ليس في الكتاب، ولا في المقابلة، لا أقدم أي معلومات تعريفية حول مكان وقوع الاعتداء- ولا المدينة، ولا الدولة، ولا حتى المنطقة. الرجل هارب دولي، مطلوب بنفس الاتهامات التي أذكرها في كتابي.

وعلى الرغم من كل ذلك، فإن محامي الشركة الأم لمجلة المشورة الجنسية للنساء يساوره القلق من أن هذا الهارب الدولي قد يرفع دعوى تشهير ضدهم، لذلك يطلب مني تقديم نسخ من تقارير الشرطة لقضيتي. جعلني ذلك غير مرتاحة أبدا، ولكن بعد التفكير لبضعة أيام، وافقت على إرسال التقارير.

بعد ساعات، رد المحامي بقوله إن هذه التقارير غير كافية للوفاء بعبء الإثبات. يقول المحامي: ربما كنت قد قمت بتزوير التقارير. لا يوجد شيء يمنعني. الآن يحتاج إلى تقارير الشرطة تأتي مباشرة من قسم الشرطة نفسه. وطلب مني تزويده باسم جهة اتصال ورقم هاتف، قام المحامي بالاتصال به فأبلغتْه الرقيب من إدارة السجلات أنه على الرغم من أنه نعم يمكنها أن تؤكد أن هناك بالفعل أمرًا بالقبض على الرجل، ونعم، يمكنها تأكيد نفس التهم المذكورة، لكن لا يمكنها إرسال السجلات إليه؛ لدى الدولة قوانين للحفاظ على حقوق سرية الضحية، والتي تمنع قسم الشرطة من نشر أي معلومات حول القضية. ثم طلب مني المحامي التنازل عن حقوق السرية وطلب من قسم الشرطة إرسال الملفات المتعلقة بقضيتي إليه مباشرة، وهو وحده من سيحدد صحتها.

أعلم في هذه اللحظة أن هناك بعض الأشخاص الذين يعتقدون أني أكذب بشأن ما فعله الرجال بجسدي بغض النظر عن الأدلة التي أقدمها لإثبات صحة ذلك، وأعلم أيضًا أنه ليس من مسؤوليتي إقناعهم.

“أعلم في هذه اللحظة أن هناك بعض الأشخاص الذين يعتقدون أني أكذب بشأن ما فعله الرجال بجسدي بغض النظر عن الأدلة التي أقدمها لإثبات صحة ذلك.”

يشير جون كركوير إلى أنه في ميسولا، على عكس القتل الذي ينتج عنه جثة ميتة أو اختطاف كدليل واضح ومقنع؛ مما يؤدي إلى الغياب الواضح لشخص ما؛ أو حتى هجومًا بدنيًا عنيفًا ينتج عنه جروح أو كدمات يمكن التحقق منها طبياً؛ فإن الاغتصاب هو الجريمة العنيفة الوحيدة التي تتعرض لها الضحية وتخضع للشك.

نجد تعبيرات عن هذا الشك في تاريخنا الطويل والمزعج للرجل الذي يقرر ما هو الاغتصاب وما ليس اغتصابًا. منذ عدة سنوات، تحدث النائب تود أكين من ولاية ميسوري بجهل عن ظاهرة ما يسمى بالاغتصاب الشرعي، حيث رأى أن الحمل لا ينجم أبدًا عن “اغتصاب شرعي” لأن المرأة “على ما يبدو” لديها طرق لمنع حدوث الأمر برمته. ” يُظهر الادعاء جهلًا مروعًا ببيولوجية الإنسان، فاختيار التمييز بين “الاغتصاب الشرعي” وغيره من الجرائم التي يُفترض أنها أقل أهمية لا يخلو من سابقة في القانون. العديد من الدول، وفقًا لقانون العقوبات النموذجي الذي أصدره معهد القانون الأمريكي عام 1962 للتأثير على القوانين الجنائية وتوحيدها، ما تزال تطلب من المدعين العامين إثبات أن الرجل استخدم القوة من أجل إدانته باغتصاب امرأة بالغة، وفي كل ولاية، هناك تمييز بين اغتصاب امرأة بالغة والاغتصاب القانوني لفتاة، والذي يعد تطورا حديثًا إلى حدٍّ ما وعلى نحو مفاجئ. في معظم تاريخ هذا البلد  كان الاغتصاب القانوني قائماً فقط باعتباره جريمة “إغواء”، لا يعاقب عليها بالسجن بل بغرامات.

زعم منتقدو العقوبات القاسية أن الفتيات الصغيرات يجب أن يتحملن مسؤولية حماية أنفسهن أو الفشل في ذلك، إذ كتب النائب تومكينز من كنتاكي في عام 1895 م  “في الواقع، فإن الفتاة البيضاء التي تبلغ من العمر 12 عامًا في أي مكان في جميع أنحاء العالم المتحضر، ما لم تكن فاسدة أخلاقياً ومعتوهة، مؤهلةٌ بشكل كبير، ما دامت تتمتع بكامل قواها العقلية، لحماية عذريتها إذا رغبت في ذلك” وعارض رفع سن الرشد “الرغبة الجنسية تخص الذكور والإناث البشر على قدم المساواة. وصانعو القانون في هذه الولاية آنذاك  وحتى الآن، غير راغبين في إلحاق أشد عقوبة بالذكور عندما يكون هناك احتمال أن تكون الأنثى هي المسؤولة أيضاً. “ويمضي في تقديم قضيته ضد رفع سن الرشد من 12 عاما من خلال الاعتماد على “العلم” – على وجه التحديد الحقيقة “العلمية” المتمثلة في أن “الفتيات الزنوج” يبلغن سن البلوغ قبل الفتيات البيض، وأنهن ينشطن جنسياً في وقت أبكر من الفتيات البيض، وأنهن أكثر “شهوانية” “من الفتيات البيض – وهي حقيقة” يستشهد بها كدليل على أنه من المستحيل اغتصاب امرأة سمراء.

وأشير إلى هذا النص البغيض فقط لأن هذا “العلم” ما يزال قائماً حتى اليوم. نرى أدلة على ذلك في نظامنا القضائي، وأدبنا، وبرامجنا التلفزيونية والأفلام. إنه يبقى مثل المواقف، والتحيزات ، والقوالب النمطية ، مثل التعصب.

في كتاب “أنا أعرف لماذا يغني الطائر في قفص”، كتبت مايا أنجيلو كيف تتعرض للاغتصاب وهي في السابعة من عمرها، بشكل متكرر من قبل صديق والدتها الذي يهدد بقتل شقيقها إذا تحدثت عما فعله. ماذا فعلنا؟ تتساءل. عندما تكتشف جريمة الرجل أخيرًا، بعد فوات الأوان، وعندما يُدخَل الشاب مايا، التي كان اسمها آنذاك مارغريت، إلى المستشفى مصابًة بجروح، تُستَدعَى مارجريت، ويُعتَقل الرجل أخيرًا بسبب جرائمه، تشهد مارغريت ضده. يسألها المحامي عما إذا كانت هذه المرة فقط أم كانت عدة مرات، وشعرت مارجريت بأنها عالقة في الفخ: إذا قالت الحقيقة بقولها نعم، كانت عدة مرات، فإن ذلك سيستخدمه المحامي  كدليل على “شهوانيتها الطبيعية”، وهي في الواقع لم يكن من الممكن أن تتعرض للاغتصاب من قبل هذا الرجل البالغ؛ ومع ذلك، إذا كذبت وقالت لا، كانت هذه المرة الوحيدة، ستفشل في إيضاح القوة الكاملة لجرائمه ضدها. لا، هو ما شعرت به كل شخص في قاعة المحكمة يتوقع منها أن تقول، حتى إنها تريد أن تقولها. تدخل الكذبة فمها وتسمح لها بالهروب.

يُحكم على مغتصبها بالسجن لمدة عام ويوم، رغم أن محاميه يرتب لإطلاق سراحه في وقت لاحق من بعد ظهر ذلك اليوم. في تلك الليلة، تعرض للضرب حتى الموت، على الأرجح من قبل إخوان مارجريت وأعمامها، سعياً لتحقيق العدالة حيث فشلت المحاكم في تحقيق ذلك. ومن الصدمة والشعور بالذنب، أصيبت بالبكم بسبب وفاته ولم تتحدث طول السنوات الست التالية.

“الاغتصاب هو الجريمة العنيفة الوحيدة التي تتعرض لها الضحية وتخضع للشك.”

عندما لا تستمع مؤسسة مثل المحكمة أو قسم الشرطة أو مكتب المدعي العام في المقاطعة أو الجامعة أو الأسرة إلى امرأة تتحدث عن الاعتداء الجنسي الذي تعرضت له، فإنهم يخونون المرأة بموقفهم هذا وكأنهم يقولون أن خطاب المرأة لا يهم – لا عندما ندلي بشهادة، ولا عندما نرفع المناشدات، ولا عندما نبلغ عن جرائم العنف المرتكبة ضدنا، ولا حتى عندما نقول، بكل وضوح، لا.

ربما لا يكون الدرس إذن هو أن انتهاك أجساد النساء أمر لا يمكن تصوره، لكن الرجال يتمتعون بقوة هائلة عندما يفكرون ويخططون ويؤدون فعلاً يُقال لنا عنه بإنه محظور. بالتأكيد، يمكن للمرء أن يجد متعة في فعل الأشياء المحظورة صراحة. يمكننا بكل تأكيد تذكر أمثلة من أيام شبابنا، ومع ذلك، لا أعتقد أن السبب الوحيد وراء اغتصاب الرجال هو أنهم يجدون متعة في كسر أحد المحرمات. هناك أيضًا محرمات ضد أكل لحوم البشر، لكننا لا نسمع عن أشخاص يأكلونها، لكن الرجال يغتصبون النساء كل يوم.


يقول بيل كوسبي لفريق من المحامين أثناء شهادته في دعوى أندريا كونستاند المدنية: “لا أسمعها تقول أي شيء”. “وهكذا أواصل وأذهب إلى المنطقة الواقعة بين الإذن والرفض. إن تعبيرات كوسبي والتلميحات التي تحدث عنها كوسبي تستدعي إلى الذاكرة صورة للعنف بدون لغة العنف. إن التحدث بصراحة، والاعتراف بتخدير هذه المرأة واغتصابها، من شأنه أن يؤدي إلى الرعب والاشمئزاز، لأن تخدير المرأة من أجل اغتصابها من المفترض أنه عمل لا يمكن تصوره. لغة كوسبي مرحة، وكأن المرأة – في كل ما تقوله، وكل ما تفعله، وكل ما تريد لنفسها، والأهداف التي ربما تكون قد حددتها لحياتها – بعيدة كل البعد عن الموضوع. وكأن حقيقة غزو الرجل في نهاية المطاف تمنحه القدرة على إزالة ذنبه عند ارتكاب جريمة ما، وإزالة الجريمة من التاريخ، وإزالتها حتى من عالم الاحتمالات.

هذه الخدعة، التي تجعل من الرجال  يتنصلون من أفعالهم، ليست سحرية، إننا نقوم بها نيابةً عن الرجال كلما تحدثنا عن هذا العنف الذي لا يمكن تصوره. نتحدث عن عدد النساء والفتيات اللائي يتعرضن للاغتصاب – في المدرسة الثانوية، في الكلية، في الزواج، في العليّة، أو يوم الثلاثاء- ولكن لا نتحدث عن عدد الرجال الذين يغتصبون النساء والفتيات، نتحدث عن النساء والفتيات اللائي يتعرضن للقتل أو الاختطاف أو اللائي عُثر عليهن مقطوعات الرأس أو مجمدات أو على حافة الموت في الفناء الأمامي أو على الشرفة أو مقذوفات على جانب الطريق، ولكن لا نتحدث عن عدد الرجال الذين يقتلون أو يختطفون، أو يشوهون، أو يدمرون. كانت نيكول براون سيمبسون تقول: “امرأة تتعرض للضرب” قبل أن تموت ، لكن الرجل الذي ضربها، وربما قتلها، يهرب من عقوباتنا. نسمي أندريا كونستانس “مُتَهِمة”، وهو اسم نلصقه أيضًا على العشرات من النساء، فرادى أو كمجموعات، اللائي تقدمن للمطالبة بالعدالة بسبب تخديرهن واغتصابهن بواسطة بيل كوسبي. لغتنا تحميه وتخفيه من مسرح الجريمة وتحول جريمته إلى ادعاء واقتراح  وشائعة.

هذه الخدعة ، التي تجعل الرجال يتنصلون من أفعالهم  ليست سحرية.


في عام 2014، قال نائب الرئيس جو بايدن في مؤتمر صحفي: “سيتم الاعتداء على واحدة من كل خمس نساء يذهبن إلى الكلية”، حيث أصدرت في ذلك العام فرقة العمل الرئاسية نتائج دراسة عن الاعتداء الجنسي في الجامعات. أعلم أن هذه الأرقام منخفضة بشكل غير دقيق، حيث تشير التقديرات إلى أن 13% فقط من النساء اللائي يتعرضن للاغتصاب يبلغن عن الاعتداء لدى السلطات، بينما تبقى الأخريات صامتات خشية تعرضهن للعار أو الخوف من العقاب، أو حتى الخوف من الأسئلة الفضولية غير الملائمة والحساسة. يقول نائب الرئيس لجمهوره: “أصبح أولياء الأمور عندما يرسلون بناتهم للدراسة في الجامعات أو الكليات يدعون ويصلون من أجل شيء واحد، وهو أن تكون بناتهم في أمان، أنت تصلي من أجل أن تكون ابنتك في أمان.”

في الحملة التي أطلقها البيت الأبيض تحت اسم (1 Is 2 Many)  يقوم ببطولتها بينيشيو ديل تورو، الذي يجلس على كرسي بجناح أسود من الجلد أمام موقد في غرفة بألواح خشبية. يبدأ بقوله: “لدينا مشكلة كبيرة، ونحتاج لمساعدتكم”. من يخبرنا عن مشكلة الاعتداءات الجنسية هم مجموعة من الرجال المشاهير مثل دولي هيل، سيث مايرز، دانيال كريج، وستيف كاريل. يشجع هذا الإعلان الرجال على التحدث والتصرف  ليصبحوا جزءًا من حل للمشكلة التي يمكنهم هم فقط تسميتها. الرسالة مهمة وضرورية، إلا أن من يوصلونها يقللون من أهميتها إلى حد ما. دانييل كريج، على سبيل المثال، الذي يشتهر بتجديد دور جيمس بوند، شخصية موسومة بإغواء النساء وهجرهن . يقول دانييل كريج في الإعلان (PSA) وهو يميل برأسه: “إذا رأيت ذلك يحدث”، لن ألومها أبدًا، سوف أساعدها “.

يواصل ديل تورو: “إذا رأيت ذلك يحدث، فسأتحدث”. إنه أمر غريب حقًا، لأن شخصياته لا تظهر هذه القيم الأخلاقية نفسها. في فيلم “الخوف والبغض” في لاس فيجاس، وعلى سبيل المثال، “جوني ديب”، راؤول ديوك، هو من يتكلم  ويتصرف  ويتدخل عندما يجد محاميه، الدكتور جونزو محتجزًا في غرفة في فندق مع قاصر، بعد أن خدعها بتناول مخدر قوي جداً على متن الطائرة من أجل الضغط عليها بسهولة أكثر لممارسة الجنس بمجرد وصولهم إلى الفندق. في الإعلان، ينظر ديل تورو مباشرة إلى الكاميرا: “إذا لم توافق، أو إذا لم تستطع الموافقة، فهذا اغتصاب، إنه اعتداء “.

ما الرسالة الحقيقية التي تكمن وراء ذلك؟ ما الامتياز التجاري أو الإعلان؟ هل سيكون هذا مكافأة أو خدمة المجتمع؟ يواصل مشاهيرنا المفضلون إقنناعنا بأنهم يكنون احتراما كبيرا للنساء وأن علينا أن نحذو حذوهم. لكن في الجانب الآخر، كيف ينبغي لنا أن نفهم الأدوار التي يؤدونها خلف شاشة التلفاز والتي تحمل رسالة معاكسة: إن قيمة الرجل تتحدد بقوته الجنسية، وعدد النساء اللواتي ينام معهن، من خلال تجاهله لجسد المرأة، واستقلاليتها، وسنها؟ هل يقصدون ذلك عندما يقولون إن المرأة مهمة؟ هل نحن مهمون أم لا؟


بعد واحد وعشرين عامًا، بعد بضعة أشهر من القراءة الأولى في المكتبة بالجامعة التي أعمل فيها، أقف في أسفل مدرج خارجي في بورتلاند، أوريغون، حيث تمتلئ المقاعد بالناس. إنني على يقين من أن الرجل الذي اختطفني واغتصبني عندما كان عمري 21 عامًا من بينهم. أخطط، بعد كل هذه السنوات، لإخبار الجميع بما قام به. إنه هنا، على ما أعتقد. لقد جاء لإطلاق النار عليّ بمسدس، ولكن لا شيء، ولا حتى ذلك، سيمنعني من الكلام.

وأنا هنا ، على قيد الحياة ، ما زلت أتحدث.

إذا كان ” أخذني الحماس” كأي جزء من الدفاع، فذلك لأن بعضنا يعتقد أن جميع الرجال لديهم هذا بداخلهم – غريزة يستسلم لها ببساطة.

كتبت مارغريت أتوود في حكاية الخادمة: “ربما لا يتعلق أي من هذا بالسيطرة”. “ربما لا يتعلق الأمر حقًا بمن يمكنه امتلاك من، ومن يمكنه فعل ما بمن، والتخلص منه، حتى الموت. ربما لا يتعلق الأمر بمن يمكنه الجلوس ومن عليه الركوع أو الوقوف أو الاستلقاء، ربما يتعلق الأمر بمن يمكن أن يفعل بمن ويمكن أن يغفر له. “

يقول فوكو: “القوة هي مجموعة من العلاقات بين شخصين”.

يقول فولتير: “القوة، تتمثل في جعل الآخرين يتصرفون كما أختار”.

يقول هانا أرندت: “القوة” تنتمي إلى مجموعة وتبقى قائمة طالما بقيت المجموعة سوية.”

نعلم جميعًا أن الرجال يتمتعون بالسلطة كمجموعة، لكنني أريد أن أكون واضحة بشأن شيء ما: فالمرأة كمجموعة تتمتع ذلك أيضًا.

قبل أن يقتل إليوت رودجر ستة أشخاص ويصيب  14 غيرهم في إيسلا فيستا بكاليفورنيا، كان لديه تاريخ طويل في التعبير عن الكراهية والعنف ضد النساء. لقد خطط للجرائم  ونواياه المبيتة موثقة في مقاطع فيديو على موقع يوتيوب نشرها قبل أيام وساعات من إطلاق النار، مشيرًا إلى رفض النساء له كأحد دوافعه للقتل. في أحد مقاطع الفيديو، يقول: “لا أعرف لماذا لم تنجذبنَ إليَّ أيتها الفتيات، لكنني سأعاقبكنَّ جميعًا على ذلك”.

عندما تبدأ النساء على موقع تويتر في الإشارة إلى أن مواقف الاستحقاق  الجنسي تتسق مع ثقافة أوسع نطاقا، يصبح الرجال دفاعيين ويؤكدون أن “الأمر لا ينطبق على كل الرجال”  بل يخص ممن يكرهون النساء أو العدوانيين . امرأة ما – أتمنى لو عرفت اسمها – تبدأ تغريداتها بوسم #yesAllWomen ردًا على حجة “ليس كل الرجال”، لتوضيح أنه لا، ليس كل الرجال قتلة، أو معتوهين، لكن  نعم، جميع النساء يعشن في خوف منهم. وفي غضون أيام، تغرد ملايين النساء في كل مكان في العالم عن تجاربهن الخاصة في الخوف والترهيب والمضايقة. وفي لحظة ما، هناك ما يصل إلى خمسين ألف تغريدة في الدقيقة، كل واحدة منها تشير إلى تجربة في العدوان على النساء يوميًا.

رد الفعل العنيف ضد #YesAllWomen قاسٍ، حيث يتم تصيد النساء والتحرش بهن وإهانتهن وتهديدهن. يحدث ذلك مرة أخرى، بعد سنوات، بعد إطلاق #metoo ، حيث تكشف النساء أنهن قد تم إدراجهن في القائمة السوداء، وطردهن، ومقاضاتهن. تهدف التهديدات والعقوبات إلى إسكاتنا، وفي هذا، يجب أن تفشل كل تلك المحاولات.


تنطبق عبارة “قول الحقيقة في وجه السلطة” هنا. غالبًا ما تُعتبر “كويكرز” التي ظهرت في القرن الثامن عشر، شكلا من أشكال المقاومة السلمية ضد الملك جورج الأول ملك بريطانيا، وقد ظهرت العبارة أولاً في رسالة من ناشط في الحقوق المدنية يدعى بايارد روستين، الذي كان في الواقع من جمعية الكويكرز الدينية. وكتب خطابًا في أغسطس 1942 إلى قيادة الكويكرز يحث على تقديم الدعم الروحي للقوات التي يتم إرسالها في الحرب العالمية الثانية. كتب روستن : “الوظيفة الاجتماعية الأساسية للمجتمع الديني هي “قول الحقيقة للسلطة”، الحقيقة هي أن الحرب خاطئة، ومن واجبنا أن نجعل الحرب مستحيلة في أنفسنا أولاً ومن ثم في المجتمع”.

إن قول الحقيقة بوجه السلطة يعني الكفاح ضد أشكال متعددة من الصمت: فالإسكات الرسمي لنظام العدالة الجنائية الذي يدّعي حمايتنا ولكنه بدلاً من ذلك يجعلنا خرساوات؛ وهناك الصمت الثقافي الذي يسعى لتشويه سمعتنا قبل أن نفتح أفواهنا؛ وأشكال الصمت الصغيرة الخاصة بنا التي في بعض الأحيان فرضناها على أنفسنا، والنوع الأخير من الصمت أجده هو الأخطر.


في فيلم تحولات أوفيد، لا تنتهي قصة فيلومينا عند قص تيريوس لسانها، بل مكوثها لمدة عام في السجن. فتنسج نسيجًا يصوّر الجريمة التي تعرضت لها على يد ملك الحرب  بخيوط من اللون الأرجواني العميق على خلفية بيضاء. عندما تنتهي من صنع النسيج، تعطيه فيلومينا للخادم، وتتواصل معه من خلال الإيماءات لتسليمها إلى أختها الملكة. يطيع الخادم، ولا يعرف الرسالة التي يحتوي عليها النسيج. تفهم الملكة الرسالة وتنقذ أختها وتعيدها إلى القلعة سراً. تتآمر الشقيقتان معا على قتل ابن تيريوس، إيتيس، ويقدمانه كعشاء للملك. وبعد ذلك، يسأل تيريوس عن ابنه. في هذه اللحظة الحاسمة، تكشف فيلومينا عن نفسها شعثاء مشوهة ملطخة بالدماء وتلقي برأس ايتس في حضن تيريوس. عندما يبدأ في فهم ما حدث لابنه الوحيد، يشتاط غضبًا ويلاحق المرأتين خارج القلعة، عبر الغابة، إلى حقل قبل أن تتدخل الآلهة في النهاية وتحولهما جميعًا إلى طيور.

في بعض الترجمات، تصبح  فيلومينا عندليبًا، محكومٌ عليها أن تغني اسم المعتدى عليها إلى الأبد: تيروس…تيروس. وفي ترجمات أخرى، أصبحت أختها العندليب وتحولت فيلومينا إلى  طائر أبكم.

شيئان قد شدّا انتباهي  في هذه القصة. أولهما تحول فيلومينا في النهاية وهو إما عدالة أو ظلم إضافي، يعتمد على تفسير كل شخص. والثاني، والأهم من كل ذلك هو النسيج التي صنعته، والـذي يحمل مضامين الكلام المنمق، التحدث بشجاعة رغم استحالة الكلام. هناك الكثير مما يمكننا أن نتعلمه من هذا.

“إن قول الحقيقة لامتلاك القوة يتطلب الكفاح ضد جميع  أشكال الصمت”.

ربما يكون من المجدي هنا العودة إلى تلك السطور الشهيرة التي كتبتها موريل روكيسير: “ماذا سيحدث لو كشفت كل امرأة الصورة الحقيقية عن حياتها؟ سوف ينفتح العالم على مصراعيه . “إنها صورة قوية، لكن على الرغم من أنني عدت إلى هذه السطور في كثير من الأحيان، أعتقد أن ما تقوله أثبت صحته جزئياً فقط. لقد تحدثت الكثير من النساء عن حياتهن الحقيقية، ولو أن هذا  قد يبدو مستحيلًا في ذلك الوقت، واستمر العالم كما كان من قبل.

ربما تكون قد أدركتُ الآن أن العالم لم يتحول لأشلاء بعد أن اعترفتُ علنيًا بأنني تعرضتُ للاختطاف والاغتصاب. لقد عانقني الموجهون وقدموا لي كلمات الثناء والإعجاب. نعم  واجهت بعض الصعوبة في بعض الحوارات التي يتضح فيها أن الآخرين يجدون أن موضوع اغتصابي موضوعا غير مريح أكثر مني. أدرك الآن أن هذا ليس له علاقة كبيرة بي، وتوقفت عن اعتبار نفسي مسؤولة عن مشاعر الآخرين حيال ذلك. وعلى الرغم من أنني شعرت بأنني مضطرة إلى حماية أسرتي طوال هذه السنوات من القصة المؤلمة التي حملتها، إلا أنني والدتي أجرينا أكثر الحوارات صدقًا وصراحةً في حياتنا بعد أن قرأت كتابي. وقال زوجي، الذي يهمني رأيه أكثر من رأي أي شخص آخر على هذه الأرض، بعد كل شيء، أنه أحبني وأعجب بي أكثر. على الرغم من خوفي من أن هذا السر سيخضعني لتصنيف ما، إنها “تلك المرأة التي تعرضت للاغتصاب”، وأنني أشعر بالخزي والنبذ ​​والتجاهل، لكن ما يحدث بتواتر أكبر هو أن تقترب مني امرأة مبللةً بدموعها، لا تقول شيئًا، وتسرد قصة لم تجد لها الكلمات المناسبة بعد.

في الستينيات من القرن الماضي، وصفتْ بيتي فريدان الاضطهاد المنزلي بأنه “المشكلة التي لا تحمل اسم”. وقد نسمي الآن وباء العنف الجنسي ضد المرأة بأنه المشكلة التي لا لغة لها.

إذا كنا سنقوم بالعمل الشاق المتمثل في مواجهة هذه الإخفاقات، فلا يكفي أن نتحدث عن حقيقتنا لبعضنا البعض على انفراد أو خلف أبواب مغلقة، رغم أهمية هذه الخطوة . أتفهم الخوف من كسر الصمت الذي دام طويلًا، خوف له قوة هائلة. ولكن إذا كان هناك أي أمل لتحقيق العدالة، فيجب علينا أن نقول الحقيقة لنكتسب القوة. يجب أن يصل صدى صوتنا لكل من سيسمعنا. وحتى أولئك الذين أشاحوا وجوههم وصموا آذانهم عنا يجب أن يَسمعوا.


بقلم: ليسي م. جونسون | ترجمة: محمد السنيدي | تدقيق الترجمة: مريم الغافري |  المصدر

Exit mobile version