إذا كُنت تستطيع قراءة هذه الجُملة، إذن أنت ممن يمكنهم التحدث مع العلماء. ربما ليس عن تفاصيل أبحاثهم ولكنكم على أقل تقدير تشتركون في نفس اللغة. الغالبية العظمى من عمليات التواصل في العلوم الطبيعية اليوم – الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والجيولوجيا – تتم باللغة الإنجليزية؛ في المطبوعات وفي المؤتمرات وفي رسائل البريد الإلكتروني وفي المشاريع الجماعية التي تتم بوساطة سكايب، والتي يتم تعزيزها من خلال التجول في قاعات أي مؤسسة معنية بالبحث العلمي في كوالالمبور أو مونتفيديو أو حيفا.
والأخطر من ذلك، أن العلم المعاصر أحادي اللغة: يستخدم الجميع اللغة الإنجليزية بدرجة يتم فيها تقريبًا استبعاد أغلب اللغات الأخرى. قبل قرن من الزمان، كان أغلب الباحثين في العلوم الغربية يتحدثون اللغة الإنجليزية وإن لم يكن بطلاقة، لكنهم أيضًا قرأوا وكتبوا وتحدثوا باللغتين الفرنسية والألمانية، وأحيانًا بلغات “ثانوية” أخرى، مثل الروسية الناشئة حديثًا أو الإيطالية التي قاربت على التلاشي.
قد يبدو تعدد اللغات هذا أمرا مفاجئا في العلم الحديث. فلنا أن نقول أن استخدام لغة واحدة هو أمر أكثرُ فاعلية، أليس كذلك؟ فإذا فكّرت في الموضوع، تخيّل عدد الساعات التي نقضيها في محاولة تعلمِ كتابة وقراءة ثلاث لغات حتى نقوم فقط بالتوصل إلى أسماء لتراكيب مشتقات البنزين! ستكون الفوارق الناتجة عن الترجمة أقل في حال استخدم الجميع اللغة نفسها – مثل الخلافات التي تدور حول الأولوية بالنسبة لمن اكتشف ماذا أولًا، عندما تظهر النتائج بعدة لغات – وتقل الفوارق أيضًا في البِيدَاغُوجيَا (علم أصول التعليم). يتقدم العلم المعاصر بمعدل مذهل لأننا ركزنا على “العلم”على وجه التحديد وليس على الجوانب السطحية مثل اللغة.
يَسهل الحفاظ على هذه النقطة إذا نشأ المتحدث وهو يتحدث الإنجليزية، إلا أن أغلب العلماء الذين يعملون اليوم ليسوا من المتحدثين الأصليين للغة. فحينما نضع في الإعتبار الوقت الذي يقضيه العلماء في تعلم اللغة، نجد أن سطوة اللغة الانجليزية ليست بأكثر فاعلية من الذي يستخدم لغات عدة. إن سطوة اللغة الإنجليزية في العلم ليس أكثر فعالية من استخدام العلم للغات أخرى عندما نضع في الاعتبار الوقت الذي يقضيه العلماء في تعلم اللغة – فهو غير كاف بشكل مختلف. لا يزال تعلم اللغات والترجمة مستمرًا في المجال العلمي، ولكنه توقف في الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا والمملكة المتحدة.
إنَّ تعدد اللغات أصبح عبئاً لبقية العالم عدا هذه الدول. ومع ذلك، فإن علماء اليوم مقيدون تمامًا بسيطرة اللغة الإنجليزية، كما أن التغير السريع في البحث العلمي وثورانه يُقصّر من دورة حياة المعلومات التي يحتكرها المجال الواحد. ولكن، أليست هذه طبيعة البحث العلمي بالأساس؟ لا ، ليست كذلك، و لا يستطيع الشهادة على ذلك سوى العلماء القدامى الذين يذكرون كيف كان البحث العلمي سابقًا. يفترضُ العلماء، وعلماء الإنسانيات غالبًا، أن علوم اللغة الإنجليزية حلت محل الألمانية أحادية اللغة، مسبوقة بالفرنسية وبعدها اللاتينية في سلسلة تعود إلى فجر العلوم الغربية، و يُفهم أنها أجريت باللاتينية -أحادية اللغة. ولذا فإن الاعتقاد بأن تاريخ العلم تم نقله عن طريق سلسلة من أصحاب اللغة الواحدة قد يبدو انعكاسًا للواقع، إلا أنه لم يكن ولن يكون كذلك بتاتًا .
إذا تكلمنا بشكل عام، يمكننا ملاحظة نظامين لغويين أساسيين في العلوم الغربية: نظامٌ متعددُ اللغات وآخرُ أُحاديُّ اللغة. يُعتبر الأخير مُستحدثًا؛ فقد ظهر في عشرينات القرن الماضي، ولم يفرض سيطرته إلا بحلول سبعينات القرن ذاته. يتحدث العِلم الانجليزية، لكن الجيلَ الأول الذي نشأ داخل هذا النظام الأحادِّي ما زال على قيد الحياة، ولفهم كيف حدث هذا التغيير، نحن بحاجة للعودة بالزمن.
بحلول القرن الخامس عشر، وتحديدا في أوروبا الغربية، كانت الفلسفة الطبيعية والتاريخ الطبيعي – مجالا التعلم اللذان سيُعرفان لاحقا باسم “العلوم” بحلول القرن التاسع عشر – في أساسها كيانات متعددة اللغات. كان هذا هو الحال على الرغم من حقيقة أن لغة التعليم في العصور الوسطى وعصر النهضة كانت اللاتينية.
ولكن، كَون اللاتينية هي لغة التعليم، لم يتعارض هذا مع النظام مُتعدد اللغات، بل على العكس، ساعد في تعزيزه. وذلك لأن أياً من علماء الإنسانيات من عصر النهضة، أو أي مُعلم مخضرم من العصور الوسطى، كان يعلم أن دراسة الفلسفة الطبيعية باللاتينية له تاريخ لامع يعود إلى أيام مجد روما. (كتب كل من شيشرون وسينيكا أعمالًا مهمة في هذا المجال). لكن هؤلاء الإنسانيين والمعلمين أنفسهم عرفوا أيضًا أن اللغة السائدة للتعلم في العصور القديمة، حتى سقوط روما بأكملها، لم تكن اللاتينية بل اليونانية الهلنستية. كانوا يعلمون أنه في القرون التي سبقتهم، تم دراسة الفلسفة الطبيعية باللغة العربية أكثر من اللغات الكلاسيكية. ساعدت ترجمة الأعمال في الفلسفة الطبيعية من العربية إلى اللاتينية على بداية إحياء التعلم في الغرب. كان جليًا للجميع أن التعلم كيانٌ متعدد اللغات.
أصبحت اللاتينية وسيلة مناسبة للتكهنات حول الطبيعة في كل مكان في العالم، لكن كل شخص شارك في هذه المناقشة كان يتحدث لغاتٍ متعددة.
هكذا أصبحت الحياة أيضًا. لم يتعلم أحد اللغة اللاتينية كلغة أولى، وقليلون من استخدموها شفهيا، بصرف النظر عن بعض الآباء المتحمسين (ادعى مونتين أنه واحد منهم). كانت اللغة اللاتينية مخصصة للمنح الدراسية المكتوبة، لكن كل من كان يستخدمها -مثل إيرازموس في روتردام – ينشر استخدامها جنبًا إلى جنب مع اللغات الأخرى التي استخدمت للتواصل مع الخدم وأفراد الأسرة والرعاة. كانت اللاتينية لغةً ناقلةً للفكر، تُستخدم لربط المجتمعات اللُغوية، وكانت تُعتبر محايدة إلى حد ما. وكانت تقتصر على طبقات معينة، وذلك لأنها تتطلب ما يماثل الدراسات العليا ، ولكنها تجاوزت الفروق السياسية والمذهبية بسهولة: استخدمها البروتستانت بشكل متكرر (غالبًا بشكل أكثر أناقة من الكاثوليك)، وتم تبنيها في أواخر القرن الثامن عشر من قِبل روسيا الأرثوذكسية كلغةٍ علمية لأكاديمية سانت بطرسبرغ للعلوم الحديثة.
ربما المهم في ذلك هو أن اللاتينية لم تكن هي اللغة الأم لأمة معينة، وتمكن العلماء في جميع أنحاء المجتمعات الأوروبية والعربية من الاستفادة منها بالتساوي، فلا أحد “يمتلك” اللغة. و لهذه الأسباب، أصبحت اللاتينية وسيلة للتكهن حول طبيعة العالم العلمية. إلا أن كل شخص في هذه المحادثة كان متعدد اللغات، واختار اللغة التي تناسب الجمهور. استخدم السويديون اللاتينية عند الكتابة إلى الكيميائيين الدوليين واختاروا اللغة السويدية عند التحدث مع مهندسي التعدين (المناجم).
بدأ هذا النظام في الإنهيار في القرن السابع عشر، منتصف ما كان يطلق عليه “الثورة العلمية”. نشر جاليليو جاليلي اكتشافه لأقمار كوكب المشتري في اللاتينية Sidereus Nuncius عام 1610 ، لكن أعماله الرئيسية اللاحقة كانت باللغة الإيطالية. و لأنه كان يهدف إلى زيادة عدد جمهوره المحلي لدعمه، قام بتبديل اللغات. ظهر كتاب مبادئ نيوتن (1687) باللغة اللاتينية ، لكن كتابه البصريات عام 1704 كان باللغة الإنجليزية (الترجمة اللاتينية 1706).
بدأ العلماء في استخدام مزيجٍ من اللغات والترجمات اللاتينية والفرنسية لتمكين التواصل في جميع أنحاء أوروبا. بحلول نهاية القرن الثامن عشر، صدرت الأعمال في الفيزياء وعلم وظائف الأعضاء، وعلم النبات بشكل متزايد باللغات الإنجليزية، والفرنسية والألمانية ولغات أخرى. كان العديد من الصفوة المتعلمة صامدين في اختيار اللاتينية حتى الثلث الأول من القرن التاسع عشر. (احتفظ عالم الرياضيات الألماني كارل فريدريش جاوس بدفاتر ملاحظاته العلمية، على الأقل خلال عام 1810، باللغة التي استخدمها يوليوس قيصر في كتاباته.) وظهر العلم الحديث تلقائيًا كنتاج لمزيجٍ متعدد اللغات أثناء عصر النهضة.
بدأت المخاوف بشأن فعالية هذه الخطوة، خاصة وأنها صاحبت الثورة الأوروبية في القرن التاسع عشر- والتي انجر\ نتجَ عنها تغيير النظام العتيق المتعدد اللغات. بدت العديد من اللغات مضيعةً للوقت؛ حيث تهدرُ وقتكَ كله في تعلم بعض اللغات لقراءة أحدث ما توصلت إليه الفلسفة الطبيعية، في حينِ أنك لن تقوم أبدًا بأي بحث. وفي حوالي عام 1850، بدأت اللغات العلمية الأخرى بفقد قيمتها أمام الإنجليزية والفرنسية والألمانية، حيث احتلت كل منها نسبًا متساوية تقريبًا من إجمالي إنتاج البحث العلمي (على الرغم من أن كل علمٍ كان له توزيع مختلف: بحلول نهاية القرن، كانت الألمانية هي الأوفر حظًا في الكيمياء).
اجتاحت القَوميّة الحديثة أوروبا جنبًا إلى جنب مع ازدهار التصنيع، فقام الشُعراء والمثقفون في جميع أنحاء القارة باستحداث وتعديل اللغات المحلية بشكل كبير لأجل التكيف مع حداثة القرن التاسع عشر. واجهَ حُراس اللغة هؤلاء تحديات كبيرة في تكييف ألسنة الفلاحين مع متطلبات الأدب العالي والعلوم الطبيعية. قصة الفنون معروفة على نطاق واسع: ازدهرت الآداب المجرية والتشيكية والإيطالية والعِبرية والبولندية، وغيرها في النصف الثاني من القرن. ومع ذلك، فإن التقدير العالي للكفاءة في العلوم قد أدى -إلى حد ما- إلى ترويضِ بابل البدائية، باستثناء اللغة الروسية التي اخترقت المجال لتصبح لغة مهمة (وإن كانت أقل بكثير في الاستخدام) للنشر العلمي. اشتكى أنصار “اللغات الثانوية” باستمرار من الاستبعاد، بينما تذمّر مُتحدثو اللغات الثلاث الأساسية بشأن اضطرارهم إلى تعلم اللغتين الأخريين.
كانت اللغات الثلاث عبئًا بلا شك، ولذا كان هناك دعاةٌ لاستخدام لغة واحدة فقط للتعلم العلمي، مُستشهدين على وجه التحديد بالعالمية والحياد الملحوظ الذي تمتعت به اللغة اللاتينية في القرون السابقة. لقد دعوا لاستخدام لغة الاسبرانتو وقدموا حُججًا مقنعة، وهي الحججُ نفسها التي تسمعها عن اللغة الإنجليزية اليوم. حتى أن الإسبرانتو وجدت بعض الداعمين والمستخدمين من البارزين، مثل ويلهيلم أوستوالد، الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1909، وأوتو جسبرسن ، عالم اللغات الدنماركي، لكن سرعان ما تم استبعادهم على أنهم حالمون طوباويون \ خياليون، حتى مع تحول حماسهم إلى مشاريع أكثر غرابة لخلق لغة اصطناعية. كان واضحًا للجميع أن العلم لا يمكن أن يظل بمسعى متعدد اللغات.
ومن الواضح -بالتالي- أن شيئًا ما تغير. نحن نعيش الآن في عالم أحلام الاسبرانتيين (متحدثي لغة الاسبرانتو)، ولكن اللغة العالمية للعلوم الطبيعية هي اللغة الإنجليزية، وهي اللغة الأم لبعض الدول القومية القوية جدًا، ونتيجة لذلك ليست محايدة على الإطلاق. ماذا حدث لنظام العلم متعدد اللغات؟ لقد انهار. بشكل أكثر دقة، لقد تم تدميره. عندما اندلعت الحرب العظمى في صيف عام 1914 بين القوى المركزية (بشكل أساسي، ألمانيا والنمسا-المجر) والوفاق الثلاثي (بريطانيا وفرنسا وروسيا)، كان من بين الضحايا الأولى مُثل الأُمَمِيّة الفاضلة. وانضم العلماء الألمان إلى مفكرين آخرين في تمجيد أهداف الحرب الألمانية مما شد انتباه الفرنسيين والبريطانيين.
بعد الحرب، بدأ مجلس البحوث الدولي الذي تم تشكيله تحت رعاية الوفاق المنتصر، بمقاطعة العلماء من دول المحور المركزي – والذي أصبح يضم الولايات المتحدة ولكن باستثناء روسيا، التي انزلقت في دوامة الثورة البلشفية -. أقيمت مؤسسات دولية جديدة للعلوم في أوائل عشرينيات القرن الماضي لتهميش العلماء الناطقين بالألمانية المهزومة، مما أشعل الفتيل -الذي تأخر وقته طويلًا- و الذي سيساهم في العقود القادمة في موت الألمانية كلغة علمية رائدة. وانخفض عدد اللغات، في جزء من أوروبا، من ثلاث لغات إلى لغتين، فكان رد الألمان على هذا التهميش هو التزامهم بالمحافظة على استخدام لغتهم الأم. كان النظام متعدد اللغات قد بدأ في الانهيار، لكن الأمريكيين هم من قاموا بتدميره.
أصبحت الألمانية مُجَرَمة في خضم هياج “رهاب الألمان”، والتي تبعت دخول الولايات المُتحدة الأمريكية الحرب في أبريل 1917. تراجعت كُل من ولاية آيوا وأوهايو ونبراسكا وغيرها عن استخدام ما كانت تُعتبر اللغة الأكثر استخدامًا إلى جانب اللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة (نتيجة للهجرة الجماعية من أوروبا الوسطى). ونما تحريم الألمانية فقط بعد ما يسمّى “يوم الهدنة”. وبحلول عام 1923، قامت أكثر من نصف الولايات المشتركة الاتحاد بالحد من استخدام اللغة الألمانية في الأماكن العامة عبر خطوط التلغراف والهاتف، وفي تعليم الأطفال.
ألغت المحكمة العليا في ذلك العام هذه القوانين، في قضية تاريخية هي قضية ماير ضد نبراسكا، لكن الضرر كان قد وقع. تم القضاء على تعليم اللغات الأجنبية، حتى بالنسبة للفرنسية والإسبانية، ونشأ جيل كامل من الأمريكيين، بما في ذلك علماء المستقبل، لا يألفُ اللغات الأجنبية. وكان الفيزيائيون الأمريكيون قادرين على قراءة الأوراق الألمانية، عندما نَشرَ علماء الفيزياء الألمان والنمساويين عن ميكانيكا الكم الجديدة في منتصف عشرينيات القرن الماضي، فقط لأنهم كانوا لا يزالون مضطرين لعبور المحيط الأطلسي لإكمال الدراسات العليا في فايمار بألمانيا، وتعلموا اللغة للضرورة.
ولكن سُرعان ما تغير مُعدل السفر، عندما قام أدولف هتلر في عام 1933 بفصل الأساتذة ذوي الميول اليسارية والذين لا ينتمون إلى العرق الآري، مما أدى إلى تدمير العلوم الألمانية. واجه العلماء اليهود، الذين حالفهم الحظ بالهجرة في الثلاثينيات، عددًا من التحديات. ومنهم كورنيليوس لانوس، أحد المساعدين السابقين لألبرت أينشتاين، فقد واجهته صعوبة في النشر باللغة الإنجليزية بسبب الموضوع الذي يعرضه، وبسبب العذر المعروف وهو استخدام “اللغة السيئة”، على الرغم من أنه أخضع النص إلى مراجعة مُفصّلة من قبل أصدقاء موثوقٍ بهم. حتى أينشتاين -نفسه- اعتمد على المترجمين والعمل الجماعي.
في هذه الأثناء، انتقل الفيزيائي الألماني جيمس فرانك إلى شيكاغو، وأصبح قادرًا على التأقلم مع استخدام اللغة الإنجليزية، بينما استقر ماكس بورن في إدنبرة، ونشر اللغة الإنجليزية التي تعلمها بسعادةٍ في أيام الشباب. ذكر العديد من هؤلاء الشخصيات صراعهم مع اللغة الجديدة، مثلما يفعل اليابانيون النبلاء اليوم في سيرهم الذاتية، مُشيرين إلى أهمية منشوراتهم الأولى باللغة الإنجليزية لترسيخ اكتشافاتهم وسمعتهم خارج جزر الأرخبيل. ولكننا هكذا نستبق الأحداث، فقد عطَّل هتلر في ثلاثينيات القرن الماضي مُعظم التأشيرات للطلاب الأجانب. أدى ذلك التقييد الخاص بالجامعات الألمانية إلى تهميش اللغة الألمانية، والذي اُعتبر استكمالًا فعالًا للعملية التي بدأتها الحرب العظمى.
مع تطور الحرب الباردة،أصبح النشر باللغة الروسية يُفهم على أنه موقف سياسي واضح.
أصبح الأمر بعد الحرب العالمية الثانية مُتعلقا أكثر فأكثر بالديموغرافيا والجغرافية السياسية. لم يَكُن مُتَوقعا من علماء القرن العشرين المُنتمين للإمبراطورية الأمريكية الصاعدة أن يتقنوا اللغات الأجنبية، على عكس نهج التعددية اللغوية التي اتسمت بها الإمبراطورية البريطانية مُترامية الأطراف أثناء القرن التاسع عشر. ومع ذلك، فإن الغالبية العظمى من العلماء والمهندسين السوفييت الذين انتفضوا بعد الحرب، قدّموا للولايات المتحدة منافسًا علميًا جديدًا. أصبحت اللغة الروسية ثاني أكثر اللغات العلمية انتشارًا بحوالي 25 بالمائة من المنشورات حول العالم في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، والتي أتت بعد الإنجليزية، التي استولت على 60 بالمائة من النسبة الكلية. ولكن بحلول سبعينيات القرن الماضي، بدأت تلك النسبة في الانخفاض، حيث بدأ العلماء في جميع أنحاء العالم في شقِّ طريقهم نحو اللغة الإنجليزية.
أدى العجزُ الأمريكي – أو رفضهُ – لتعلم اللغة الروسية، ناهيك عن اللغات الأجنبية الأخرى، من أجل ترسيخ علومهم، بجانب تصدير نظامٍ علمي أمريكي عبر المحيط الأطلسي إلى البلدان الناطقة بالإنجليزية وغير الناطقة بالإنجليزية على حد سواء، إلى دفع العلم لأن يصبح أحاديَّ اللغة. كما لعب استعداد الأوروبيين والأمريكيين اللاتينيين وغيرهم دوراً للانضمام إلى هذا النظام الجديد أُحاديِّ اللغة. توقف الهولنديون والاسكندنافيون الإيبيريون عن النشر بالفرنسية أو الألمانية، وتحولوا إلى اللغة الإنجليزية، نظرًا لأنهم أرادوا أن يَتمَ الاعتراف بهم من قِبلِ قادة هذا المجال. ومن المفارقات، أن النشر بأي لغةٍ أخرى غير اللغة الإنجليزية أصبح يُنظر إليه على أنه مظهر من مظاهر الخصوصية القومية: لم يَنشُر أي شخص بالفرنسية لو لم يكن فرنسيًا أصليًا؛ مع مراعاة ما يقتضيه اختلاف الحال بالنسبة للألمانية.
مع تطور الحرب الباردة، تم تفسير النشر باللغة الروسية على أنه موقف سياسي واضح. في تلك الأثناء، استمرت أجيالٌ من العلماء في جميع أنحاء العالم في تعلم اللغة الإنجليزية، لكن هذا التطور الغريب في تاريخ العلم لم يُعتَبرفي كثير من الأحيان على أنه سياسي حقًا. بحلول أوائل الثمانينات، كانت اللغة الإنجليزية تحتلُ أكثر من 80 في المائة من منشورات العلوم الطبيعية حول العالم. وهي الآن على وشك إتمام نسبة الـ 99 بالمائة.
ولكن ماذا في ذلك؟ ربما كان داعمو نظرية الفاعلية على حق، والعلم تقدم بالفعل كونَهُ يعتمد في تواصله على لغة واحدة، وعلى هذا الأساس يمكن تفسير الازدهار العلمي الحديث. ومع ذلك، يجب علينا أيضًا تقدير التكاليف. كاد ديمتري مندليف أن يفقدَ مجهودهُ في تطويره للجدول الدوري لأنه نُشر باللغة الروسية وليس الألمانية. واليوم، يؤدي النشر في أي مجال سريعِ التطور بأي لغة غيرِ الإنجليزية – وفي أي جريدة غير رائدة – إلى تجاهل العمل بأكمله.
غالبًا ما ينشر علماء الرياضيات الفرنسيون بلغتهم الأم بفخر، حيث تُساعِد الشروح التفصيلية الناطقين بالإنجليزية على فهم البراهين. ولكن، لا يمكن تخيل هذا النوع من الرفاهية في العلوم التجريبية ذات المعادلات المحدودة. كم عدد الطلاب الواعدين الذين تم استبعادهم من مهنة علمية لأنهم يجدون صعوبة في تعلم اللغة الإنجليزية، وليس مع حساب التفاضل والتكامل متعدد المتغيرات؟ تُصبح المشكلة أكثر حدةً مع تحول إنتاج الكتب المدرسية في العالم إلى اللغة الإنجليزية، حتى بالنسبة للمدارس الثانوية: فمعايير السوق ببساطة لن تدعم كتب علم الأحياء الدقيقة المكتوبة بالتشيكية أو السواحيلية. العلم الأحادي له ثمن.
ومع ذلك، فإنه بمجرد إنشائه فإنه يبدو مستقرًا نوعًا ما. ولكن، يَصعُب التكهن بمستقبل اللغات العلمية عندما يكون الحاضر في حد ذاته لم يشهد له التاريخ مثيلًا. لم يكن هناك من قبل، نظام أحاديُّ اللغة للتواصل العلمي، ناهيك عن ذلك كونه النظام الذي يصل إلى كل ركنٍ من أركان العالم، مع كون اللغة الافتراضية هي اللغة الأم للطاغوت العسكري والاقتصادي.
إلا أن هُناك شيئان أكيدان يمكن الإشارة لهما. أولاً، يتطلب الحفاظُ على نظام أحاديِّ اللغة على هذا النطاق قدرًا كبيرًا من الطاقة، مع إمدادِ البلدان غير الناطقة بالإنجليزية بمواردَ هائلة في التدريب اللغوي والترجمة. ثانيًا، إذا قُدرواختفت الدول الناطقة بالإنجليزية غدًا فستظل اللغة الإنجليزية لغةً علمية مهمة، وذلك ببساطة بسبب الرسوخِ و الجمود الهائل لما هو موجود بالفعل. يدعم تأثير الترسيخ -الذي يبني العلماء بموجبه على المعرفة السابقة- كلاً من الأنظمة السابقة متعددة اللغات، والنظام الحالي أحاديِّ اللُغة.
فقط اسأل أقرب عالمة. سوف تفهمك.
بقلم: مايكل دي جوردين | ترجمة: سلمى سلطان | مراجعة: سحر عثماني | تدقيق لغوي: وفاء المعمرية | المصدر