يجب أن أرتدي غمامات، فالمستقبل مشرق جدًا

كتب كيفن كيلي في مقاله عن قضية الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لوييرز في حديثه عن الإنترنت قائلًا: “هذه هي البداية فقط، فالحدث الرئيسي بالكاد قد بدأ”. وإذا بَدَت كلماته مألوفة فذلك لأن عبارة “البداية فقط” أصبحت عبارة كيلي المشهورة التي جعلها أداة بلاغية يزخرفها كقبعة الساحر ليجذب أعين القراء بعيدًا عما يحدث في الحقيقة. عودةً إلى عام 2005 في قصة ويردز(We Are the Web ) كتب كيلي قائلًا: “إنها البداية فقط”. ثم ازداد حماسةً وكتب الحرف الأول من كلمة “البداية” بحرف استهلالي. وفي عام 2016 كرر ذلك في كتابه The Inevitable وقال: “لا يزال الإنترنت في بداية مطلعه”، ثم قال: “البداية بالطبع هي مجرد بداية”.

وأتوقع أن يُضمَّن كيلي عبارة “ستبدأ بداية البداية قريبًا” في كتاباته القادمة.

هذه ليست البداية، وإنما مطلع البداية. فقد اعتدنا على استخدام أجهزة الحاسب الآلي منذ فترة طويلة وأصبحت معالم العصر الرقمي واضحة لدينا.

وقد انتشرت أجهزة الحاسب الآلي في الفترة المزدهرة من خمسينات القرن الماضي. وشاع استخدام أجهزة الحاسب الآلي الشخصية منذ أواخر عام 1970 ميلادي. وفي أواخر عام 1985 ميلادي، بدأ استخدام التواصل الإلكتروني بعد إطلاق خدمة Well. وكان الويب موجودًا منذ حوالي ربع قرن. وتم البدء في استخدام الرسائل النصية في الهواتف المحمولة في عام 1984. إذ أُطلِق أول هاتف محمول ذكي من نوع بلاك بيري في عام 2002. وفي عام 2007 ظهرت أجهزة الآيفون الذكية. وقد اشتهرت شبكة MySpace الاجتماعية منذ 15 عامًا. وفي عام 2004 تم البدء باستخدام شبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك. وبالنظر إلى النتائج المترتبة على وسائل التواصل عبر أجهزة الحاسب الآلي منذ بداية القرن، فإننا نرى أن الاختلاف يظهر في درجة الاستخدام وليس نوع الوسيلة المستخدمة.

وقدّم الناقد التكنولوجي مايكل ساكاساس قبل بضع سنوات مصطلح “Borg Complex” لوصف موقف وبلاغة الطوباويين في العصر الحديث الذين يعتقدون أن تكنولوجيا الحاسب الآلي هي قوة خير لا يمكن إيقافها، وأن أي شخص يُضادّ هذه الفكرة أو يتطلع بعين ناقدة إلى توسيع الهيمنة الرقمية هو أحمق مظلل. وعلى سبيل المثال، يعتبر البورجريين من السبّاقين لنشر ادعاءات هائلة حول الفوائد القادمة للتكنولوجيا الحديثة. كما حدث سابقًا مع الموك ((MOOCs: Massive Open Online Courses MOOcs) المساق الهائل المفتوح عبر الإنترنت. هو مساق تعليمي حديث وناشئ في مجال التعليم عن بعد ويستخدم الإنترنت كأسلوب تعليمي). في حين رُفِضَت الإنجازات الثقافية السابقة وتم ازدرائها، وعلّق أحدهم قائلًا “أنا حقًا لا أهتم إن انتهى عصر الروايات الأدبية”.

وأود أن أضيف إلى قائمة ساكاسا الخاصة بالأدوات البلاغية المشوشة تأكيدًا على أننا “في البداية فقط”. ومن خلال إدامة إنعاش الوهم بأن التقدم على وشك الحدوث، فإن عشاق الأجهزة الذكية مثل كيلي قادرون على التقليل من المشاكل التي يسببها التقدم. ويمكن تفسير أي تأثير سلبي ورفضه لاحقًا باعتباره مجرد خلل مؤقت في النظام سيصلحه مهندسونا الأخيار قريبًا. وبالنظر إلى ردود مارك زوكربيرج حول مشاكل الفيسبوك على مر السنين ستجد أن جميعها تتمحور حول هذا الموضوع. ومن هذا المنظور، فإن أي محاولة لوضع قيود على التكنولوجيا أو شركات التكنولوجيا لن تؤخذ بعين الاعتبار. ومن المحتمل أن تكون هناك عرقلة كارثية لمسيرة التكنولوجيا نحو مستقبل أكثر إشراقًا للجميع. وأما ما يسميه كيلي “الازدهار الطويل” فإنك لم تر منه شيئًا بعد. لذا، ابق بعيدًا عن طريقنا ودعنا نقوم بسحرنا.

وجادل المؤرخ الكندي هارولد إينيس في كتابيه Empire and Communication 1950 وThe Bias of Communication 1951 قائلًا : إن جميع أنظمة الاتصالات تتضمن بعض النزعات التي تشكل الكيفية التي يتواصل بها الناس وبالتالي كيف يفكرون. ويمكن لهذه النزعات أن تترك أثرًا بالغًا على نظام المجتمع وسير التاريخ على المدى الطويل. وتبدو لي “النزعة” المصطلح الأمثل؛ لأن الوسائل الإعلامية التي نستخدمها تدفعنا للتواصل بطرق معينة تعكس ضمن أشياء أخرى أعمال التقنيات الأساسية والمصالح المالية والسياسية للتجارة والحكومات التي تصدر هذه التقنيات. وكمثال مهم على ذلك هو الطريقة التي استُخدِمَت لتغيير المراسلات الشخصية من خلال الانتقال من الرسائل البريدية إلى رسائل البريد الالكتروني عبر الإنترنت، وصولًا إلى الرسائل النصية التي توصَّل عبر الهواتف الذكية. غير أن آثار هذه المحاباة ليست حتمية، ولكنها يمكن أن تصبح كبيرة وتوجيهها يتطلب الوعي والمقاومة بالطبع.

وخلال فترة طويلة من هذا العام كنت أستكشف النزعات الخاصة بوسائل الإعلام الرقمية محاولًا تتبع الضغوطات التي تفرضها وسائل الإعلام علينا كأفراد وكمجتمع. وعلى الرغم من بُعد المسافة التي تفصلني عن الانتهاء من ذلك، إلا أن حقيقة وجود أنظمة المحاباة كانت واضحة بالنسبة لي، وقد أثبتَتْ وجودَهَا بطرقٍ جلية. ومن هنا يتضح لنا أننا لا نتجاوز البداية فحسب، بل يمكننا أيضًا أن نرى إلى أين نتجه وأين سيستمر توجهنا إذا لم نُعِد ترتيب مسارنا بوعي.

هل توجد نزعة لتقدم أنظمة الاتصالات؟ يجادل محبو التكنولوجيا، مثل كيلي على وجود نزعة تسعى لتأمين المزيد من الحرية والديمقراطية والتآلف الجماعي. وقد تصورنا هذا المشهد المشرق إلى حدٍ كبير كمجتمع واحد، وكان لهارولد إينيس منظور آخر تمامًا. إذ قال في كتابه The Bias of Communication “اتجه نحو مشكلات الفهم المتزايدة” وتابَعَ قائِلًا: “تتميز تقنية النطاق الواسع للمعرفة بمنافسة غير متكاملة، والعمل النشط للاحتكارات التي تحدث في اللغة والتي تحجب الفهم وتُسرّع محاولات الإقناع”. وبالنظر إلى الأحداث الأخيرة، أشعر أن إينيس سيصبح أكثر موثوقية وتصديقًا.

 

بقلم : نيكولاس كار | ترجمة : عزة الغافري | ضبط الترجمة : زيانة الرقيشي | الضبط اللغوي : أفراح السيابي | المصدر

Exit mobile version