هواوي وتقنية الجيل الخامس 5G والرجل الذي أصمت الضجيج

أتاح اختراع نظري مُبهم لعالِم تركي آفاقاً أوسع أمام عملاق التقنية الصيني لفرض سيطرته على المستقبل. ومن جهة أخرى، لم يكن أمام شركات التقنية الأمريكية أية فرصة لاغتنامها.

 

“مدينة شنجن في شهر يوليو.. بطقسها حار وأشجارها المُفعمة بالحياة…”

هكذا يبدأ الصوت الجهير المصاحب لمقطع فيديو لشركة الاتصالات الصينية العملاقة هواوي لصيف 2018م منشور على يوتيوب. يوثق الفيديو احتفالًا للشركة بأسلوب مبتذل قليلًا لفيلم تعليمي يعود لحقبة الستينيات. يبدأ المقطع بلقطة جوية من طائرة مسيرة لمقر هواوي؛ جزيرة خضراء جميلة تحيط بها مباني المدينة الشاهقة التي تعرف بوادي السليكون الصينية.
وفي الخلفية، تصدح أنغام مقطوعة أوركسترالية تشبه مقطوعة “Turkish March” لبتهوفن فيما تدخل سيارة إلى مقر هواوي وتتوقف أمام مبنى أبيض مهيب يجمع في تصميمه بين العمارة الإغريقية التقليدية والأسطح الواسعة المتدلية لمعابد الصين العظيمة، وملامح من البيت الأبيض.

يقترب اثنان من الخدم يرتديان لباسا أبيض فور وصول السيارة. يفتح أحدهما الباب الخلفي. ويتقدم جو بينغ، أبرز رؤساء هواوي بالتناوب مصافحًا الضيف فور اقترابه. يدخل الرجلان المبنى الفخم المبلّط بالرخام بعد المشي على سجاد أحمر، يرتقيان درجًا ويعبران الأبواب الفرنسية إلى صالة فخمة بينما يقف المئات من الناس يصفقون بحفاوة.
يُّرحب بالضيف مؤسس هواوي رين تشنغ فاي الذي توحي سترته الزرقاء كزرقة السماء وبنطاله الأبيض بأنه قد بلغ من السُلطة ما بلغ ليرتدي ما يحلو له.

وبعد سلسلة من الخطابات التي يقدمها مجموعة من المديرين التنفيذيين بحللٍ سوداء داكنة، يتقدم رين الذي يُعد بمثابة بيل غيتس ولي لاكوكا ووارن بافيت مجتمِعيِن إلى المنصة. تدخل ثلاث سيدات يرتدين زيًا أبيض، ملوحات أذرعهن بطريقة عسكرية بينما يقتربن من المسرح ثم يغيرن اتجاههن باتساق فيما تحمل إحداهن ميدالية ذهبية مؤطرة بحجم صحن سلطة.
تُصوِّر الميدالية المُطعمة بكريستالة حمراء من Baccarat إلهة النصر؛ إذ صنعتها مؤسسة عملة باريس. ويبدو رين وكأنه يتوهج أثناء تقديمه الميدالية للضيف.

وليس ضيف الشرف هذا زعيمًا أو رجل أعمال مليونيرًا أو بطلَ حرب، بل هو أكاديمي تركي غير معروف تقريبًا اسمه إردال أريكان. كان يجلس متصلبًا في مكانه خلال مراسم الاحتفال مرتديًا بدلة لا تناسبه وكأنه شخص معتاد على حضور المسرح إلا أنه فجأة أعطي دور البطولة في مسرح برودواي.

إلا أنه ليس بشخصٍ عادي، فمنذ عشر سنوات حقق اكتشافًا مهمًا في مجال نظرية المعلومات. فشرعت هواوي بتسليط الضوء عليه بعد أن طواه النسيان باستثمار ضخم وتخصيص رواد المهندسين لتصميمه وإعطائه قيمة في عالم التجارة.
ازدادت بعدها الشركة قوة، وتفاوضت لتحقيق ذلك الاختراع ليكبر ويصعب رفضه؛ تقنية الجيل الخامس 5G التي تنتشر في جميع أنحاء العالم حاليًا.

كما رحبت الصين بصعود هواوي خلال الثلاثين عامًا الماضية كانتصار يجسد الذكاء والمثابرة. وقد تكون أكثر شركة محبوبة في الصين ومذمومة في الولايات المتحدة. وهذا ليس إلا غيضٌ من فيض لأن صعود هواوي يحمل بصمات السياسة الصناعية القومية للصين ومزاعم نزعتها لسرقة حقوق الملكية الفكرية؛ إذ اتهَمَت وزارةُ العدل الأمريكية الشركةَ بمؤامرة الاختلاس والانتهاك والعرقلة والكذب.

ومنذ وقت صدور هذا البيان، وُضِعت ابنة رين تشنغ فاي تحت الإقامة الجبرية في منزلها في ڤانكوڤر. حيث كانت في مواجهة قرار ترحيلها إلى الولايات المتحدة الأمريكية إثر مزاعم انتهاكها قرار منع التعامل التجاري مع إيران. كما حظرت حكومة الولايات المتحدة منتجات الجيل الخامس 5G من هواوي وما فتئت تمارس ضغوطها على بعض الدول لتحذو حذوها. غير أن هواوي أنكرت التهم ووصفها رين أنها سياسية.

دائماً ما تجد هواوي طريقتها الخاصة لتصفية حساباتها. فعلى الرغم من أنها تشكّل واحدة من القوى التكنولوجية في العالم؛ إلا أنها ما زالت تعاني من عقدة الدونية، إذ تنفق المليارات على الأبحاث والعلوم، لكنها لم تحظَ باحترام أقرانها في الدول الغربية واعترافهم بها ككيان قوي، كحال الصين تمامًا. لذا، عندما قدّم رين الميدالية الذهبية التي صاغتها المؤسسة الفرنسية لإردال أريكان بدا الأمر وكأنه يقوم باستفزازهم.

كان حفل التكريم بداية سطوع نجم الشركة والأمة. ولفهم السبب ينبغي لنا أن نعرف قصة الترميز القطبي (نظرية الترميز).

وُلد إردال أريكان عام 1958م وترعرع في جنوب تركيا، وهو ابن لطبيب وربة منزل. كان مولعًا بالعلوم، وعندما كان في مرحلة المراهقة علّق والده قائلًا أن حاصل جمع 2 + 2 لا يساوي دائمًا 4 في مهنته. مما أزعج إردال وجعله يعزف عن امتهان الطب. ووجد ضالته في الهندسة وحتمية النتائج الرياضية حيث يقول “أحبذ المجالات التي تحمل شيئًا من الدقة؛ إذ تُجري بعضَ الحسابات وتظهر النتائج دقيقةً وفقًا لما أدخلتَه”.

التحق أريكان ببرنامج الهندسة الكهربائية بجامعة الشرق الأوسط التقنية. ولكن في عام 1977م وفي منتصف سنته الدراسية الأولى قاطع الطلبةُ الجامعةَ جرّاء العنف السياسي الذي اجتاح البلاد.

أراد أريكان إكمال دراسته، ونظرًا لدرجاته العالية التي حققها في اختباراته تمكن من الانتقال إلى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا الذي يُعد واحدًا من أفضل المؤسسات التعليمية التي تُعنى بالعلوم في باسادينا، كاليفورنيا. وكان انطباعه عن الولايات المتحدة أنها غريبة ومذهلة في الآن ذاته. وفي أولى أيامه فيها شارك في دورة توجيهية يديرها عالم الفيزياء الأسطوري ريتشارد فاينمان، حيث كان الأمر بمثابة أخذ مباركة من قدّيس.

انغمس أريكان في مقرراته الدراسية خاصة تلك التي تناقش نظرية المعلومات. وكان ما يزال هذا المجال جديدًا، حيث أسسه كلود شانون في 1948م، وكتب ورقة علمية فيه عندما كان في مختبرات بيل ثم أصبح بروفيسورًا رائدًا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. كان إسهام شانون العلمي يُركز على الكيفية التي يمكن فيها حساب مفهوم المعلومات الغامض، وفتح آفاق أوسع لقطاع الاتصالات وتخزين البيانات.

وبعد نشر النظرية الرياضية العامة للمعلومات لتكون خارطة طريق لظهور الإنترنت والاتصالات وكل ما يتعلّق بالعصر الرقمي؛ وكأن أينشتاين قد اخترع الفيزياء ونظرية النسبية مرة واحدة. أثار هذا المجال ذهول أريكان الذي اختار الدراسة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لإكمال دراساته العليا، وكان هذا لسبب واحد حسب قوله “لوجود بوب جالجر فيها”.

وقد كتب روبرت جالجر الكتاب الدراسي لمقرر نظرية المعلومات، كما درس على يد خليفة شانون، ووفقًا لمقاييس هذا المجال كان متقدمًا على الجميع. قال أريكان “لذا قلت لنفسي، إذا كنت أرغب بدراسة نظرية المعلومات فإن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا هو ملاذي الأول “.

وفي الوقت الذي التحق فيه أريكان إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في 1981م، كان جالجر قد حوّل تركيزه نحو كيفية عمل شبكات البيانات. وعندما توجه أريكان لمكتب جالجر للمرة الأولى كان يرتجف. وأعطاه البروفيسور ورقة علمية عن حزمة الشبكات اللاسلكية.

وقال جالجر “كنت أحاول حثه بأن ينتقل من التركيز على نظرية المعلومات الدقيقة إلى مشكلات الشبكات، حيث أصبح جليًا للجميع أن الأمر أكثر من مجرد إرسال بيانات من جهة إلى أخرى إذ ينبغي أن يكون ثمة نظام”.

قضى أريكان 20 عامًا في دراسة مشكلات نقل البيانات. وأطلق على الحل “الترميز القطبي”. الصورة لـ BRADLEY SECKER

كرّس أريكان السنة التالية لدراسة الشبكات ولكنه لم يتخلَّ عن شغفه بعلوم المعلومات. وأكثر ما استحوذ على تركيزه هو إيجاد حلٍ لتحدٍ أورده شانون في ورقته العلمية في 1948م. يتلخص التحدي في كيفية نقل المعلومات الدقيقة بسرعة عالية تغلب الضجيج الذي لا مناص منه خلال عملية نقل هذا الكم من البِتَّات.

وتُعرف هذه المشكلة باسم سعة القناة، ووفقًا لشانون تمتلك كل قناة من قنوات التواصل نوعًا من السرعة المحددة لنقل المعلومات بشكل موثوق. ويُشار إلى هذه الحدود النظرية بعيدة المنال بحد شانون.

ولطالما عانى جالجر مع حل حد شانون في بداياته ولكنه اقترب، وأطلق على نهجه النظري الذي يُحتفى به “رموز التحقق من التكافؤ منخفضة الكثافة” أو LDPC وهي بعبارات بسيطة طريقة فائقة السرعة في تصحيح الأخطاء. على الرغم من أن رياضيات رموز التحقق من التكافؤ منخفضة الكثافة مبتكرة إلا أن جالجر توصّل حينها إلى أنها غير مجدية تجاريًا.

يقول جالجر “كانت أكثر تعقيدًا بالنسبة لتكلفة العمليات المنطقية اللازمة”، كما أنه اكتشف برفقة بعض من في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أنهم اقتربوا جدًا من حد شانون، ثم مضى قدمًا. حيث فتر الحماس بشأن نظرية المعلومات في المعهد في الثمانينيات.

ولكن ظلت شعلة حماس أريكان متقدة؛ فأراد أن يحل المعادلة التي تحول بينه وبين الوصول لحد شانون. حتى عندما عاد يواصل أطروحته حول مشكلة الشبكات التي وجّهه جالجر إليها، اغتنم مقالة تضمنت تصحيح الخطأ، ويقول بهذا الشأن “عندما تعمل على ترميز تصحيح الخطأ فأنت في وسط نظرية شانون”.

أنهى أريكان أطروحة الدكتوراه في 1986م وعاد إلى تركيا بعد مهمة قصيرة في جامعة إلينوي، والتحق بجامعة بيلكنت وهي أول جامعة خاصة غير ربحية للأبحاث في البلاد، وتقع في أطراف أنقرة. ساهم أريكان في تأسيس كلية الهندسة كما أنه درّس فيها ونشر بعض الأوراق العلمية.

ولكن أتاحت له جامعة بيلكنت أيضًا إكمال معركته غير المجدية على الأرجح مع حد شانون. يقول أريكان “إن أفضل الباحثين موجودون في أمريكا، ولكن لمَ لا يُمضون عقودًا في إيجاد حلٍ للمشكلة ذاتها؟ لأنهم لن يتمكنوا من حيازة حقوق الملكية، ولن يتمكنوا من الحصول على تمويل لأبحاثهم”. وعوض التقدّم بأعماله بتمويل ضئيل باشر رحلة بحثه الدؤوب وسيكون ذلك عمله للعشرين سنة القادمة.

في 2005م جاءته لحظة الإلهام، إذ دفعه سؤال طُرح في رسالة من ثلاث صحفات كتبها عالم معلومات روسي في 1965م، فأعاد أريكان صياغة المشكلة. “يكمن مفتاح الاكتشافات في النظر إلى أماكن وجود التناقضات، فهي كالجبل الجليدي؛ إذا لم تشعر بالرضا فانظر عن كثب، من المحتمل أن تجد كنزًا حقيقيًا تحتها”.

وكان هدفه هو نقل البيانات بدقة وبأقصى سرعة ممكنة عبر قناة ذات ضجيج. الكلمة المفتاحية هنا “بدقة”. إذا لم تكن تهتم بالدقة يمكنك أن ترسل رسائل دون عائق، ولكن إن كنت تريد أن يحظى المتلقي بنفس البيانات التي أرسلتها، ينبغي لك أن تُدرج نوعًا من الدعم الاحتياطي للبيانات. مما يعطي المتلقي وسيلة للتحقق من البيانات والتأكد من أنها تطابق ما أرسلْته فعلًا. وبالتأكيد يعمل ذلك التحقق الإضافي على إبطاء العملية؛ ويُعرف هذا بمشكلة ترميز القناة. وكلما زاد مستوى الضوضاء زادت الحاجة للدعم الاحتياطي لحماية البيانات. وكلما زاد الدعم الاحتياطي للبيانات أصبح معدل النقل بطيئًا.

وتحاول مشكلة الترميز التغلب على التبادل وإيجاد طرق لتحقيق نقل آمن للمعلومات وبأقصى سرعة ممكنة. ويتحقق معدل السرعة الأمثل من خلال حد شانون- أفضل سبل ترميز القناة.

يكمن مفتاح الاكتشافات في النظر إلى أماكن وجود التناقضات، فهي كالجبل الجليدي؛ إذا لم تشعر بالرضا فانظر عن كثب، من المحتمل أن تجد كنزًا حقيقيًا تحتها إردال أريكان

 

وتمثّل حل أريكان في إنشاء قنوات شبه مثالية بعملية تُسمّى استقطاب القناة حيث تُنقل الضوضاء من قناة إلى نسخة من القناة ذاتها لإنشاء نسخة أكثر دقة منها ونسخة أخرى أقل دقة.

وبعد سلسلة متكررة من الخطوات السابقة يتشكل نوعان من القنوات؛ أحدها ذا ضوضاء عالية والآخر دون ضوضاء تقريبًا. ويمكن للقنوات الخالية من الضوضاء أن تحقق حد شانون، وأطلق على حلّه الترميز القطبي. وكأن الضوضاء فيه نُفيت إلى القطب الشمالي مما يتيح المجال لخدمة اتصالاتٍ نقيةٍ وواضحةٍ في القطب الجنوبي.

وبعد هذا الاختراع، أمضى أريكان عامين آخرين في تنقيح التفاصيل. إذ قرأ أنه قبل أن ينشر شانون ورقته العلمية في نظرية المعلومات، كان مشرفه في مختبرات بيل يعرج عليه سائلًا ما إذا كان الباحث قد توصل إلى شيءٍ جديد.

يقول أريكان ضاحكًا “لم يذكر شانون نظرية المعلومات قط، أخفى أعماله ولم يفصح عنها” وكان هذا دأب أريكان أيضًا. “سررت بمعرفة أن لا أحد في العالم كان يعمل على حل هذه المشكلة لأنه لم يكن مجالًا مألوفًا”.

وفي عام 2008م وبعد ثلاثة أعوام من لحظة إلهامه، عرض أريكان أعماله أخيرًا؛ مدركًا أهميتها منذ البداية. وعلى مر السنين، كان يترك أعماله غير المنشورة في ظرفين يطلب إرسالهما إلى “كبار زملائي الذين أثق بهم، في حال لم أعد”.

في 2009م، نشر ورقته البحثية النهائية في أرقى مجلة في هذا المجال؛ IEEE Transactions on Information Theory، ولم تجعل منه مشهورًا فعلًا إلا أن الترميز القطبي أحدث ضجة بين المجتمع الصغير لنظرية المعلومات. وسافر أريكان إلى الولايات المتحدة لإلقاء سلسلة من المحاضرات. (يمكنك أن تشاهدها على يوتيوب؛ يبدو فيها الطلبة ضجرين إذ تستهدف مستوىً عاليًا في الرياضيات).

يفخر أريكان بإنجازه وله الحق بذلك، ولكنه لم يعتقد يومًا أن يكون للترميز القطبي قيمة عملية. إذ كان حلًا نظريًا حتى لو تم تطبيقه فمن غير المرجح أن ينافس رموز تصحيح الأخطاء الموجودة. حتى أنه لم يُتعب نفسه في الحصول على براءة اختراع.

في 1987م، في الفترة التي عاد بها أريكان إلى تركيا، أسس رين تشنغ فاي، المهندس العسكري السابق ذو الـ 44 عامًا، شركة تتاجر بأجهزة الاتصالات. وأطلق عليها اسم هواوي والذي يعني تقريبًا “للصين مستقبل واعد”. وحاول رين أن يُميز شركته من خلال الحفاظ على تفانيه التام لخدمة العملاء.

ولخيبة أمله من عدم موثوقية الموردين قرر رين أن تبدأ هواوي بتصنيع أنظمتها الخاصة. وبدأ مشواره الطويل في تحويل شركة هواوي لتكون شركة تُنتج أجهزة اتصالات وتبيعها؛ بدءًا من المحطات الرئيسية إلى الهواتف المحمولة وليس في الصين فقط بل في كل أنحاء العالم.

نُقلت قصة هواوي في كتب تبالغ في المدح تنشرها الشركة في مكتبة صغيرة، بالإضافة إلى عدد من المجلدات التي تحمل اقتباسات مؤسسها. ومن الصعب أن تخطئ موضوع هذه الرائعة الأدبية إذ عُبّر عنها بأمثلة كفاحية متعددة.

في وصفه لمنافَسة هواوي للشركات العالمية الكبرى، قال تيان تاو وهو كاتب السيرة الخاص بالشركة مقتبسًا حديث رين “ليست هواوي بحجم الشركات العملاقة (الفيلة)، لذا عليها أن تتبنى بعض صفات (الذئاب)؛ حاسة شم عالية، وطبيعة تنافسية قوية، وروح الفريق والتضحية”.

حَذفت السيَرُ بعضَ التفاصيل عن كيفية اندماج هواوي (الذئب). لاستهانتها بشكل كبير بدور الحكومة الصينية التي عرضت قروضًا ودعمًا ماديًا في التسعينيات، بالإضافة إلى السياسات التي فضّلت شركات الاتصالات الصينية على شركات أجنبية أخرى.

(وفي تصريح نادر حول هذه القضية، قال رين أن هواوي ما كانت لتتواجد اليوم لولا الدعم الحكومي). فبدعم الحكومة لهم هيمنت شركات مثل هواوي ومنافستها ZTE على سوق أجهزة الاتصالات المحلية، وأصبحت شركة هواوي (الفيل).

وحول قضية أخرى لن تقرأ عنها في مكتبة الشركة هي مزاعم سرقة حقوق الملكية، وهي تُهم تنفيها الشركة. يقول براين تشامبرلين “إذا اطلعت على تقارير الإعلام الغربي عن هواوي، ستجد العديد من الناس يزعمون أن كل شيء من هواوي إما اُستجدي أو أُقترض أو سُرق؛ إلا أن كل ذلك عارٍ عن الصحة”. ولكن في قضية 2003م المشهورة، اعترفت هواوي باستخدامها لبرمجية جهاز توجيه مقلَّد من سيسكو Cisco، ورغم أنها أصرت أن الاستخدام كان محدودًا إلا أن الطرفين توصلا إلى تسوية “بفائدة متبادلة”.

وفي قضية مشابهة مؤخرًا، في فبراير2020 ، رفعت وزارة العدل الأمريكية دعوى ضد الشركة تتهمها “بتوسيع أعمالها حول أنحاء العالم من خلال سرقة حقوق الملكية المتعمَّد والمتكرر”. وتزعم التهم أن هواوي بدأت الانخراط بمثل هذه الممارسات منذ عام 2000م على الأقل.

كما دعمت الحكومة الصينية هواوي لتساعدها على الحصول على موطئ قدم خارج الصين من خلال تقديم القروض للعملاء الذين ساهموا في جعل منتجات هواوي أكثر جاذبية. واحدة من أكبر المنافسين الأجانب لهواوي هي شركة نورتل Nortel للاتصالات؛ الشركة المهيمنة في أمريكا الشمالية وموقعها كندا.

إلا أن نورتل Nortel كانت تعاني في الوقت الذي اشتدت المنافسة من المنتجات الصينية. ثم في عام 2004م، اكتشف براين شيلدز وهو خبير أمني في نورتال أن كلمات مرور خاصة بمدراء تنفيذيين بنورتل استُخدمت في أجهزة حاسوب في الصين لتحميل المئات من المستندات الخاصة بالشركة.

وقال شيلدز “استولوا على كل شي”. ولم تُحدَّد هوية المخترقين علنًا، بالإضافة إلى أن رين نفى تورط هواوي في الحادثة، وأدى الأمر إلى اشتباه الغرب بنجاح هواوي وأن انجازاتها لم تكن دائمًا قانونية.

في عام 2009م أعلنت نورتل إفلاسها؛ فقد أخفقت في التأقلم وخيّبت آمال عملائها ولم تكن مستعدة للتصدي لمنافستها الصينية الجديدة، ناهيك عن حادثة الاختراق. فانتهزت هواوي الفرصة. تُعد المواهب الفريدة العاملة في مختبر أبحاث أوتوا ثروة قيمةً لنورتل، إذ تُعرف بكونها النظير الكندي لمختبرات بيل.

ولسنوات عملت هواوي على بناء سعة أبحاثها في محاولة للتخلص من سمعتها كمزود خدمة منخفضة التكلفة جاءت تقنياته نتيجة استيلائه على اختراعات الآخرين. كما أنها تمتلك مختبرات بحث وتطوير في أنحاء العالم. ومع إفلاس نورتل يمكنها الآن أن تسعى خلف ما هو أكبر من حصتها السوقية- الغموض التقني والاعتبار.

نشأ رئيس الأبحاث في مختبر أوتوا التابع لنورتل وين تونغ في الصين والتحق بمختبر نورتل اللاسلكي في عام 1995م بعد أن حصل على درجة الدكتوراه من جامعة كونكورديا في مونتريال. وله إسهامات في كل أجيال التقانة المحمولة، وحاز على 470 براءة اختراع في الولايات المتحدة الأمريكية.

وإذا نظمت شركات الاتصالات مشروع عالم أبحاث في عام 2009م سيكون وين تونغ أول المختارين. كان عالمًا مستقلًا تطلب ودّه شركات من مثيلات غوغل وإنتل وغيرهما.

لكن تونغ اختار هواوي حيث أراد أن يُبقي علماء الشبكات سوية كما أنهم لم يرغبوا بمغادرة كندا. سُرّت الشركة الصينية بتوظيف الفريق وسمحت لهم بالمكوث، ومنحتهم حرية العمل على أكبر تحدٍ في علوم الشبكات في القرن الواحد والعشرين؛ إنشاء بنية تحتية للجيل الخامس. وبهذا التكرار للمنصات المتنقلة ستتصل مليارات من الأجهزة المحمولة بالشبكة بسلاسة.
ووعدت بإحداث نقلة نوعية في العالم بطريقة لم تخطر حتى على العلماء أنفسهم، وستدر أموالًا طائلة لمن عملوا على إنتاج هذه التقنيات. كما سيشتد التسابق على حيازة براءات الاختراع وليس لأسباب مالية فقط بل من أجل المفخرة الوطنية.

وبعد انضمام تونغ لهواوي بفترة وجيزة عام 2009م، لفتت ورقة بحثية انتباهه وكانت لاختراع الترميز القطبي لإردال أريكان. ساهم تونغ سابقًا في إنتاج تقنية لتصحيح خطأ البث اللاسلكي وفقًا للمعايير الحالية تُسمّى رموز توبرو.

لكن العواقب كانت كثيرة ولم يستطع تونغ وقتها إثارة اهتمام الباحثين الكنديين ليعملوا على حل المشكلة. ثم في عام 2012م، طلبت هواوي من تونغ أن يُعيد تشكيل مختبر الاتصالات في الصين، فاستغل الفرصة لتعيين عدد من المهندسين اليافعين الأذكياء للعمل على الترميز القطبي.

وتنطوي على عملية غير ممكنة تتمثل بتحويل نظرية رياضية إلى تصميم عملي، لكنهم أحرزوا تقدمًا وكبر الفريق. ومع كل اختراع سارعت هواوي للحصول على براءة اختراع.

في 2013م طلب وين تونغ قرضًا بقيمة 600 مليون دولار من مجلس استثمار هواوي لأبحاث الجيل الخامس. وجاء قرارهم بالموافقة؛ حسب قول تونغ “ببساطة بعد عشرين دقيقة”. وصُرف جزء كبير من ذلك المال على الترميز القطبي. وبعد أن ابتكرت هواوي برمجية لتطبيق النظرية تحول العمل إلى اختبارها وتكرار ذلك ،حتى شارك مهندسون كثر في العمل في النهاية.

ولم يكن تونغ الوحيد الذي اطلع على ورقة أريكان البحثية، إذ وصفها ألكساندر فاردي من كلية جاكوبس للهندسة في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو قائلًا “حققت ما كان يحاول الناس تحقيقه لستين عامًا”. ويكمن التحدي في أن الترميز القطبي لم يتناسب مع طول الوحدة التجميعية القصير للجيل الخامس 5G- مقدار 0 و 1 معًا. قام فاردي ومساعده الباحث أيدو تال من التخنيون-معهد إسرائيل للتقنية بتعديل تقنية تصحيح الخطأ لتتفوق في أدائها على الرموز المتطورة الأخرى عند تطبيقها على طول الوحدة التجميعية القصير للجيل الخامس 5G.

قال فاردي بأنه عرض ما توصّل إليه في مؤتمر في 2011م، مضيفًا بلا ضغينة على ما يبدو “كانت هواوي من بين الحضور، وشرعت بعد ذلك في الأمر”. (تمتلك جامعة كاليفورنيا في سان دييغو براءة اختراع فاردي وتال ومنحت ترخيصها لشركة سامسونغ على نحو غير حصري).

أما اليوم تمتلك هواوي ثلثي حقوق ملكية “تفرعات” الترميز القطبي أي ما يعادل عشر أضعاف أقرب منافسيها. وحسب قول فاردي فإن الشعور العام في هذا المجال يكمن في “أن هواوي استثمرت وقتًا وافرًا وجهدًا جهيدًا في إجراء الأبحاث وتطوير تلك الفكرة. وبدت الشركات الأخرى متأخرة بسنوات”.

ولكن سيذهب ذلك الجهد وبراءات الاختراع تلك سدىً إن لم تتسع منصة الجيل الخامس 5G لهذه التقنية. يقول تونغ “يجب أن يتبناها الجميع كما يجب أن يقتنع من في هذا المجال أنها مناسبة للجيل الخامس 5G”.

وإذا أصبح الترميز القطبي رمزًا لسيادة هواوي، ثمة عقبة أخرى؛ إذ يقول وين تونغ “كان الأمر يقع على عاتقي لأن أجعل منها معيارًا”.

تشتد المنافسة في الرياضة ولكن ينبغي لكل الفرق أن تتفق على بعض الأساسيات مثل أبعاد الملعب. الأمر سيّان بالنسبة لمجال الاتصالات؛ يجب أن يتفق الجميع على تفاصيل المنصة المشتركة، بيد أن التوصل إلى اتفاق بالإجماع فيما يخص بعض نواحي المنصة المتنقلة أمر معقد.

وينبغي اتخاذ قرارات تخص عدة مواصفات لسرعة النقل والترددات اللاسلكية والهيكل الأمني وغيرها. وليتحقق ذلك، على المهندسين أن يلتقوا عدة مرات سنويًا ليختاروا أيًّا من التقنيات يمكن أن تُعد معيارية للجيل التالي.

المخاطر عالية: ستكون الشركات الموفرة للتقنية الأساسية للجيل الخامس 5G جزءًا لا يتجزأ من نظام اتصالات عالمي لسنوات عدة. لذا ستوضع في الاعتبار نواحٍ مالية وقومية وجغرافية سياسية.

يقول ريد هانت وهو الرئيس السابق لهيئة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية فترة حكم كلينتون: “منذ 2001م وحتى الآن وعلى مدى ثلاث إدارات لم يُعطَ الأمر اهتمامًا كافيًا”. ويُعد هانت واحد من العديد من المسؤولين السابقين الذين حذروا من أنه ليس ثمة نظير لهواوي في الولايات المتحدة الأمريكية؛ فهي شركة اتصالات كبرى تعمل على تطوير تقنيات الجيل التالي بالإضافة إلى إنتاج أجهزة منها.

وأضاف هانت “في أوروبا لديهم إريكسون وفي اليابان ثمة شركات وفي الصين لديهم هواوي و ZTE إلا أن هواوي تغطي أغلب المنتجات”. كل ذلك جعل من معايير عرض الجيل الخامس لهواوي أمرًا مثيرًا للقلق. “بروتوكولات الإنترنت لهواوي ومعاييرها هي بمثابة الوتد الذي تنوي استخدامه لفتح عالم الحوسبة الغربي”.

إن مشروع شراكة الجيل الثالث 3GPP هي الجهة التي تطور مواصفات الجيل الخامس وهي منظمة شاملة من مجموعات اتصالات متعددة. في 2016م اتخذت قرارًا مهمًا حول ما يُسمى بمعايير نظام راديو جديد بتقنية الجيل الخامس؛ والذي ساهم في تحديد كيفية نقل البيانات بتقنية الجيل الخامس وكيفية التحقق من دقتها.

وبعد إنفاق الملايين وإجراء اختبارات دامت سنين وتقديم طلبات الحصول على براءات الاختراع لن تتهاون هواوي في المرحلة الحاسمة. كانت بحاجة لاعتماد من معايير رسمية لدعم مطالبها.

ولكن المشكلة كانت في قول ناس عقلاء أنه ثمة تقنيات أخرى- بمثل كفاءة الترميز القطبي يمكنها تحقيق خاصية تصحيح الخطأ في النطاق الجديد. بينما اقترح بعضهم أن تجديد بروتوكولات تقنية الجيل الرابع الحالية (آنذاك) ورموز توربو سيكون كافيًا. فيما اقترح آخرون لاسيما شركة كوالكوم في سان دييغو التي تصنِّع رقائق للتقنيات المحمولة خيارًا آخر؛ فكرة روبرت جالجر القديمة “التحقق من التكافؤ منخفض الكثافة” التي كادت أن تحقق حد شانون وألهمت أريكان في مسيرته الفكرية.

ومنذ بدايات الستينيات عندما اقترح جالجر فكرة التحقق من التكافؤ منخفض الكثافة تحسنت التقنية ولم تعد تكلفة الإنتاج التجاري باهظة. عمل فريق البحث والتطوير في كوالكوم على تطويرها للجيل الخامس 5G. ورغم جهل أريكان بالأمر آنذاك، كان اختراعه سيواجه أعمال معلمه في منافسة تنطوي على مليارات الدولارات وتضارب دولي في السمعة.

إلا أن هواوي تمتعت بدعم الحكومة الصينية لها. قال مراقبون أمريكيون وأوروبيون إن الصين تعقد اجتماعات خاصة بالمعايير مع المهندسين ممن يمكنهم أن يكونوا مراقبين في الميدان. كما أن منافسيها يتذمرون من أن الشركات الصينية تعمل معًا في تنفيذ متزامن وحتى المنافسون الظاهريون سيضعون خلافاتهم جانبًا لدعم أعمال أبناء بلدهم.

بيد أن جدار الدعم الوطني الذي بُني كاد أن ينهار لوهلة في منتصف 2016م؛ ففي المرحلة الأولية لعملية الراديو الجديد للجيل الخامس 5G أعربت شركة لينوڤو عن تفضيلها تقنية التحقق من التكافؤ منخفض الكثافة لأنها الأكثر شيوعًا، إلا أن ذلك لم يدُم طويلًا وعدلت عن رأيها في نهاية العام.

بالإضافة إلى أن مؤسس لينوڤو ليو تشوان زي اتصل برين تشنغ فاي للتأكد من عدم شعوره بالإهانة إزاء تصريح الشركة السابق. وكتب ليو ورؤساء تنفيذيون آخرون رسالة مفتوحة بدت وكأنها اعتراف بالإكراه؛ “نتفق جميعنا أنه ينبغي للشركات الصينية أن تكون متحدة لا يثيرها الأجانب. تمسكوا بها… وارفعوا راية الصناعة المحلية لنتغلب على الشركات العالمية العملاقة”.

لذلك تأهبت الصناعة الصينية للمعركة في المرحلة النهائية والحاسمة في اجتماع معايير الهندسة في نوفمبر 2016م المُقام في رينو في ولاية نيڤادا متحدة خلف الترميز القطبي. وكان مكان انعقاده في منتجع وكازينو بيبرميل حيث لازم المهندسون قاعات الاجتماعات في الفندق يتجادلون حول رموز المجموعات وسعة القناة بعيدًا عن الاستمتاع بلعب “الكرابس” أو الاستجمام في غرف ساونا الأوكالبتوس.

متنقلين بين القاعات بسبب الاجتماعات المنعقدة في الآن ذاته والتي يعمل من خلالها المهندسون على تحديد عدد من المعايير. حيث قال مايكل ثالاندر، استشاري متخصص بالاتصالات اللاسلكية “لأن الموضوع المثير كان الترميز القطبي ضد تقنية التحقق من التكافؤ منخفض الكثافة “.

وفي ليلة الجمعة في 18 من نوفمبر، اكتظت غرفة الاجتماعات وتحول الاجتماع الذي ابتدأ مساءً إلى مواجهة. عرضت كل شركة أعمالها ونتائج اختباراتها. وقال المحلل الرئيسي كيفين كريويل الذي يتبع الجيل الخامس 5G واصفًا “كانت المواجهة محتدمة؛ بوقوف المُوَرِّدين الغرب وراء تقنية التحقق من التكافؤ منخفض الكثافة”. والجدير بالذكر أن بعض المُوَرِّدين الغرب وقفوا في صف الترميز القطبي كحال جميع الشركات الصينية.

وأضاف ثالاندر الذي كان حاضرًا وقتها “لم يكن ثمة فائز في هذه اللعبة، ولكن لم يخفَ على الجميع أن هواوي لن تستسلم” كحال الطرف الآخر، “لذا يمكننا أن نمكث هنا ونتجادل ونؤخر ظهور الجيل الخامس  5Gأو علينا أن نتوصل إلى حلٍ وسط”

وهذا ما حدث فعلًا. قسّمت لجنة المعايير معايير معالجة الإشارات إلى قسمين؛ استخدام تقنية لإرسال بيانات المستخدم واستخدام أخرى لما يعرف بقناة التحكم لإدارة كيفية نقل البيانات. وعُيّن الجزء الأول لتقنية التحقق من التكافؤ منخفض الكثافة بينما عُيّن الجزء الثاني للترميز القطبي. ولم يوضع الاتفاق في صيغته النهائية إلا في الساعات الأولى من صباح اليوم التالي.

كانت هواوي في غاية السعادة لكن هذا الفوز لم يكن لهواوي فقط بل للصين أيضًا. فأخيرًا، ستحظى شركة صينية باعتبار يتناسب مع قوتها المتزايدة التي تطغى على السوق. قال مراقب ما آنذاك “ثمة معنىً رمزي لدخول الترميز القطبي لمعايير الجيل الخامس 5G؛ هذه المرة الأولى التي تدخل فيها شركة صينية اتفاقية إطارية للاتصالات؛ مُسمِعَة بذلك صوتَها”.

وبدت شركة كوالكوم راضية بالنتيجة إذ قال رئيسها التنفيذي ستيف مولينكوف “كان من المهم أن تحصل هواوي على شيءٍ ما. وهي شركة جيدة حقًا وقوية، وأظن أن هذا أمر ينبغي للجميع أن يعترف به”. 

ومنذ اللحظة التي علمت فيها عن تقنية الترميز القطبي رغبت بمقابلة إردال أريكان، ولكنني شككت في موافقته على التحدث معي. حيث حاول صحفي سابقًا وجاء رد أريكان “لا أرغب بالتحدث عن عملي”. لقد كان متحفظًا عندما كلمته أول مرة ولكنه وافق عندما أخبرته بأني سآتي إلى أنقرة.  اصطحبني بسيارته من الفندق بعد مصافحة سريعة. وأخذ يسرد تاريخ الجامعة ونحن في طريقنا إلى تناول العشاء في مطعم للكباب.

كان موظفو المطعم يعرفونه، وتركت أمر طلب الطعام له. وبحلول الوقت الذي أقلني فيه إلى الفندق كان يتحدث بحماس عن رأيه بتقنية الجيل الخامس 5G. التقينا مرة أخرى في الصباح التالي في مكتبه بجامعة بيلكنت التي تُعد أفضل مؤسسة للأبحاث في تركيا اليوم وتضم 12000 طالب. في عام 2019م تسلّم أريكان جائزة شانون نظير عمله في الترميز القطبي. وهي أرقى جائزة في علوم المعلومات. 

وبينما كنا نتمشى في أروقة مبنى الهندسة الذي يضم القسم الذي ساهم في تأسيسه من الصفر، مررنا بصورة كبيرة مؤطرة لكلود شانون وتحتها اقتباس: “قد نعلم الماضي ولكننا لا نتحكم به، وقد نتحكم بالمستقبل ولكننا نجهله”.

أما في مكتبه، دوَّن أريكان معادلات رياضية على سبورة بيضاء ليشرح لي كيف توصّل إلى حل حد شانون، ثم تحدثنا عن هواوي. تواصلت معه الشركة لأول مرة في 2012م، حيث قال “تجاذبنا أطراف الحديث وتبادلنا الأفكار. وكان هذا أفضل تعاون بالنسبة لي حيث أبقى مستقلًا وهم يفعلون ما يشاؤون”. ولم يأخذ أي مقابل مالي من شركة الاتصالات العملاقة. 

في 2011م أسس أريكان شركته الصغيرة وعرض نظرية الترميز القطبي على شركتي كوالكوم وسي غيت Seagate  ليرى ما إذا كانتا مهتمتان بتطبيقها. “جهّزتُ عرضًا وأرسلته لهم ولكن لم تبديا اهتمامًا فعلًا”. ويلوم نفسه على إخفاقه في إثارة اهتمامهما قائلًا “كنت أكاديميًا لا يعرف كيف يروّج لفكرته. ربما لأنني لم أؤمن بها بصدق”. وعملت هاتين الشركتين لاحقًا على نظرية الترميز القطبي وحصلت كل شركة على براءة اختراع خاصة بها ولكن مع افتقارها للحماس الذي تحلّت به هواوي. “فلولا جهود باحثي هواوي الحثيثة لما استُخدمت نظرية الترميز القطبي في الجيل الخامس 5G اليوم”.

سألته عن مراسم احتفال هواوي المبالغ به والمخلّد في منصة يوتيوب، وأخبرني أنه تلقى دعوة للزيارة في يونيو 2018م. “سألتهم: ما المناسبة؟ قالوا: يود السيد رين أن يقدم لك جائزة، فأدركت أن هواوي مسرورة لأن المعيار قد وُضع ولا شك أن نظرية الترميز القطبي جزء منه”. وظن أنه سيصل وسيخوض حديثًا لطيفًا مع مؤسس الشركة وبعض المهندسين وأنه قد يحصل على لوحة ما.

وصل أريكان إلى مدينة شنزن ومكث في منزل الضيوف في حرم الشركة. واحتسى الشاي برفقة رين كما شرب المدريرون التنفيذيون الشاي على شرفه ومن ضمنهم وين تونغ.

ولكنه أحس بأن ثمة شيئًا كبيرًا يجري؛ حيث قال “كشفوا لي عن خطوات البرنامج في حينها، ولم أكن على دراية بحجم القاعة أو ما المبنى الذي سندخله ولم يخبرني أحد بأن أتأنق في لباسي”. (لكنه فعل على أية حال) وقبل الاحتفال بساعة أخبره مستضيفوه بأنه قد يحتاج لإعداد خطاب. فكتب خطابًا سريعًا في السيارة في طريقه إلى مقر الاحتفال.  

وقال في خطابه بلغة إنجليزية متعثرة “قضيت 30 عامًا في جامعة بيلكنت في إجراء البحوث حول قضايا مختلفة أفضت إلى نظرية الترميز القطبي. واليوم تلتقي طرقنا في مناسبة سعيدة”. 

أدين بالكثير للولايات المتحدة. سأسدي إليك نصيحة ودية: عليك أن تتقبل أن هذا هو الواقع الجديد وأن تتعامل معه وفقًا لذلك إردال أريكان

 

لم يؤثّر التكريم على أريكان، فأخبرني أثناء تواجدنا في مكتبه “لم تكن هواوي تُكرّمني بل كانت تقول: لم نسرق فكرة أحد وهذا صاحبها”. ولا شك أن هواوي أفضل الشركات التقنية في الصين وأكثرها تطورًا. وربما تسنى للصين للمرة الأولى منذ آلاف السنين أن تُظهر قدرتها على منافسة العالم في مجال التقنية. وقد تتقبل الولايات المتحدة سرقة الملكية الفكرية ولكن من الصعب تقبلها لمنافسة نظير قوي بمستواها. 

وأضاف “ولم تكن نظرية الترميز القطبي مهمة بل كانت رمزًا. إذ تختلف تقنية الجيل الخامس عن الإنترنت تمامًا؛ فهي كنظام عصبي عالمي وهواوي هي الشركة الرائدة فيها. وستدوم لعقود طويلة ولا يسعنا أن نقول الشيء ذاته عن شركات التقنية في الولايات المتحدة. ففي عصر الإنترنت، تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من تأسيس بضع شركات تبلغ قيمتها تريليونات الدولارات. لكن الصين ستؤسس 10 شركات أو أكثر تبلغ قيمتها تريليونات الدولارات بفضل تقنية الجيل الخامس. أصبحت هواوي والصين في الصدارة اليوم”.  

وما عادت الشركات والحكومة الأمريكية قادرة على الرد على الصين بالتهديد أو رفع أصابع الاتهام حتى لو كان لها ما يبررها. ولا ينطبق الأمر على شركات الاتصالات مثل هواوي فقط. بل يشمل السخط المتزايد على ما إذا كانت ثمة مشكلات تتعلق بالأمان في تطبيق TikTok الذي يستهدف المراهقين، ويكمن التهديد الفعلي للشركات الأمريكية في أن مهندسيها الصينيين ابتكروا محرك توصية يعمل بالذكاء الاصطناعي لم يشهد وادي السيليكون مثله قط.  

وأعرب أريكان قائلًا أن التجربة قادته لاحترام هواوي وإنذار الدولة التي تعلّم فيها نظرية المعلومات؛ “أدين بالكثير للولايات المتحدة. وسأسدي إليك نصيحة ودية: عليك أن تتقبل أن هذا هو الواقع الجديد وأن تتعامل معه وفقًا لذلك”. 

ولنقتبس من حديث شانون: “جميعنا نجهل المستقبل، لكن لهواوي والصين يد في التحكم به”. 


بقلم: ستيڤن ليڤي | ترجمة: مريم الريامية | تدقيق: مريم الغافرية | المصدر

Exit mobile version