جيلٌ جديدٌ من الترانزستورات ذات الباعثِ الأيُّونيِّ للتواصلِ مع العقلِ البشريِّ

لا تتوافقُ الترانزستورات السيليكونيَّة مع الدماغِ البشريِّ.

إنَّها على الأقلِّ لا تتوافقُ مع العقلِ البشريِّ على النَّحوِ الأمثل. وبينما يستكشفُ كلٌّ من العلماءِ والشركاتِ على نحوٍ متزايدٍ طُرقًا تُحققُ التواصلَ بين العقلِ البشريِّ والحواسيب، تتزايدُ أهميةُ تصميمِ أجهزةٍ جديدةٍ يُمكنُها أن تتوافقَ مع الخلايا العصبيةِ البيولوجية وتُكملُها.

ولكيْ نكونَ مُنصِفين، يُمكن للترانزستورات السيليكونيَّة المكوَّنةِ من مجموعةٍ من الأقطابِ الكهربائيةِ أن تُجري العملياتِ الأساسيةِ التالية: تسجيلُ الإشاراتِ العصبيَّةِ ومعالجتُها وتحليلُها ببرامج مُتطورةٍ لاكتشافِ أنماطِ النشاطِ العصبيِّ، والتي  يُمكنُ استخدامُها لتحفيزِ الدماغِ أو التَّحكُّم في الأطرافِ الصناعيةِ الذكيَّةِ.

المشكلة؟

تَكْمنُ مشكلةُ الترانزستورات السيليكونيَّةُ في أنَّها لا تتوافقُ حيويًّا مع الدماغِ البشريِّ على المدى الطويلِ، فبدونِ تعديلِها، تُنشِّطُ الأقطابُ الكهربائيةُ المزروعةُ النِّظامَ المناعِيَّ في الدماغ، مما يسببُ نُدوبًا في الأنسجةِ المحيطةِ بمكانِ الزَّرعِ، حيث تهاجمُ الخلايا الأجسامَ الغريبة بشِدَّة.

ويكمُنُ الحلُّ في تغليفِها بموادّ بلاستيكيةٍ يتقبلُها الجسمُ، ولكن-على سبيلِ المثالِ- إذا حاولنا وضعَ جهازِ حاسوبٍ محمول مُغطَّى بغطاءِ حمايةٍ في حقيبةٍ صغيرة، فسنرى أنَّ تلك الزيادة في حجمِه ستؤدِّي إلى اتِّساعِ الحقيبة، وفي حالةِ الأجهزةِ الإلكترونيةِ التي تصلُ بين الدماغِ البشريِّ والآلة، فإن أنسجةَ المخِّ هي الحقيبة. 

يقولُ الدكتور ديون خوداغولي من جامعةِ كولومبيا في مجلةِ ساينس أدفانسيس (Science Advances) أنَّ علاجَ تلك المشكلةِ لا يكمُنُ في صنعِ ترانزستورات أصغرَ حجمًا، فلقد وصلنا تقريبًا إلى الحدِّ الأقصى من حجمِ الترانزستور، ولكن لا بُدَّ من تصنيعِ ترانزستورات جديدةٍ تمامًا تتفاعلُ بسهولةٍ مع الأنسجةِ البشريةِ والدماغِ البشريِّ وما إلى غيرِ ذلك. وفي هذا الشهر، قدَّمَ فريقُ العملِ شرحًا لترانزستور ليّنٍ ومرنٍ ومتوافقٍ حيويًّا يعملُ بالأيُّونات، بدلًا من الإلكتروناتِ في الترانزستورات التقليدية.

ونظرًا لأنَّ الخلايا العصبية تعتمدُ في تواصلِها على الأيُّونات، فإن الترانزستورات الجديدة ستكونُ أكثرَ فاعليةً في معالجةِ إشاراتِ الجسمِ حينئذٍ مقارنةً بالجيلِ الحاليِّ من الإلكترونيات. وتمكَّنَ الفريقُ بعد إجراءِ مجموعةٍ من الاختباراتِ من ربطِ عدَّةِ ترانزستورات معًا لتضخيمِ الإشاراتِ وتشكيلِ بواباتٍ منطقيةٍ، مثل تلك المستخدمة في الحوسبةِ القائمةِ على السيليكون.

سمحتْ الأجهزةُ المصنوعةُ من موادَّ مرنةٍ ومتوافقةٍ حيويًّا بواسطةِ عمليةِ التصنيعِ الدقيقِ للفريقِ بقياسِ إشاراتِ التخطيطِ الكهربائيِّ للدماغِ بدقَّةٍ دون الحاجةِ إلى استخدامِ موادَّ لاصقة، وتقليلِ مساحةِ التَّلامُسِ بين الجهازِ وفروةِ الرأسِ بمقدارِ خمس مراتٍ مقارنةً بالأجهزةِ المُعتادة. وإن لم يكن ذلك شيئًا مُثيرًا للإعجاب، فلعلَّ الفريق قد بدأ في استكشافِ إمكاناتِ الترانزستورات ذات الباعثِ الأيُّونيِّ.

يقول كوداغولي: ” يجعلُ ترانزستورنا التواصلَ مع الإشاراتِ العصبيةِ للجسمِ أكثرَ كفاءة. وسنتمكنُ الآن من إنتاجِ أجهزةٍ إلكترونيةٍ حيويةٍ أكثرَ أمانًا وأصغرَ حجمًا وأكثرَ ذكاءً، مثل أجهزةِ التواصلِ بين العقلِ البشريِّ والآلةِ والأجهزةِ الإلكترونيةِ التي يمكنُ ارتداؤها  وأجهزةِ التحفيزِ العلاجيِّ التي يُمكنُ زرعُها في الإنسانِ لفتراتٍ طويلةٍ من الزَّمن”.

كيف تعملُ الترانزستورات على أيَّةِ حال؟

يبحثُ فريقُ كوداغولي في المبادئِ الحسابيةِ في الدماغِ البشريِّ وغيرها من خلالِ صُنعِ ترانزستورات جديدةٍ.

باختصار، يُعدُّ الترانزستور مُكوِّنًا كهربائيًّا صغيرًا يُؤدِّي وظيفتيْنِ على أكملِ وجه؛ أوَّلُهما أنه يعملُ بوصْفهِ مُضخِّمًا لتيارِ الدخلِ، وهو ما تعتمدُ عليه أجهزةُ السمعِ أو الميكروفونات، وثانيًا، يعملُ بصفتِه مُحوِّلًا للتيارِ الصغيرِ إلى تيارٍ أكبر، وهذه هي الطريقةُ التي تعملُ بها رقائقٌ الكمبيوتر التي تحتوي على مليارات من الترانزستورات التي يُمكنُها تخزين الواحد والصفر، ويعملُ كلٌّ منها بشكلٍ مُستقلٍّ.

تتطلبُ الترانزستورات السيليكونيَّة، حتى تلك الحديثةُ منها التي عُدِّلَت من أجلِ التوافُقِ الحيويِّ، تحويلَ الأيُّوناتِ إلى إلكتروناتٍ أثناءَ التشغيل، فهي تُحوِّلُ لغةَ تشغيلِ الجسمِ (الأيُّونات، نوعٌ من الجُزيْئاتِ المشْحونةِ) إلى لغةٍ تستخدمُها الحواسيب. ومعظمُ تلك الترانزستورات تكونُ عُرضةً للتَّلفِ عند التعرُّضِ للماء، وتحتاجُ إلى عزلِها داخلَ غلافٍ واقٍ، مما يزيدُ من حجمِها ويُقلِّلُ من أدائِها.

وتمكَّنَ العلماءُ من تقليلِ بعضِ هذه المشكلاتِ باستخدامِ الترانزستورات الكهروكيميائية العُضويَّةِ التي تعتمدُ على جُزيْئاتٍ مُتوافقةٍ حيويًّا ترتبطُ ببعضِها الآخر لتشكُّلِ “قناةً” تسمحُ للإشاراتِ بالتدفُّقِ من خلالِها بمُساعدةِ الشَّواردِ الخارجيةِ (الإلكتروليتات)، وهي سوائلٌ مُوصِّلةٌ للكهرباء. ومع ذلك، لا يمكنُ التحكُّمُ في هذه الترانزستورات بشكلٍ فردي، مما يجعلُ تشكيلَ بوَّاباتٍ ودوائر منطقيَّةٍ مُستحيلًا، كما أنَّها بطيئةٌ للغايةِ مقارنةً بعملياتِ الدماغ.

يرى خوداغولي أنَّ الترانزستور المِثاليّ للدماغِ يحتاجُ إلى أربعةِ أشياء؛ أولًا أن يكونَ مصنوعًا من مواد متوافقة حيويًّا ومتينة، وثانيًا أن يكونَ ليِّنًا ومرنًا لتحقيقِ التوافقِ الميكانيكيِّ مع الدماغ، وثالثًا أنه يحتاجُ إلى آليَّاتِ تضْخيمٍ ذات سرعةٍ وكفاءةٍ عاليةٍ يُمكنُها أن تزيلَ ضجيجَ العقلِ النَّاتجِ عن الضَّوْضاءِ في الخلفيةِ، ورابعًا وأخيرًا، يجبُ أن يكونَ لديه بوَّابةٌ مُستقلَّة، بحيث يُمكنُ التحكُّمُ في كلِّ ترانزستور بشكلٍ مُستقلٍّ، مما يسمحُ بربطِها في دوائر مُتكاملة.

تعرَّفْ إلى الترانزستورات الكهروكيميائية العُضويَّةِ ذاتِ البوَّاباتِ الأيُّونيةِ الدَّاخليةِ

تكمُنُ إجابةُ الفريقِ على الترانزستورات الحيويَّةِ في الترانزستور الكهروكيميائي العُضويِّ ذي البوَّابةِ الأيُّونيَّةِ الدَّاخليةِ.

باختصار، تُصنعُ الترانزستورات الكهروكيميائية العُضويَّةُ ذات البوَّاباتِ الأيُّونيَّةِ الداخليةِ من موادَّ مُتوافِقةٍ حيويًّا مُماثِلة لتلك المُستخدمة سابقًا، ولكنَّها تحتوي على أيُّوناتٍ مُتحرِّكةٍ مُضمَّنةً مباشرةً في الموادِّ المُوصِّلةِ للتيارِ الكهربائيِّ التي تُشكِّلُ قناةَ الترانزستور، وبهذه الطريقة لم تَعُدْ تعتمد على الشَّواردِ الكهربيَّةِ الخارجيَّةِ (الإلكتروليتات)، بل تعملُ في حَدِّ ذاتِها بوَصْفِها مجموعةً كاملةً لتوْصيلِ المعلوماتِ.

ونظرًا لأنَّ الأيُّوناتِ المتحرِّكةِ موجودة في قنواتِ الترانزستور بشكلٍ مباشرٍ، فلن تضطرَّ إلى التنقُّلِ بعيدًا لتنظيمِ عملِ الترانزستور مُقارنةً بالإلكتروليتات الخارجيةِ التي تُمثلُ الحلَّ التَّقليدي. ويقولُ مؤلفُ الدراسةِ الدكتور جورج د. سبيروبولس: هذا يجعلُ الترانزستور الكهروكيميائي العُضوي ذا البوَّابةِ الأيُّونيةِ الداخليةِ يستجيبُ لأوامر التَّضْخيمِ بشكلٍ أسرع من استجابةِ الترانزستور ذي البوَّابةِ الإلكتروليتية إلى التغيُّراتِ في الإشاراتِ الخارجية.

هناك ميزةٌ أُخرى لوضعِ السُّكرِ، الذي يُوفرُ مخزونًا من الأيُّونات، مباشرةً في الترانزستور: فهو يُتيحُ لكلِّ ترانزستور أن يعملَ بشكلٍ مُستقلٍّ، فبدلًا من الاعتمادِ على الإلكتروليتات الخارجيةِ في تشغيلِها، فإنَّ الترانزستورات الكهروكيميائية العُضويَّةِ ذات البوَّاباتِ الأيُّونيَّةِ الداخليَّةِ لديها القدرةُ على الحُصولِ على بوَّاباتِها الخاصة، أيْ أنَّها تحتوي على غشاءٍ يتحكَّمُ فيما إذا كانت تعملُ أم لا. وصنَّعَ  الفريقُ في إحدى تجاربِه بوَّابتينِ منطقيَّتينِ مُنفصلتيْنِ دقيقتَيْ الحجم، وأكَّدَ أنَّ كُلًّا منهما كانت تعملُ بشكلٍ دقيقٍ وتُؤدِّي عملياتِها الحسابيةِ المُحدَّدةِ لها، وقالوا إنَّ هذا يؤكدُ “قابليَّةَ تطويرِ بُنيةِ الترانزستورات الكهروكيميائية العُضويَّةِ ذات البوَّاباتِ الأيُّونيَّةِ الداخليةِ لاستخدامِها نماذجَ حاسوبيَّة في الإلكترونيات الحيوِيَّة”.

وفي دراسةٍ أُخرى، توصَّلَ الفريقُ إلى أنَّ بوُسعِ تلك الأجهزةِ تضْخيمُ الإشاراتِ الصَّغيرةِ بشكلٍ موْثوقٍ بأربعةِ أضعاف. وبما أنَّ الإشاراتِ العصَبيَّةِ وإشاراتِ الجسمِ الأخرى غالبًا ما تتطلَّبُ عمليةَ تحفيزٍ مُتعدِّدة المراحلِ قبل أن تُلتَقَطَ وتُفَكُّ شفرتُها بدقَّةٍ، فإن الترانزستورات الكهروكيميائية العُضويَّة الداخلية ذات البوَّاباتِ الأيُّونيَّةِ الداخليةِ تبدو مناسبةً تمامًا لتلك الوظيفة.

التَّخطيطُ الكهربائيُّ للدماغِ بلا إزعاج 

ولإثباتِ صحَّةِ مفهومِ التوَّافُقِ الحيويِّ للترانزستورات الكهروكيميائيةِ العُضويَّةِ الداخليةِ ذاتِ البوَّاباتِ الأيُّونيَّةِ الداخليةِ، حوَّلَ الفريقُ تركيزَهُ إلى التَّخطيطِ الكهربائيِّ للدماغِ الذي يُستخدمُ على نطاقٍ واسعٍ في العياداتِ والمختبراتِ لتسجيلِ موْجاتِ الدماغِ بوضْعِ غطاءٍ من الأقطابِ الكهربائيةِ على سطحِ فروةِ الرأس.

إنَّها ليست بعمليةٍ مُمتعةٍ بل مؤلمةٍ، فغالبًا ما تُقشَّرُ فروةُ الرأسِ وتُوضَعُ مادةٌ لاصقةٌ عليها لتثبيتِ الأقطابِ المعدنيةِ، مما يُسببُ تهيُّجًا في أحسنِ الأحوالِ وطفحًا جلديًّا في أسوئها، كما يُزالُ  الشعرُ حتى لا يؤثِّر على الإشاراتِ ويُشوِّشها.

وبخلافِ ذلك، يُعدُّ الترانزستور الكهروكيميائي العُضويّ ذو البوَّابةِ الأيُّونيَّةِ الداخليةِ حُلمًا؛ فحجمُه الصغيرُ قد مكَّنَ الفريقَ من وضعِه بين بُصيْلاتِ الشعرِ، كما مكَّنتْ مرونتُه وقابليَّتُه للثَّنيِ من وضعِه مُباشرةً على فروةِ الرأسِ دون الحاجةِ إلى معالجةٍ مُسبقةٍ. كما سجَّلَ الترانزستور الكهروكيميائي العُضوِيّ ذو البوابة الأيُّونيَّةِ الداخليةِ نشاطَ الدماغِ بطريقةٍ موَثّوقةٍ ومُتَّسقةٍ في أحدِ الاختباراتِ لقياسِ إشاراتِ الدماغِ أثناءَ استيقاظِ الشخصِ وعينياه مُغلقتان.

يُمكنُ لجهازِ التَّخطيطِ الكهربائيِّ للدماغِ المحمولِ خفيف الوزنِ والذي يُمكنُ التَّحكُّمُ به يدويًّا أن يُغيِّرَ بالفعلِ مستقبلَ علمِ الأعصاب. إنَّها البدايةُ فحسْب، حيث يعني صغرُ حجمِ الترانزستورات الكهروكيميائية العُضويَّةِ ذاتِ البوَّابةِ الأيُّونيَّةِ الداخليةِ أنَّه سيكونُ من الممكنِ استخدامُ المزيدِ من الأجهزةِ على مناطقَ صغيرةٍ من الدماغِ لقياسِ الإشاراتِ الناتجةِ عنها بشكلٍ أكثر دِقَّة، كما يمكنُ وضعُها في مناطق صغيرة عادةً ما تكونُ غير مناسبةٍ لاستيعابِ الأقطابِ الكهربائية، ونظرًا لكونِها ليِّنةً بطبيعتِها وقابلةً للتَّوافقِ حيويًّا، فيُمكنُ استخدامُها على الأنسجةِ الحساسةِ للغاية، مثل فروة الرأسِ لحديثي الولادةِ أو داخل الدماغِ البشريِّ.

يقولُ مؤلفُ الدراسةِ الدكتورة جينيفر جيليناس أنَّ الأمرَ الأكثرَ أهميةً من ذلك هو أنَّ الترانزستورات الكهروكيميائية العُضويَّة ذاتِ البوَّابةِ الأيُّونيَّةِ الداخليةِ يُمكنُها إجراءُ العملياتِ الحسابيةِ في الدوائر، مما يعني أنَّها ستكونُ يومًا ما جُزءًا  من نظامِ دائرةٍ مُغلقةٍ قادرٍ على اكتشافِ الأنماطِ الكهربائيةِ للدماغِ وتحفيزِها وفقًا لذلك، وستكونُ أيضًا أقل خطورةً بدرجةٍ كبيرةٍ من الأجهزةِ الحاليَّةِ القائمةِ على الأقطابِ الكهربائية. 

يقول كوداغولي “ونظرًا لسرعةِ هذه الترانزستورات وقدرتِها على تضخيمِ الإشارات، بالإضافةِ إلى سهولةِ تصنيعِها الدَّقيق، فإنه يُمكنُ تطبيقُها على أنواعٍ عديدةٍ ومختلفةٍ من الأجهزة. وهناك إمكانيَّةٌ كبيرةٌ لاستخدامِ هذه الأجهزةِ في رعايةِ المرضى في المستقبل“.


بقلم: شيلي فان | ترجمة: عائشة الفزارية | تدقيق الترجمة : راية الرجيبية و عهود المخينية | تدقيق لغوي: لجين السليمية | المصدر

Exit mobile version