تُنتج مختبرات العالم ملايين الأطنان من النفايات كل عام مثل القفازات وأنابيب العينات والعبوات والقوارير. في هذا المقال، تلتقي أليس بيل بمجموعةٍ من العلماء الذين استطاعوا إيجاد طرقٍ أقل تلويثًا للعمل.
لوسي غيليام لديها شغفٌ طَموح للعمل البيئي، حيث تعمل حاليًّا في بروكسل على سياسة النقل البيئي. ولكن في أوائل القرن الحادي والعشرين، كانت عالمةَ أحياء دقيقة في هيرتفوردشاير. و كحالِ الكثيرِ ممن هم في مجالها، استخدمت غيليام الكثير من المواد البلاستيكية ذات الاستعمال الواحد، فقد أصبحت هذه المواد جزءًا طبيعيًا من علم القرن الحادي والعشرين، مثلها مثل القهوة والعمل الإضافي.
كانت غيليام، على حدّ تعبيرها “مستخدمًا فائقًا للغاية” لنوعٍ من ماصات الترشيح البلاستيكية فائقة التعقيم، التي يُمكن استخدامها لمرة واحدة فقط؛ لقد وجدت نفسها تتعامل مع ما يسميهِ دُعاة مكافحة التلوث نموذج “الإنتاج ،فالاستخدام، فالتخلص”، تمامًا كما يفعل الكثير منا في حياتنا المنزلية، مما يؤدي إلى تراكم هذه الماصات. وبالتالي لم تكن راضيةً ولم تكن تعجبها هذه الحال.
بدأ التأثير البيئي للعلوم والأبحاث يُقلقها، فالأمر لم يكن مجرد مسألة بلاستيك. كانت تسعى لمعرفة السبب وراء عدم وجود ألواح شمسية على سطح مبنى المختبر الجديد. كما أنها تتساءل لماذا يُنظر للسفر إلى المؤتمرات على أنه ميزة أو أمر محبب أكثر من كونه مشكلة. قالت لي غيليام: ” اعتدتُ التذمر من هذا الموضوع كلما سنحت لي الفرصة “. وأضافت: “كيف يمكننا أن نبحث في علم المناخ والناس يطيرون في كل مكان؟ يجب أن نكون منارةً تومضُ وتراقبُ وترصدُ لنتمكنُ من فعل ذلك!”.
حاولت غيليام الشروع في برامج إعادة التدوير، وحققت نجاحًا لا بأس به: دعت الموردين إلى مناقشة المشكلة، وطوّرت طرقًا تمكنت من خلالها فرق البحث من إعادة صناديق الماصات لإعادة استخدامها هي إن لم تكن إعادة استخدام الماصات ممكنة. شعرت غيليام وكأنها تخوض معركة، كما أحسّت أن التقدم كان من المُحتمل أن يكون بطيئًا، وأخذت تسأل نفسها أين يُمكنها إحداث التغيير بالضبط، وعلى إثر هذا التساؤل انتقلت للعمل في السياسة البيئية.
يُعد البحث العلمي أحد أكثر المستخدمين للمواد البلاستيكية ذات الاستعمال الواحد، خاصةً العلوم الطبية التي تعد بمثابة الجاني الأكبر. فهي تستخدم أدوات مثل: أطباق بتري البلاستيكية وعبوات بأشكال وأحجام مختلفة وعدة أنواع من القفازات ومجموعة هائلة من الماصات ورؤوسها، إلى جانب مخزون من عينات الأنابيب والقوارير. لقد أصبحت هذه الأدوات جميعها جزءًا يوميًا من أعمال البحث العلمي. لن يرى معظمنا مثل هذه المعدات أبدًا، لكننا جميعًا ما زلنا نعتمد عليها. فبدونها لما كانت لدينا المعرفة والتقنيات والمنتجات والأدوية التي نستخدمها جميعًا الآن؛ إنها أدوات حيوية لحياة القرن الحادي والعشرين ولكنها أيضًا مُلوِّثة للغاية.
في عام 2015، قام باحثون في جامعة إكستر بوزن النفايات البلاستيكية السنوية لقسم العلوم الحيوية، وتوصلوا إلى أن المختبرات الطبية الحيوية والزراعية في جميع أنحاء العالم قد تكون مسؤولة عن 5.5 مليون طن من نفايات المختبرات البلاستيكية سنويًا. ولو وضعنا ذلك في سياق واضح، فإنه يساوي 83 % من البلاستيك المُعاد تدويره في جميع أنحاء العالم في عام 2012، وفقًا لما أشار إليه الباحثون.
تكمنُ مشكلة البلاستيك في أنه مادة معمّرة، فهو لا يتحلل أبدًا. نحنُ نرميه في القمامة فيبقى فيها. هناك اعتقاد يشير إلى أن هناك الآن عددًا كبيًرا من مجسمات Lego -مجسمات صغيرة على هيئة إنسان- على الأرض أكثر من الأشخاص الفعليين، وستعيش هذه التماثيل الصغيرة عمرًا أكثر مقارنةً بنا جميعًا. عندما تتفكك المنتجات البلاستيكية مثل هذه التماثيل – أو الماصات أو العبوات أو ماصات الشرب – في نهاية المطاف، فإنها تلتصق على شكل قطع صغيرة غير مرئية تقريبًا تسمى “جسيمات بلاستيكية”، وتأتي أيضًا من مستحضرات التجميل وألياف الملابس.
توصلت دراسة أُجريت عام 2017 أن 81 % من الجسيمات البلاستيكية توجد بتركيزٍ عالٍ في عينات مياه الصنبور على مستوى العالم. وفي السنوات القليلة الماضية، و تحديدًا في السلاسل الجبلية في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، وجد الباحثون جسيمات بلاستيكية حتى في المطر. كما تم العثور عليها مؤخرًا في القطب الشمالي.
مع وجود وتوفر البلاستيك المتناول في اليد ذي الاستعمال الواحد تقدَّم العلم الحديث، لكن الزمن يتغير. في خريف هذا العام، بدأت الموجة الأولى من الشباب التي تتبع الناشطة المناخية السويدية غريتا ثونبرغ وتشارك في “إضراب المدرسة من أجل المناخ” الدرجات الجامعية. يُمكن للجامعات أن تتوقع من هؤلاء الشباب طرح أسئلة جديدة وصعبة في بعض الأحيان حول كيفية إجراء البحث العلمي. في الوقت نفسه، بدأ العديد من أولئك الذين ينتمون إلى الجيل Z (الذين ولدوا في منتصف التسعينات فصاعدًا) الدكتوراه الآن، كما أن جيل الألفية (المولود من أوائل الثمانينيات) يقود المزيد والمزيد من المختبرات. وفي الوقت الذي تتحدى فيه المزيد من الجامعات نفسها للقضاء على المواد البلاستيكية ذات الاستعمال الواحد، وكذلك التحول إلى كل ما لا ينتجُ عنه إطلاق لثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي مطلقًا، يتم وضع النفايات العلمية بشكلٍ متزايدٍ تحت المجهر في السنوات أو العقود القليلة المقبلة في سبيل التوصل إلى حلول عملية أكثر.
في إشارةٍ إلى المدى الذي سارت على نحوهِ الأمور منذ أن تركت غيليام مسيرتها المهنية في البحث، تعهدت جامعة ليدز في نوفمبر 2018 بالتحول نحو سياسة التخلص من استخدام البلاستيك ذي الاستعمال الواحد بحلول عام 2023. وفي الآونة الأخيرة، أعلنت كلية لندن الجامعية أنها ستحذو حذوها، مع هدفها الوحيد الأقل طموحًا لعام 2024. حيث لن تؤدي هذه السياسات الجديدة إلى التخلص من استخدام أكواب القهوة ذات الاستعمال الواحد داخل نطاق الحرم الجامعي فحسب، و إنما من الكثير من المعدات العلمية اليومية كذلك.
تقول لوسي ستيوارت، مسؤولة مشروع الاستدامة في جامعة ليدز، إن التفاعل بين الباحثين كان متفاوتًا، لكنهم مع ذلك يحرزون تقدمًا تدريجيًا وأردفت “بالنسبة لنا كجامعة، نرى أن دورنا أن نلهم الجيل القادم” و”كذلك نحنُ مؤسسة قائمة على البحث وتقوم بابتكارٍ رائدٍ كل يوم، لذلك لم نرغب في القول بأن الحلول غير ممكنة، لأننا نحنُ الأشخاص الذين يساعدون في خلق تلك الحلول”.
كما أكدت ستيوارت على أن هذا الهدف الطَموح قد ساعد في لفت انتباه الجميع وتركيزهم، وأن ذلك يدل على أن الهدف قد دُعم من قِبل المؤسسة من أعلى إدارة في الجامعة إلى أدناها. لكنها قالت “لا نريد تنفيذ سياسات تنازلية أو مجدوَلة”، وإنما “نريد من الأفراد الباحثين والموظفين أن يأخذوا بزمام الأمور وينظروا إلى المشكلة داخل منطقتهم، ثم يجروا تغييراتهم على هذا الأساس”.
في أماكن أخرى من العالم، يبادر العديد من العلماء بخطى واثقة في هذا المجال. عندما كان ديفيد كونتين، وهو باحث طب حيوي في جامعة يورك، يناقش مشكلة نفايات البلاستيك مع زملائه في المختبر، سرعان ما اكتشف أنه ليس الشخص الوحيد الذي لاحظ مدى تداول هذه النفايات.
إن “استخدام البلاستيك بشكل يومي في سبيل العلم، يجعل من المستحيل تجنبه في الوقت الحاضر. قال أحدهم في هذا السياق:” يمكننا ملء غرفة ما بالبلاستيك بعد أسبوع، وسيجعلنا ذلك نناقش ما يمكننا أن نفعله حيال ذلك”!
أحد الأسباب التي تجعل من البلاستيك المستخدم في المختبر مشكلةً عصيّةً هو إمكانية تلوثهِ بالمواد البيولوجية أو الكيميائية التي يتم البحث فيها، ولا يمكنك وضعه في سلة إعادة التدوير في الحرم الجامعي مع أكواب القهوة ببساطة. فهذه العملية تجري في العادة من خلال جمع نفايات المختبرات البلاستيكية وتعقيمها – وهي عملية تعقيم تحتاج للطاقة والماء – قبل إرسالها إلى مكب النفايات لكنَ كونتين يوضح لنا أنه ليست كل النفايات البلاستيكية ملوثة جدًا لإعادة تدويرها. حيث عمل مع زملاؤه الباحثين على فحص وتدقيق المواد البلاستيكية التي يستخدمونها، لمعرفة ما يمكنهم تنظيفهُ منها، بدلاً من تصنيف كل شيء على أنه خطير على الفور.
يوضح كونتين إن: “من المُحتمل أن يكون التلوث الذي نتعامل معهُ أقل خطورةً من تعفن عُلب الطعام المحفوظ التي قد تكون موجودة في سلة إعادة التدوير بعد بضعة أسابيع”. لذا، فكما عرف الفريق أن عليهم غسل علب الطعام المحفوظ قبل وضعها في سلة إعادة التدوير، فقد تعلموا أيضًا طرقًا لتطهير نفايات المختبر بعد عملهم.
طور الباحثون “محطة تطهير ” مع منقوعٍ تظل فيه القطعة لمدة 24 ساعة في مطهر عالي المستوى، يليه شطف بالتطهير الكيميائي. كما أعادوا النظر في الأدوات البلاستيكية التي كانوا يشترونها، من أجل اختيار أدوات أخرى تكون إعادة تدويرها أسهل. وكنتيجةً لهذه الإجراءات، تمكنوا من تقليل كمية البلاستيك التي كانوا يرسلونها سابقًا إلى مكب النفايات بحوالي طن في السنة.
يقول كونتين: “هذا الـ20 عاملا، 20 منا -أي 20 باحثًا- “. ويبدو كأنه ما زال غير مقتنعٍ تمامًا أن هناك فئة قليلة من الباحثين يمكنهم تكديس الكثير من النفايات. وأضاف: “لقد استخدمنا طنًا من البلاستيك يُمكننا إعادة تدويره” حيث عملوا على ما يكفي لملء 110 أحواض استحمام. ونتيجةً لتخفيضهم كمية المعدات التي تحتاج إلى تعقيم أيضًا، فإنهم قد وفروا بذلك الطاقة والمياه معًا.
حدثني كونتين قائلاً: “كوننا علماء، أعتقد أننا بحاجةٍ إلى أن نكون مسؤولين عمّا نقوم به من عمل”. على الأقل لأن الأموال التي ينفقونها هي أموال عامة، كما أسلفَ مضيفًا أنه “لا يمكن أن تكون مرتاح الضمير وأنت تستخدم طنا من البلاستيك”.
من جانبٍ آخر، قامت أيضًا الفنيتان جورجينا مورتيمر وسارانا تشيبير كيتنغ بإعداد خططٍ لفرز وإعادة تدوير نفايات المختبر في جامعة بريستول. تقول مورتيمر: “كان من السهل جدًا على الناس رؤية النفايات في المختبر. كانوا كما لو أنهم يقولون: (أنا أفعل هذا في المنزل) “.
قامتا بتجربة إعادة تدوير القفازات وأكياس الثلج من خلال شركةٍ متخصصةٍ في النفايات التي يصعُب إعادة تدويرها، بما في ذلك العدسات اللاصقة والعبوات اللينة وأعقاب السجائر، بالإضافة إلى أنواعٍ من بلاستيك المختبرات. كما أنهما كانا حريصتين على التفكير أكثر في فكرة إعادة الاستخدام والتقليل أيضًا، مع إدراكهن أن إعادة التدوير كان بإمكانها أن تحملهم فقط إلى هذا الحد من العمل. لقد عملتا على تحقيق إمكانية شراء الأدوات بالجُملة و بالشحنات كلما أمكن ذلك، من أجل تقليل نفايات التغليف على سبيل المثال.
المواد البلاستيكية لم تكن سوى جزء من لغز المختبر المُستدام بالنسبة إليهم. تقول مورتيمر: “لدينا الكثير من مجمدات أو ثلاجات ULT ، -مجمدات ذات درجات حرارة منخفضة للغاية-.” مضيفةً أن المجمدات “لديها آلاف، و آلاف العينات التي تعود لأكثر من 20 سنة .”ويتم تخزينها جميعًا عند 80 درجة مئوية تحت الصفر، أو على الأقل كانوا يفعلون ذلك. حيث أظهرت لهم آنا لويس، مديرة العلوم المستدامة في بريستول، بعض الأبحاث من جامعة كولورادو بولدر التي توضّح أنه يمكن تخزين معظم العينات بأمانٍ عند سالب 70، مما يوفر ما يصلُ إلى ثلث الطاقة المستهلكة. وبذلك، لقد رفعوا الآن درجة حرارة مجمدات ULT الخاصة بهم.
كان تقنيو بريستول يفكرون أيضًا في ما يخزنونه في هذه المجمدات، وماذا ينبغي أن يكون فيها وكيفية وضعه. تقول مورتيمر: “هناك عينات تُركت فيها منذ سنوات”. “لقد اكتشفنا ما هية هذه الأشياء بالفعل وما إذا كانت لا تزال قابلةً للاستخدام، للاستفادة من المساحة “. لم توفر هذه الخطوة الطاقة والمال فقط، بل جعلت العمل مع المجمدات أكثر قدرةً للتحكم فيها، ببساطة جعلت من السهل العثور على الأشياء في المجمدات.
شغل مارتن فارلي أول منصب للاستدامة المعملية في المملكة المتحدة في جامعة إدنبره في عام 2013. وهو الآن متخصصٌ في الطرق التي يمكن أن تصبح بها مختبرات الأبحاث أكثر استدامة، حيث يعمل في دورٍ مماثلٍ لـ لويس في اثنتين من جامعات لندن. لقد أخذ حيّزًا في هذه القضية بسبب البلاستيك أولاً، لكنه سرعان ما وجد مجموعة كاملة من القضايا للعمل عليها.
يشير فارلي إلى أن مجمدات ULT هذه يمكنها استخدام الكثير من الطاقة كما في المنزل. لذلك إذا كنت قلقًا بشأن استخدام الطاقة في منازل حيّك، فيجب أن تقلق بشأن ذلك أيضًا في ثلاجات جامعتك. أخيرًا، ومع اشتداد حالة الطوارئ المناخية، يزعم فارلي أن: “كل جانب من جوانب المجتمع يحتاج إلى التغيير”.
قد لا يكون مجال المختبرات “عملاقًا” مثل مجال صناعة النفط والغاز كما يقول فارلي، ولكن له تأثيرًا بيئيًا كبيرًا وغالبًا ما يتم تجاهله. يعتقد فارلي أن المختبرات في جامعةٍ تكثف عمليات البحث، ستكون مسؤولة عن حوالي ثلثي فاتورة الطاقة في الجامعة. لذا، إن كانت الجامعة تتطلع إلى تقليل استهلاكها للطاقة، فإن علوم الأبحاث هي مكانٌ جيدٌ للبدء.
قال لي فارلي مرةً : “لدينا أشخاص يعيدون التدوير في منازلهم، لكنهم لا يفعلون شيئًا في مختبراتهم. لقد أجريت حسابًا تخمينيّا سريعًا”. تبين له من هذه العملية الحسابية أن وفقًا لمنطقة البحث الخاصة بك فإن ” تأثيرك على البيئة يزيد بنسبة 100-125 مرة عن تأثيرك في المنزل”.
من خلال تتبع تاريخ العلوم، فإنه من الصعب معرفة متى وصلت المواد البلاستيكية ذات الاستعمال الواحد إلى المختبرات. يقول سيمون ويريت، مؤرخ في كلية لندن الجامعية و متخصص في مواد العلوم:” هذه مهمةٌ يجب القيام بها، لمعرفة متى بدأ استخدام البلاستيك في الأدوات العلمية، وفي الثقافة المادية العلمية، وكيف تغير ذلك”. يُضيف أن هناك بلاستيك في الكثير من الأشياء العلمية التاريخية، ولكن نظرًا لأن المتاحف لا تصنف العناصر تحت هذه البنود، فمن الصعب تحديدها بالضبط. لا يزال يظن أن مشكلة البلاستيك في العلوم ما هي إلا مشكلة ناتجة عن مشاكل أخرى.
بدأ إنتاج البلاستيك في أواخر القرن التاسع عشر. نحنُ الآن معتادون بشكلٍ متزايدٍ على رؤية البلاستيك على أنه تهديد للحياة البرية، ولكن في ذلك الوقت إذا كان هناك ما أنقذ الطبيعة من المنتجات الاصطناعية فهو الاستهلاك البشري. مع انتشار لعبة البلياردو، بحث المصنعون عن طريقة لإنتاج الكرات من مادة أكثر ضمانًا من تجارة العاج. حيث أطلقت إحدى الشركات مسابقة بقيمة 10000 دولار للعثور على مادة بديلة، وعلى إثرها تم منح براءة اختراع السليلويد (مزيج من الكافور وقطن البندقية) للمخترع الأمريكي جون ويسلي هايت في عام 1870.
أسّس هايت شركة تصنيع السيليلويد مع شقيقه إشعيا وطوّر عملية “التشكيل عن طريق النفخ” والتي سمحت لهم بإنتاج أنابيب مجوفة من السيليلويد، مما يمهد الطريق للإنتاج الضخم للألعاب والحلي الرخيصة. واحدة من مزايا السيليلويد هي أنه مادة يمكن مزجها مع الأصباغ، بما في ذلك الأصباغ ذات التدرجات المنقطة، مما أتاح للأخوة هايت فرصة إنتاج المرجان وصدف السلحفاة، و ليس العاج الاصطناعي فقط.
في مطلع القرن، كانت صناعة الكهرباء التي تتوسع باستمرار لا تكفي لتصنيع “مادة الشيلاك”، وهي مادة تُستخرج من حشرة “لاك الأنثى”، والتي يُمكن استخدامها كمادة عازلة. ترتب على ذلك، حصول ليو بايكلاند على براءة اختراع لبديل اصطناعي في عام 1909، والذي أطلق عليه اسم “الباكليت”. تم تسويقه في عشرينات القرن العشرين على أنها “مادة الألف استخدام” ، وسرعان ما انضمت إليها مجموعة من المواد البلاستيكية الجديدة طوال الثلاثينيات والأربعينيات أيضًا. من هذه المواد هو النايلون، الذي تم اختراعه في عام 1935، وأُنتج منه نوعًا من الحرير الاصطناعي صالحًا للاستخدام للمظلات وكذلك الجوارب. كما وُجد أيضًا الزجاج الشبكي وهو مفيد في صناعة الطيران المزدهرة. لقد اعتمدت عملية “البحث والتطوير “في معززات الصواريخ زمن الحرب على ابتكار البلاستيك، ومثلما بدأت المنتجات البلاستيكية في الانتشار بسرعة في المنازل ما بعد فترة الحرب، فقد دخلت كذلك مجموعة كبيرة من السلع البلاستيكية إلى المختبرات بعد الحرب.
يؤكد ويريت على أن مشاكل اليوم ليست ناتجة عن انتشار استخدام البلاستيك فحسب، بل لظهور ثقافات التخلص منه، حيث لم نعتد على التخلص من الأدوات القابلة لذلك فيما سبق. إن آلات الثورة الصناعية المتأخرة التي ظهرت في حوالي منتصف القرن التاسع عشر جعلت عملية إنتاج القماش والورق أسهل بكثير، وفي الوقت نفسه أصبح الناس أكثر وعيًّأ وقلقًا بشأن وجود الجراثيم – على سبيل المثال، بعد أن حدّد جون سنو مضخة مياه برود ستريت كمصدر لتفشي الكوليرا في سوهو بلندن، عام 1854 . وتمامًا كما كان جوزيف ليستر رائدًا في استخدام المطهرات أو المعقمات في مجال الطب في الفترة من ستينيات القرن التاسع عشر فصاعدًا، أصبح استخدام الضمادات الطبية التي تُستخدم لمرة واحدة قاعدةً تدريجًّا. فبالإضافة إلى استخدام المناديل الورقية والأكواب الورقية، يضيف ويريت: “لدينا أشياء مثل الأعواد القطنية والواقيات والسدادات الطبية والضمادات اللاصقة.” و مع تقدم الإنتاج الضخم أو الشامل، سرعان ما أصبح التخلص من الأشياء وسيلةً أسهل وأرخص بدلاً من تنظيفها وإعادة استخدامها، أو من دفع المال لأحدهم لفعل ذلك.
وصلت منتجات القماش والورق التي تستخدم لمرة واحدة إلى أيدينا على مدى فترة قصيرة نسبيًّا، لكن ثقافة التخلص منها الجديدة التي تم التحريض عليها مهّدت الطريق لمشكلة البلاستيك التي نواجهها اليوم. وسرعان ما أصبحت الأكواب الورقية والماصات من مواد بلاستيكية، و أصبحت فكرة “الإنتاج – الاستخدام – التخلص” أمرًا طبيعيًا في حياتنا.
إلا أن فكرة إدخال المواد البلاستيكية ذات الاستعمال الواحد والتي يمكن التخلص منها في الأبحاث والطب بعد الحرب لم تكن أمرًا بسيطًا بالضرورة. حيث وجد ويريت بعد الرجوع إلى المجلات الطبية خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، بعض الشكاوي.
يشرحُ ويريت قائلاً: “هناك عُرف بأن الجراحين لديهم زوج من القفازات، ويستخدمونه طوال مسارهم المهني”. كانت هذه القفازات من المطاط – قدّمها أول مرة وليام ستيوارت هالستد في مستشفى جونز هوبكنز في ماريلاند في تسعينيات القرن التاسع عشر – ولكنها صُممت لتدوم طويلًا، ويتم غليها لتعقيمها وإصلاحها بدلاً من التخلص منها واستبدالها بزوج جديد. يقول ويريت: “بحلول نهاية مسارهم المهني، سيكون لديهم رقع وبقع في قفازاتهم، وهذه كانت علامة أو إشارة على تجربتك أو خبرتك كجراح”. ثم جاءت القفازات التي تُستخدم لمرة واحدة، ولم يكن الجميع سعداء بترك علامات التجربة هذه خلفهم.
يرصدُ ويريت في ملاحظاته أنه يجب تعليم الممرضات التخلص من الأشياء بدلاً من الاحتفاظ بها. حيث يوضح أن “التخلص منها بديهيًا لم يكن تصرفًا ذا قيمة، وإن كان لابد من فعل شيء فينبغي إعادة استخدام الأشياء. لذا عليك تدريب الناس على النظر إلى التخلص من الأشياء على أنه ممارسةً ذاتَ قيمة”.
بالنسبة لأولئك الذين يبحثون عن مستقبل خالٍ من البلاستيك في العلوم، ربما يُمكن العثور على حلٍّ تكنولوجي في التاريخ. بالعودة إلى جامعة بريستول، كانت جورجينا مورتيمر تجولُ بعينها على خزانات الزجاج القديمة، تقولُ باسمةً: “نحن نحاول العودة إلى الأواني الزجاجية، ونحاول جعلها متلائمة مرة أخرى داخل قسمنا”.
أخبرتني لوسي غيليام عن جدتها التي عملت في مختبر بمستشفى في بروكسل، وكان عليها أن تدعم الكل بالمساعدة في غسل الصحون لاستخدام الأواني الزجاجية. “والآن نحن نقوم بكل ذلك بأنفسنا، نحن مثل جزر البحث الصغيرة. وكما تعلمون، أن مواد البلاستيك – والأدوات ذات الاستعمال الواحد – تملأ الفجوة بين الناس”.
“لقد مرّ علينا زمان كنا نقوم فيه بعلوم متقدمة دون استخدام البلاستيك. وهذا لا يعني أن جميع العلوم التي نقوم بها الآن يمكن أن تتم بدون بلاستيك. كما يوجد علوم سبق أن عملنا بها باستخدام البلاستيك وما زلنا نقوم بها الآن، و يُمكن القيام بها بدون بلاستيك”.
على ما يبدو، أصبح البلاستيك مادةً لا غنى عنها في العلم الحديث؛ فهي مادةٌ يمكن أن تحافظ على المواد الأخرى محميّة، حتى عندما نقوم بنقلها من مكانٍ لآخر. كما أنها تُبقينا بعيدًا عن هذه المواد (بالنسبة للمواد التي لا نريد أن نلوثها) وتُبعدها عنّا (عن المواد الخطرة التي قد تؤذينا). بالإضافة إلى كونهِ مادةً يمكن تشكيلها في مجموعة من الأشكال. ويجدرُ بنا هنا ذكر أن بعض مجالات العلوم – ليس أقلّها أبحاث الحمض النووي – نشأت في عصر البلاستيك القابل للتصرف أو التخلص.
على الرغم من ذلك، في بعض الحالات قد يكون الحل هو العودة إلى الأدوات الزجاجية. تعقّب مورتيمر بحماس: “استخدم الأواني الزجاجية، إنها موجودة ومتاحة ومعقمة”. وتضيف: ” جميع الجامعات ستحتوي على غرفة للزجاج مملوءةً بأعلى حدٍّ من الأدوات التي يمكننا استخدامها بدلاً من المواد البلاستيكية.” تم تكليف مورتيمر جنبًا إلى جنبٍ الباحثة سارانا شيبر كيتنغ بوضع تمرين يوضح إجمالي تكلفة دورة حياة استخدام الزجاج مقابل استخدام البلاستيك. من الناحية النظرية، يتضح أن إعادة استخدام الزجاج أرخص من شراء البلاستيك مرارًا وتكرارًا، خاصة وأن هناك غالبًا تكاليف تكون مرتبطة بإغراق – سياسة تسعير- هذه المواد البلاستيكية.
لكن إعادة استخدام الزجاج يعني أنه يجب غسله وتعقيمه، وهذا يتطلب موارد أيضًا. هذا هو مصدر قلق لوسي ستيوارت في جامعة ليدز. حيث ببساطة لا يريدون أن يتسبب تعهدهم الخالي من البلاستيك باستبدال مشكلة بيئية بأخرى.
في يورك، يساور ديفيد كونتين القلق من تأثيرات طرق التحول إلى الزجاج أيضًا. يقول لي: “كل يوم نستخدم الكواشف مثل وسائط زراعة الخلايا، و وسائط مغذية تنمو فيها الخلايا”. تم تطوير هذه الوسائط لعقود، وبما أن معظم الخلايا تُزرع على البلاستيك، فهذا هو السبب الذي تم تحسين الكواشف من أجله.
علاوةً على ذلك، يهتم الباحثون أمثال كونتين بأدق التفاصيل عن سلوك الخلية – وما إذا كان هناك تأثير من قِبل ما تنمو عليه الخلايا. حيث يشرح لنا قائلا “نحن نعلم أن الخلايا تستجيب لبيئتها، ويمكنها الشعور بأشياءٍ مثل خشونة أو تصلب السطح الذي تنمو عليه”. يُمكن أن يُساء تفسير التغييرات غير المتوقعة في السلوك كنتيجة للتجربة، في حين أن سلوك الخلايا يكون مختلفًا على الزجاج.
هناك مشكلة أخرى تتمثل في كمّ الوقت الذي يمكن أن يستغرقهُ إعادة استخدام الزجاج. استخدام ماصات يمكن التخلص منها هو مجرد حل أسرع فقط. كما أن الوقت، إلى جانب الماء والحرارة قد تكلف المختبر أموالًا. على أية حال، لا يمكنهم أن يعرفوا حتى يقوموا بتحليلٍ كامل. تقول آنا لويس: “يمكننا القيام بحساب إجمالي تكلفة دورة الحياة، وقد يتبيّن أن البلاستيك أرخص بكثير” وتضيف “في هذه الحالة، سنحتاج إلى دعمٍ مادي”.
توضح لويس رأيها بأن أي تغيير حقيقي سيتطلب تغييرًا في كيفية تمويل العلوم، حيث تحتاج الجامعات بشكل مثالي لإثبات مستوى معين من الاستدامة قبل أن تتمكن من التقدم بطلب للحصول على مخططات منح معينة. عندها فقط حتى الآن يمكنهم السير في العمل بنيةٍ وإرادةٍ حسنةٍ واهتمامٍ مع عدد قليل من المُفعمين بالحماسة. إنها ترى مجالًا لمعالجة هذا، إن لم يكن في إطار التميز البحثي التالي (لتقييم جودة البحث في المملكة المتحدة) في عام 2021، ثم في ما يليه بعد ذلك. حول ما إذا كانت الأزمة البيئية يمكن أن تنتظر منا أن نتفاوض ببطء بشأن عقد آخر من السياسة العلمية هو مسألة أخرى.
يرى مارتن فارلي بدون شكٍّ أن هناك قابلية أقوى للتغيير من المجتمع العلمي، مقارنةً بالوقت الذي بدأ فيه تخضير المختبرات لأول مرة في عام 2013.
“قبل خمس أو ست سنوات، عندما أخبرت زملائي في المختبر أنني أفعل ذلك، ضحك الناس. كان هناك القليل من الاهتمام على سياق “بالتأكيد، سأعيد التدوير أكثر” مرفقٌ ببعض النكات. أما الآن، فأنا أتلقى رسائل بريد إلكتروني أسبوعيًا تقريبًا. لقد بدأ الناس يتلهفون بقولهم: “كيف يمكنني أن أفعل شيئًا؟ أريد أن أفعل المزيد”.
تحرص جامعة ليدز على التواصل مع المؤسسات الأخرى أيضًا. لقد أنشأوا شبكة حول ليدز، بما فيها جامعات أخرى، وخدمة إسعاف يوركشاير، ومجلس المدينة، ومياه يوركشاير. كما أنهم أيضًا يجرون مناقشات مع أحد مجالس البحث الوطنية. تقول ستيوارت إن هذا النوع من التعاون ضروري إذا ما أرادوا معالجة البلاستيك القابل للتخلص في الحرم الجامعي، لأن كل ما يدخل الجامعة هو جزء من الاقتصاد المحلي الأوسع. ولكنها أيضًا جزء من النقطة الكاملة للمشروع، حيث يرون أنفسهم “جامعة مدنية”، مما يضمن لهم استخدام أبحاثهم وابتكاراتهم بطريقةٍ تفيد المنطقة المحلية المجاورة.
بالنسبة للباحثين الراغبين في التعمق في مشكلة النفايات البلاستيكية بأنفسهم، لدى غيليام بعض النصائح البسيطة لتقدمها لهم: “أولا وقبل كل شيء، أنظر ما إذا كان يمكنك جذب بعض الرفاق، أرسل إليهم ملاحظة واعقد اجتماعًا صغيرًا. قُل لهم “رأيتُ هذه الأشياء، وأشعر بالقلق حيالها، هل من أفكارٍ لدى أحدكم؟”. في حال لم يتفاعل معك أحد، تقترح عليك غيليام أن تخطو بمفردك خطوةً في أن تبدأ بفصل بعض من البلاستيك الخاص بك بأية طريقة كانت، ثم ضعهُ في صندوق وأرسله للجهات المعنية، بعد ذلك قم بمشاركة صورة على وسائل التواصل الاجتماعي للصندوق، بعدها، قد تجد رفاقًا في مختبرات أخرى يشاركون معك إن لم يكن لديك.
“ابدأ بفعل شيء مختلف، حتى لو بدا لك وكأنه فعل صغير جدًّا ولا معنى له فحتى الإجراءات الصغيرة مثل هذه يمكن أن يكون لها تأثير مُضاعف”.
مع جزيل الشكر لكلية لندن الجامعية ومعهد فرانسيس كريك لمساعدتهم في هذه القصة. جميع العناصر التي تم تصويرها هي نفايات معملية.
بقلم: أليس بيل | ترجمة: موزة الريامية | تدقيق الترجمة: سحر عُثماني | المصدر