وأنا طفلٌ صغير، سمعتُ البالغين في بريطانيا وإيرلندا يتحدثون عن روعة الأشياء قبل الحرب؛ يبدو أن كل شيءٍ كان أفضل وأرخص وأكثر إشراقًا. تحوم في ذاكرتي أحاديث الناس حول استطاعتهم أن يشتروا مشطًا ببنسين قبل الحرب وها نحن الآن ننظر إلى هذه الذكرى بحنينٍ إلى الماضي، مدركون تمام الإدراك أن في فترة الثلاثينيات كان الناس يعانون من الخوف والفقر في العديد من البلدان، فما بالك بالتفكير بأمرٍ مثل ثمن الأمشاط؟
ومع تفاقم أزمة الوباء حتى في أكثر المجتمعات ثراءً، مرة أخرى يظهر الحنين بصورةٍ أخرى في المزاعم التي تدعي أن الوضع لابد أن يرجع طبيعيًا وبأننا وبلاشك لا نملك أي سبب يجعلنا متمسكين بالبقاء في قبضة هذا الوباء. ولكن قبل أن نشرع في الرجوع للحياة الطبيعية من الحريّ بنا أن نتفكّر فيما إذا كنّا فعلًا نوّد للأمور أن تعود كما كانت عليه في الماضي القريب. كيف نصف آخر وضع “طبيعي” كنا فيه؟ وهل لهفتنا لتلك الحالة الطبيعية هي أيضًا تعبير عن الحنين؟
منذ نهاية الحرب الباردة، تغير كل ما كان يُعتبر طبيعيًا في السابق، فقد حوّلت العولمة والتكنولوجيا الرقمية حياتنا تمامًا. أصبح لدينا تضخمًا عاليًا في الكثافة السكانية وفي أساليب الحياة غير المستدامة؛ ولقد اقترن الازدهار المتنامي لدى العديد من الناس بعدم المساواة الاقتصادية المتطرّفة؛ كما أن ارتفاع الانبعاثات الكربونية دعّم أساليب الحياة غير المستدامة. وفي الوصول إلى “الحالة الطبيعية” الحديثة، استقر العالم المتقدم على الاعتماد على سلاسل التوريد التجارية التي تزداد توزّعًا والاعتماد بشكل متزايد على الموردين البعيدين.
وفي ظل ذلك، وجد الكثيرون أنفسهم جزء لا يتجزأ من ثقافة ساعات العمل الطويلة جنبًا إلى جنب مع قطع مسافات طويلة في الذهاب من وإلى العمل (يوقد حماسهم إلى ذلك فكرة قضاء إجازات في بلدان بعيدة). وجلبت التقنيات الرقمية اتصالًا فوريًا بالأحداث والفعاليات البعيدة والتي تعتمد في كثير من الأحيان على موردين بعيدين مجهولي الهوية وتستعرض معلومات غير قابلة للتقييم ومؤثرين مجهولين.
مُنعش وهش
والواقع أن الحياة التي نعدها “طبيعية” الآن قد أصبحت مُنعشة لنا في العديد من النواحي، ولكن كما نعلم هي أيضًا هشة في جوانب أخرى. هل ينبغي لنا أن نحاول العودة إليها؟ وأي من جوانب ماضينا الأخير يستحق إعادة البناء، وأي منها يمكننا أن نبلي بلاءً حسنًا بدونها؟
في الوقت الحالي، تدور العديد من المناقشات حول العالم التي تحاول التنبؤ بالوضع ما بعد الوباء. مدى سرعة تعافي الاقتصاد؟ أي الصناعات ستنهض أسرع؟ أيها سوف يكون عرضةً للإفلاس؟ من سيربح ومن سيخسر؟ يبدو لي أننا بحاجة إلى معالجة بعض الأسئلة قبل التنبؤ بالنتائج الإجمالية؛ نحتاج أولًا أن نسأل ما الذي يمكننا ويجب علينا فعله؟ وما الذي علينا تجنبه؟ ما الذي يستحق أن نصبو إليه وما الذي لا يستحق؟ وما الذي ينبغي علينا فعله؟
إن التساؤل عما ينبغي لنا أن نقوم به يتطلب الاهتمام بالعمل الذي يستطيع الأفراد والشركات العادية أن يقوموا به، وفعل ذلك يتطلب تنسيقًا أوسع بين المنظمات، بما في ذلك الحكومات، فضلاً عن الأفراد، وفي المقام الأول العمل الذي يعبر الحدود.
سوف نحتاج إلى التركيز على استعادة حركة السلع والخدمات، بل وأيضا تعزيز الهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لتأمين عملية التنسيق والتعاون والتي أثبتت أنها ضعيفة ويمكن أن تفشل مرة أخرى، لنتمكن من بناء هياكل أكثر قوة.
سلاسل التوريد
لقد شهدت حقبة الوباء تعثر بعض البلدان الأكثر تقدمًا على مستوى العالم، وذلك لأنها كانت تعتمد على موردين بعيدين (كما تبين) وغير موثوقين للحصول على معدات السلامة الطبية الأساسية، والدليل على ذلك الإخفاق الذي حدث في توفير خدمات صحية ذات الطاقة الاستيعابية الضرورية، أو حتى في تدريب عدد كافٍ من الأطباء والممرضين. وعلى الرغم من أن البشرية قد مرّت بعدّة أوبئة حديثة في الماضي القريب- بعضها على نطاق محدود مثل سارس (SARS) ومارس (Mers)، وبعضها فتاك إلى حد كبير، مثل وباء الإيبولا ـ إلا أن العديد من الحكومات قد فشلت في وضع خطط الصحة العامة أو ضمان تنفيذ هذه الخطط عند الحاجة، وافتقر بعضها إلى السبل القوية لتأمين المعدات اللازمة لفحص وتعقّب الحالات المشتبه بها، ومعالجة المصابين.
كما افتقرت العديد من هذه الحكومات إلى القدرة على توفير معدات الحماية الشخصية للعاملين في المستشفيات ودُور الرعاية إلى جانب النقص الحاد في القدرة الاستيعابية الاحتياطية في التعامل مع متطلبات ومعطيات الوباء. وغني عن القول إن البلدان الأقل تقدمًا تفتقر عادة إلى المستشفيات اللازمة، فضلاً عن العدد الكافي من الموظفين المدرَّبين طبيًّا والمعدات الواقية وطرق فحص فيروس كورونا المستجد. ومن حسن الحظ أن القدرات العلمية تظل قوية في بعض البلدان التي أنهكها الفيروس، وقد نأمل أن يتم تطوير اللقاحات الكافية ولكن هذا ليس أكثر من أمل في الوقت الحالي وقد يتحقق في أفضل تقدير بعد فترة من الوقت.
لذا، يتعين علينا أن نسأل أنفسنا ما الذي قد يلزم لاستعادة المرافق العامة، بما في ذلك توفير الصحة العامة، وسبل المعيشة المستدامة، والطرق الآمنة التي يمكن بها تقييم المعلومات الرقمية المنقولة. فالتعاملات السوقية في حد ذاتها لا توفر البضائع العامة على نحو موثوق به، لذا يتعين علينا أن نوسّع تفكيرنا إلى آفاقٍ أرحب حول ما إذا كان العالم في فترة ما بعد الوباء سيكون مستدامًا.
ومن بعض النواحي، هناك إدراك بالفعل لهذه الحاجة، على الأقل في بعض البلدان، حيث يُنظَر إلى تقليل الغازات الكربونية والعمل على استدامة المستقبل باعتبارها لا غنى عنها وقد حصلت على بعض الدعم التشريعي على الأقل. ولكن تغير المناخ ــ مثله كمثل الأوبئة ــ لا يعرف حدودًا ولا يمكن تحقيقه من دون التنسيق بين العمل والتخطيط المسبق. وكما لا توجد وسيلة لضمان بقاء الأوبئة في المكان الذي بدأت فيه، فلا توجد وسيلة لضمان تجنب تغير المناخ بالعمل المحلي وحده. إن الحنين إلى الماضي والتكهن لا يشكلان استجابة دقيقة للأوبئة أو لتغير المناخ، ويتطلب الأمر اتخاذ إجراءات مستدامة لدعمهما.
بقلم: أونورا أونيل | ترجمة: زيانة الرقيشي | تدقيق الترجمة: منال الندابية | المصدر