شأني شأن الكثيرين منا في هذه الأيام، أقضي نصف حياتي على الإنترنت، وليس هناك جدوى من مقاومته. فإذا كنت أرغب في التواصل مع أي شخص بخلاف عائلتي الصغيرة، فيجب أن أفعل ذلك بشكل رقمي. فنتواصل عبر سكايب Skype وزوم Zoom وفيس تايم FaceTime. وعلى الأرجح، إن كنت قد رأيتك في الشهر أو الشهرين الماضيين، فقد رأيتك صورةً على شاشة الكمبيوتر وسمعت صوتك عبر السماعات – مثلما استطعت أن تراني أو لم تستطع.
ويثير انتقالنا هذا إلى الإنترنت أسئلة ملحة وعملية. ماذا عن أولئك الذين يفتقرون إلى الإمكانيات الكافية للوصول إلى شبكة الإنترنت العالمية؟ إلى أي مدى يمكن للتفاعل عبر الإنترنت أن يلبي احتياجاتنا العاطفية؟ كما أن هناك أيضًا المزيد من الأسئلة التأملية. ماذا سيحدث لإحساسنا بالهوية عندما نتفاعل مع الآخرين بشكل متزايد، بصفتنا رموزًا لا كائنات في الفضاء المادي؟ وهل سنقبل تحررنا عن الجسد، أم سنعزف عنه؟
في التقليد الغربي، يعد ازدراء جسم الإنسان كليشيهًا فلسفيًّا. فعند مولدِ الفلسفة اليونانية القديمة، يودع سقراط بقاياه الجسدية، ويعيش بسعادة بصفته روحًا بين الأشكال غير المادية. وبعد ألفي عام، تستمر القصة، فيؤسس ديكارت الفلسفة الحديثة بقوله: “أنا أفكر، إذا أنا موجود”، داعيًا إلى “التمييز الحقيقي” بين العقل والجسد.
حتى أولئك الذين لا يميلون لفصل الأرواح قد يفصلون هويتنا عن أجسادنا المادية. فيساوي فيلسوف القرن الثامن عشر جون لوك في فصلٍ معروفٍ بغموضه في كتابه “مقالة في الفهم الإنساني” بين الهوية وتيار الوعي، بتخيل الإسكافي الذي يستيقظ بحياة عقلية لأمير راحل: “يرى الجميع أنه سيكون هو والأمير شخصًا واحدًا”.
إذا كانت عقولنا هي ما نحن عليه أساسًا – أفكارنا ومشاعرنا وذكرياتنا وخططنا – فإن ما نشاركه في الفضاء السيبراني هو حقًا ما نحن عليه. حتى أننا قد نجد محاكاتنا الافتراضية متحررة. فمن دون ركيزة الحيز المادي، يمكننا أن نكون مع أي شخص، في أي مكان، في أي وقت.
وللتفاعل عبر الإنترنت فضائل لا يمكن إنكارها. فيسعدني أن “أرى” أصدقائي وزملائي، وأن لا أكتفي فقط بالتحدث إليهم عبر الهاتف. وبصفتي معلمًا، أفضل اجتماعات زوم Zoom على أن ألغي الدرس. صحيح أن طلابي لا يتعلمون بقدر ما يتعلمون بالحضور شخصيًّا، لكن أعتقد أنهم يتعلمون شيئًّا ما. كما أن الجدول المنتظم للاجتماعات يمنحهم – ويمنحني- مظهرًا من مظاهر الحياة العادية.
ولكنها ليست سوى مظهرًا واحدًا ويمكننا أن نشعر أن شيئًا ما مفقودًا في هذه اللقاءات. ولا يقتصر الأمر على الإزعاج أو العيب التقني للوسيط، بل الشعور بالاغتراب والمسافة الحميمية. وأيًّا كانت انطباعات الآخرين، فإن تجسيدنا الرقمي لا يمثلنا. فنحن لسنا مجرد عقول، يمكن الوصول إليها من خلال الشاشات وكذلك من خلال الجسد؛ فتعد أجسامنا أمرًا أساسيًّا لما نحن عليه.
ومن المفارقات، أن الحجة التي تظهر أهمية التجسيد لهويتنا قد اشتهرت بسبب فيلسوف شكَّكَ في استنتاجها. ففي تحفته الأسباب والأشخاص عام 1984، درس ديريك بارفيت إمكانية البقاء بدون جسد. وبتحوير جون لوك – وأيضًا ستار تريك – وصف بارفيت نظام الانتقال الآني الذي تُنسخ فيه معلوماتنا النفسية إلى أجسادٍ على كواكب أخرى، في حين تُدمر أجسادنا الموجودة على الأرض. ويعتقد كل من يرى الأجسام المتحركة حديثًا أنهم يروننا. وبوسيلة مماثلة، قد نرفع أنفسنا إلى أجهزة الكمبيوتر، إن كان من الممكن أن تُصنع أجهزة كمبيوتر قادرة على التفكير والشعور.
والمشكلة في هذه التجربة الفكرية هي أن هذه المحاكات لن تكوننا في واقع الأمر: لا يمكننا أن نعيش برفع أنفسنا على الكمبيوتر أو بالانتقال الآني، وليس إن كانت تعمل على هذا النحو. وبوسعنا أن نثبت هذا بتصور خلل غير عادي.
ولنفترض، إن حالفك الحظ لتعيش على سطح الأرض بجسم سليم، في حين تُنقل حالتك النفسية إلى جسم على كوكب المريخ. و تبقى أنت بالضبط حيث كنت، مرتبكًا: ماذا حدث؟ مع ذلك، هناك أمر واحد واضح: ألا وهو أن الشخص، الذي يعيش الآن على المريخ والتي تعتقد بأنها أنت، هي الشخص الخطأ. فهي مجرد نسخة طبق الأصل.
إن لم تكن هذه النسخة أنت في هذا السيناريو الغريب، فلا يمكنها أن تكون أنت في السيناريو الأصلي، حيث يُدمَّرُ جسدك. وعلاقتك بالشخص الذي يتلقى معلوماتك النفسية هي ذاتها، بغض النظر عن بقائك أو فنائك على الأرض. وفي كلتا الحالتين، لا يكفي الأمر أن تجعلهم أنت. فهويتك أكثر من مجرد حالة نفسية.
ولقد قلت أن پارفيت شكك في هذا الاستنتاج: إن رأيه معقد. ويوجد في الخلفية غرابة اجتماعية. تشكل فلسفة الهوية الشخصية واحدا من المجالات الفرعية للتخصص الذي تنتشر فيه الآراء الغريبة على نطاق واسع، والتي يهدف بعضها إلى استحداث مكان لمفهوم البقاء عبر الانتقال الآني، والذي لا يصبح فيه المنطق السليم المقوم علميًّا – الذي بمقتضاه نحن حيوانات من صنف الإنسان العاقل – هو الوضع الافتراضي.
ويجب أن يكون هكذا. فنحن في الأساس كائنات مجسدة، وكائنات حية. وإن تصور الفلاسفة خلاف ذلك، فإن السبب قد يكمن في استخدامهم للتجارب الفكرية، التي تُجرى من كرسي ذي مسند، حيث نتخيل أن نُحول إلى حجر ثم يُعاد إحياؤنا، أو نتصور أنفسنا مستيقظين بجسد خنفساء. و منهج الكرسي له منافعه، ولكنه يكون مضللا هنا: فبوسعنا أن نتخيل النجاة من هذه الحوادث، لكن في الواقع لا يمكننا أن ننجو منها. فما نحن عليه أساسًا يظهر لنا من خلال الدراسة التجريبية للحياة البشرية، وبيولوجيتنا لا تسمح بمثل هذه المغامرات الخيالية.
إن هويتنا الجسدية جليةً أيضًا في تجربة العزلة التي نتشاركها الآن. وعندما نتواصل مع الأصدقاء والزملاء من خلال محطاتنا وأجهزة الكمبيوتر المحمولة والهواتف، يكون هنالك فراغ بيننا. فلا يمكننا الإحساس بأنفاس بعضنا الآخر أو حركاتنا ولا النظر إلى الشيء نفسه في محيطنا ولا الشعور بدفء بعضنا، أو الوقوف معًا أو على مسافةٍ، ولا يمكننا لمس بعضنا. فما نحصل عليه هو انطباع، وليس الشيء ذاته.
يُظهر الجهد الناتج عن التباعد الاجتماعي والقصور المحسوس في التفاعل الافتراضي حقيقةً أساسيةً للهوية الشخصية: نحن كائنات جسدية، ولسنا بتيارات من الوعي. وفي رغبتنا للاتصال مع بعضنا، فإننا نتوق إلى التقارب الجسدي وليس فقط القرب النفسي. وعندما نتواصل عبر شاشاتنا، فإننا نشعر بغياب الآخرين حتى عندما يشاركون أفكارهم. لهذا السبب يعد “زوم Zoom” أمرًا جيدًا وسيئًا في الوقت نفسه.
ليس من السهل التنبؤ بآثار هذا الحرمان. فهل سيعزز وهم التحرر من الجسد، وحلم الهروب الرقمي؟ أم أنه سيحثنا على الاعتزاز بحياتنا التناظرية؟ إن ضعفنا العضوي بات ظاهرًا في الصحف وعلى الشاشات، و حجمه مقلق وغير مؤكد حتى الآن. لذلك، نلجأ إلى مكان ما. وآمل أن تفضي بنا عزلتنا إلى تقدير ما نحن عليه حقًا، وإدراك ما يعنيه أن نكون مع الآخرين شخصيًا- كأجسام، وليس بصفتنا مجرد عقول.
كيران سيتيا أستاذ فلسفة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وهو مؤلف كتاب منتصف العمر: دليل فلسفي
Midlife: A Philosophical Guide
بقلم: كيران سيتيا | ترجمة: لمياء العريمية | تدقيق الترجمة: عهود المخينية | المصدر