قُرَّاء العقل

بقلم : روجر هايفيلد | ترجمة : موزة الريامي

ما يزال الآلاف من الناس عالقين في الحد الفاصل بين الحياة والموت. وثلاثة علماء يعملون على إنقاذهم..

“تخيّل أنك استيقظت لتجد نفسك داخل صندوق مقفلٍ وكبيرٍ بما يكفي لحمل جسمك، وصغيرٍ للغاية بحيث لا يمكنك التحرك فيه!” أدريان أوين – عالم أعصاب

 

إن مقاس الصندوق يتسع لك حتى آخر إصبع من أصابع يديك وقدميك. إنه صندوقٌ غريب، حيث يمكنك الاستماع لكل ما يدور حولك  ومع ذلك، لا يُمكنك إِسماع صوتك. في الواقع، تم تركيب الصندوق على نحوٍ ضيّق حول وجهك وشفتيك لدرجةِ لا تسمح لك بالتحدث، أو إحداث أيّ جلبة. وعلى الرغم من أنك تستطيع رؤية كل شيء يدور حول الصندوق، إلا أن العالم الخارجي لا يُدرك ما يجري في الداخل.

وأضاف أوين: “في الداخل، هناك الكثير من الوقت للتفكير. ستكون البداية مسلية بشكلٍ غريب. ثم سينقلب هذا الشعور ليجعلك ترتطم بأرض الواقع، أنت محاصر ترى وتسمع عائلتك وهي تأنب مصيرك. وعلى مر السنين، ينسى مقدمو الرعاية تشغيل التلفزيون لتسليتك. كما ستشعر ببرودة شديدة تسري في أطرافك لتلحقها حرارة شديدة. سيتملكك دائماً شعور الظمأ. وتتضاءل زيارات أصدقائك وعائلتك.  سيرحل عنك شريكك. وليس هناك ما يمكنك فعله حِيال ذلك “.

 كنتُ و أوين نتحدث عبر برنامج سكايب. أنا مقيمٌ في لندن بالمملكة المتحدة، وهو في لندن أخرى على بُعد ثلاثة أميال ونصف في جامعة ويسترن أونتاريو بكندا. يلوحُ لي شعر أوين المُحمرّ ولحيته القصيرة بشكل كبير على شاشتي كلما تحرّك وهو يصف عذاب من لا صوت لهم: المرضى الآخرين 

يستيقظ الناس الذين يعانون من  “الحالة الإنباتية أو الحالة الخُضرية” لكنهم غير مدركين،  يفتحون عيونهم أحياناً وأحيانا أخرى يتجولون، ترتسم الابتسامة على شفاههم ، وربما يلمسون من يمد يده لهم . ستراهم في بعض الأحيان  يبكون، أو يتأوهون أو حتى يشخرون، لكنهم غير مبالين بتصفيق اليد ، وغير قادرين على رؤية ما حولهم أو فهم الحديث الذي يدور حولهم. حركاتهم ليست ذات مغزى أو هدف ولكنها انعكاسية. لقد تبيّن أنهم استنزفوا ذكرياتهم وعواطفهم ونواياهم ، تلك الصفات التي تجعل كل واحدٍ منا فردًا. بقيت عقولهم مقفلةٌ بإحكام. ومع ذلك ، عندما ترفّ جفونهم منفتحةً ، فإنك دائمًا ما تتساءل عمّا إذا كان هناك بصيصٌ من الوعي.

قبل عقدٍ من الزمان، كان الجواب ينبغي أن يكون كئيبًا وحاسمًا.. كلا.. إنه ليس كذلك بعد الآن. وجد أوين أن البعض قد يكونون عالقين داخل أجسامهم، ومع ذلك هم قادرون على التفكير والشعور بدرجات متفاوتة، وذلك باستخدام الماسحات الضوئية للدماغ.  ارتفع عدد المرضى الذين يعانون من اضطرابات في الوعي في العقود الأخيرة ، ومما يدعو للسخرية أن السبب وراء ذلك هو زيادة ونجاح العناية المركزة والتقنيات الطبية. لقد تحسن أداء الأطباء بشكلٍ مطّرد في إنقاذ المرضى الذين يعانون من إصابات كارثية ، على الرغم من أن إنعاش القلب يظل أسهل بكثير من إحياء وتنشيط الدماغ. في الوقت الحاضر، تسكن العقول المغلقة والمدمرة والمتناقصة في العيادات وبيوت الرعاية في جميع أنحاء العالم – ففي أوروبا وحدها، يُقدّر عدد الحالات الجديدة للغيبوبة بنحو 230.000 حالة سنويًّا ، و يعاني حوالي 30.000 منهم من حالة إنباتية مستديمة. إنهم بعض من القطع الأثرية الأكثر مأساوية وكلفة في العناية المركزة الحديثة.

يُدرك أوين هذا بشكلٍ جيد. فقي عام 1997، انطلقت صديقة مقربة له بسيارتها إلى العمل كالعادة . كانت آن * تعاني من ضعف في الأوعية الدموية في رأسها ، والتي تعرف باسم تمدد الأوعية الدموية في الدماغ.  بعد خمس دقائق على انطلاق رحلتها ، انفجر تمدد الأوعية الدموية واصطدمت آن في شجرة، و لم تستعد وعيها أبدًا.

هذه المأساة تركت أوين خدِرًا -فاقد الحِس-، إلا أن حادث آن سيشكل ما تبقى من حياته. بدأ أوين يتساءل ما إذا كان هناك طريقة لتحديد أي من هؤلاء المرضى كانوا في غيبوبة غير واعية ، وأيّهم في غيبوبة واعية، ومن منهم كان ما بين هاتين الحالتين؟

في ذلك العام، انتقل  أوين إلى وحدة العلوم الإدراكية والدماغ، التابعة لمجلس البحوث الطبية في كامبريدج ، حيث يستخدم الباحثون تقنيات المسح الضوئي المختلفة. كانت التقنية الأولى التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني (PET)، حيث يسلط الضوء على عمليات الأيض المختلفة في الدماغ، مثل الأكسجين واستخدام السكر.  بينما كان يُطلق على التقنية الأخرى التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) ، ويمكن لهذه التقنية أن تكشف عن المراكز النشطة في الدماغ عن طريق الكشف عن الطفرات الصغيرة في تدفق الدم التي تظهر على أنها تشوّش عقلي. لقد تساءل أوين عمّا إذا كان بإمكانه استخدام هذه التقنيات للتواصل مع المرضى ، مثل صديقته العالقة بين الإحساس والنسيان. كان يجول في عقله سؤال بسيط مُضلل: كيف نعرف أن شخصًا آخر واعيًا؟

“تم تشخيص هذا الرجل بأنه في حالة خُضرية /إنباتية مستديمة. لكن عائلته تعتقد أنها شهدت له لحظات من الإدراك وأدلة على وعيه.  وقد أخذوه على نفقتهم الخاصة إلى لييج لمعرفة ما إذا كان لديه متلازمة المُنحبِس – حالة مرضية يكون فيها المريض في حالة استيقاظ ووعي ولكنه غير قادر على التواصل الشفهي مع الآخرين لكونه في حالة شلل كامل – ” © Cédric Gerbehaye/Agence VU


قبل نصف قرن من الزمن، إذا توقف قلبك عن النبض ، يمكن أن يتم إعلانك ميتًا على الرغم من أنك قد تكون واعيًا تمامًا لدرجة أنك تدرك أن الطبيب قد أرسلك إلى المشرحة. هذا في أغلب الاحتمالات ، يمثّل حسابات سيئة السمعة عبر تاريخ أولئك الذين “عادوا من الموت”. وكنتيجة طبيعية، تم حث أولئك الذين كانوا يخشون من دفنهم أحياء لتطوير “توابيت السلامة” المجهزة بأنابيب التغذية والأجراس. ومؤخرًا في عام 2011 ، أعلن مجلس في مقاطعة ملاطيا بوسط تركيا أنه بنى مشرحة بنظام إنذار وأبواب ثلاجة يمكن فتحها من الداخل.

ماذا نقصد بالميّت؟ ومن يجب أن يتولى إعلان موت شخص ٍما ؟ هل الكاهن أم المحامي أم الطبيب أم آلة معينة هي من تُحدده؟ ناقش أوين هذه القضايا في ندوةٍ في البرازيل مع الدالاي لاما، ويقول إنه فوجئ عندما وجد أنهما اتفقا بقوة على نقطة واحدة هي: نحنُ بحاجة إلى إنشاء إطار أخلاقي للعلم يستند إلى وجهات نظر علمانية وليست دينية. العلم وحدهُ يجب أن يُحدد ما نعنيه بالموت.

تكمن المشكلة في أن التعريف العلمي لـ “الموت” يظل ملتبسًا مثل تعريف “الوعي”. إذ يخلّف مصطلح “الموت السريري”، وتوقف الدورة الدموية، والتنفس، الكثير من الالتباس. وعلى الرغم من أن هذا الالتباس متقلب ومتغير، إلا أنه غالبًا ما يُستخدم هذا المصطلح -الموت السريري- من قِبل مُناصري ثنائية العقل والجسم الذين يتشبثون بالاعتقاد بأن الروح (أو النفس) يمكن أن تستمر بشكلٍ منفصل عن الجسم. ومع ذلك،  أوضحَ أوين أن البقاء على قيد الحياة في الوقت الراهن لم يعد مرتبطًا باستمرار القلب بالنبض. يطرح أوين عددا من التساؤلات: إذا كان لديّ قلب اصطناعي، هل أنا ميت؟ إذا كنتَ تعتمد على جهاز حفظ الحياة، هل أنت ميت؟ هل الفشل في الحفاظ على أسباب الحياة المستقلة تعريفًا معقولًا للموت؟ الإجابة هي حتماً لا، وإلا سنكون جميعنا “ميتين” في الأشهر التسعة الأولى قبل الولادة.

تصبح هذه المسألة ضبابيةً أكثر عندما نعتبر أولئك المحاصرين في عوالم الشفق بين الحياة الطبيعية والموت من الذين تتأرجح حالتهم بين الوعي وخارج الوعي. بينما يصنف العالقين في  “حالة الحد الأدنى من الوعي “، من الذين أصيبوا بحالة خُضرية أو غيبوبة على نحوٍ خطير. ظهر هؤلاء المرضى لأول مرة في أعقاب تطور جهاز التنفس الاصطناعي في خمسينيات القرن الماضي في الدنمارك. وقد أعادَ هذا الاختراع تعريف نهاية الحياة من حيث فكرة موت الدماغ، وخلقَ تخصص الرعاية المركزة. وقد  وُصف المرضى الذين لا يستجيبون أو يغيبون غيبوبةً يظهر عليهم أنهم غير قادرين على الاستيقاظ مرةً أخرى بأنهم ” أشخاص خُضريين لديهم حياة باهتة أو غير نشطة” أو ” أشخاص واهنين أو ضعيفي الإرادة”. وكما هو الحال دائمًا عند معالجة المرضى، تعد التعاريف حرجة ، مثل: فهم فرص الشفاء وفوائد العلاجات، وما إلى ذلك، حيث تعتمد جميعها على تشخيص دقيق.

تم تنفيذ العديد من الأعمال الرائدة لفهم وتصنيف اضطرابات الوعي في عام 1960 من قبل طبيب الأعصاب فريد بلوم في نيويورك وجراح الأعصاب بريان جينيت في غلاسكو. لقد كان هذا الثنائي غريبا، حيث كان  جينيت، أو (ب.ج) كما هو معروف لدى زملائه، شخصًا متحفظًا ومهذبًا ولديه عقل خارق وتحليلي بشكل غير عادي. أما بلوم، فقد كان أكبر من الحياة، وهو قائد ومعلم ملهم، اشتُهر بطرقه الغريبة في تشخيص الحالات العصبية.  وتُعد “قصص فريد بلوم” زاخرة: إنه يشخّص إهمال نصف الأطوار (عندما يؤدي التلف في نصف الكرة المخية إلى جعل الشخص يتصرف كما لو أن وجهه الآخر غير موجود) من خلال معرفة ما إذا كان المريض يستطيع أن يخبره ما إذا كانت نظارته مائلة وأن ذراعًا واحدة قد سُحبت من كُمِّ معطفه.

ابتكر بلوم مصطلح “متلازمة المنحَبِس” التي يُدرك ويستيقظ فيها المريض لكنه لا يستطيع الحركة أو التحدث. و ابتكر جينيت مع بلوم مقياس غلاسكو للغيبوبة لتقييم عمق الغيبوبة من الحد الأدنى 3 إلى الحد الأقصى 15. وتابع جينيت مع مقياس غلاسكو النتائج لقياس مدى التعافي من الموت إلى الإعاقة الخفيفة. واعتمدا سويًّا مصطلح “الحالة الإنباتية المستديمة” للمرضى الذين كتبا عنهم “يمرون  بفتراتٍ من اليقظة عندما تفتح عيونهم وتتحرك؛ وتقتصر استجابتهم على الحركات البدائية و الانعكاسية للأطراف، ولا يتحدثون أبدًا “. في عام 2002 ، كان جينيت من بين مجموعةٍ من أطباء الأعصاب الذين اختاروا عبارة “الحد الأدنى من الوعي” لوصف أولئك الذين يكونون في بعض الأحيان مستيقظين ويدركون جزئيًّا، والذين يُظهرون علامات عدم انتظام في الوعي بحيث يتمكنون في وقتٍ ما من اتباع تعليمات بسيطة، وآخرين قد لا يكونون قادرين على ذلك. وبهذه الطريقة، أطلق (اليين)* بلوم و(اليانغ)* جينيت مجال علم الغيبوبة. وإن كنا حتى اليوم ما زلنا نتجادل حول من هو واعٍ ومن هو ليس كذلك.  *(ترمز علامة اليين واليانغ لكيفية عمل الأشياء في العلم الصيني القديم : طاقتان متضادتان، طاقة اليين “الأسود” وطاقة اليانغ “الأبيض” وهما الطاقتان المؤديتان لحدوث أي شيء في الحياة ).


يمتلك أدريان أوين روتينًا مشحوذًا يستخدمه في المناسبات العامة. حيث كان أحد الموسيقيين الواثقين – وقد ساعدهُ على ذلك قضاءه 14 سنة كمغن رئيسي في فرقة تسمى  “You Jump First. كان يطلب من الجمهور رفع أذرعهم اليسرى فيطيعون. ثم يطلب منهم مرةً أخرى رفع أذرعهم اليمنى، فيستجيبون. وأعلن لهم قائلاً :”أنا أعلم أنكم واعون لأنكم قد رفعتم أيديكم” .

ومثل أنواع الاختبار في الأعمال الدرامية الطبية التي لا تعد ولا تحصى ، عندما يمسك الطبيب يد مريض يبدو فاقدًا للوعي يقول له: “اضغط على يدي إن كنت تسمعني”. يمثل تشديد قبضة اليد فعل الإرادة. يقول أوين إن هذا التفاعل الأساسي بين عقلين واعيين هو الإشارة الحقيقية الوحيدة على كونهما واعيين ومستيقظين. ولكن ماذا لو لم يقم المريض بالضغط على اليد؟ ما الذي يُفترض أن يفكر فيه الطبيب بعد ذلك؟

إن التصور العام للكوما  -الغيبوبة- (Koma كلمة يونانية ، تعني “النوم العميق”) هو أنها عبارة عن مريض يرقد بسلام، وعيناه مغمضتان، دون بصيص من التيقظ أو الوعي، ليستيقظ في نهاية المطاف لتحقيق الشفاء التام. إن صور أفلام مثل (Hable con Ella (Talk to Her) و (While You Were Sleeping) بعيدة كل البعد عن التنبيب – تعبير يشير إلى عمليات المنظار – و سلاسة وشك الواقع  : شخصٌ لا يمكنه الاستيقاظ هو شخصٌ لا يستجيب للألم أو الضوء أو الصوت ولا يخضع لدورة عادية من النوم واليقظة.

دخلت كيت بينبريدج ، وهي معلمة تبلغ من العمر 26 عامًا ، في غيبوبة بعد ثلاثة أيام من إصابتها بمرض يشبه الأنفلونزا.  أصبح دماغها ملتهبًا بما في ذلك المنطقة الأولى فوق الحبل الشوكي وجذع الدماغ التي تتحكم بدورة النوم. بعد بضعة أسابيع من اختفاء العدوى، استيقظت كيت من الغيبوبة ولكن تم تشخيصها على أنها كانت في “الحالة الخُضرية” – إحدى حالات اضطراب الوعي تحدث نتيجة وقوع أضرار أو تلف بخلايا المخ. لحسن الحظ، كان الطبيب المسؤول عنها هو ديفيد مينون، طبيب العناية المركزة، وهو باحث رئيسي في مركز تصوير وولفسون للدماغ الذي اُفتتح حديثًا في كامبريدج، حيث عمِل أدريان أوين لاحقًا.

تساءل مينون عمّا إذا كان من الممكن الاحتفاظ بعناصر المعالجة المعرفية لدى المرضى في الحالة الخضرية. وقد  ناقش الباحث مع أوين كيفية استخدام التصوير العصبي للكشف عنها. وفي عام 1997، وبعد أربعة أشهر من تشخيصها بالحالة الخضرية، أصبحت كيت أول مريض تم دراسته بهذه الحالة من قبل مجموعة كامبريدج. وفي عام  1998، تم نشر النتائج التي ظهرت بشكل غير متوقع. أظهرت النتائج أن كيت لم تتفاعل مع الوجوه فقط، بل كانت استجابات دماغها لا تختلف عن ردود أفعال المتطوعين الأصحاء

كانت النتائج ذات أهميةٍ بالغة، ليس فقط بالنسبة للعلم وإنما بالنسبة إلى كيت ووالديها أيضًا، وقال مينون: “إن وجود المعالجة المعرفية المحفوظة أزال الجهل عن وضع المرضى بشكلٍ عام، وأدعم قرار مواصلة علاج كيت بشدة”.

بعد ستةِ أشهر من التشخيص الأولي، تعافت كيت  من محنتها. وقد وصَفت كيف كانت مدركة بالمحيط حولها في بعض الأحيان. إذ كانت تستيقظ وتغفو كل يوم، ولكنها  لم تستطع الإجابة على أسئلة الناس، حالها كحال المرضى الذي يعانون من نفس المرض. والأسوأ من ذلك، كانت تعاني من العطش الشديد الذي لم يُروَ أبدًا.

تقول كيت: “قالوا إنني لا أستطيع الشعور بالألم؛ لكنهم كانوا مخطئين”. كانت في بعض الأحيان تبكي، لكن الممرضات اعتقدن أنه كان مجرد رد فعل لا إرادي. لقد شعرت بالعجز واليأس. لم يكن لدى العاملين في المستشفى أيّة فكرة عن مدى معاناتها في رعايتهم، لقد وجدت كيت العلاج الطبي مخيفًا: إذ لم تشرح الممرضات أبدًا ما كنَّ يفعلنه لها. كانت مرعوبة عندما أزالوا المادة المخاطية من رئتيها. وكتبت : “لا أستطيع أن أخبركم كم كان الأمر مخيفًا، وخاصةً عندما تم شفط المادة عبر الفم”. في وقتٍ من الأوقات، سيطر عليها الألم واليأس لدرجة أنها حاولت أن تُنهي حياتها من خلال حبس أنفاسها. “لم أستطع منع أنفي من التنفس، لذلك لم ينجح الأمر، يبدو أن جسدي لا يريد الموت”.  

أوضحت كيت أن شفاءها لم يكن يشبه إلى حدٍّ بعيد إشعال الضوء، وإنما كان استيقاظًا متدرجًا، فقد استغرق الأمر منها خمسة أشهر قبل أن تبتسم، وخلال ذلك الوقت فقدت وظيفتها وشعورها بحاسة الشم والتذوق، والكثير مما كان يمكن أن يكون مستقبلاً طبيعياً. الآن وبعد أن عادت مع والديها، ما زالت كيت معاقة للغاية وتحتاج إلى كرسي متحرك. بعد مضي اثني عشر عامًا على مرضها، بدأت تتحدث مجددًا، وعلى الرغم من أنها لا تزال غاضبة من الطريقة التي عولجت بها عندما كانت في أشد حالاتها ضعفًا، إلا أنها لا تزال ممتنة لأولئك الذين ساعدوها في التحرر.

أرسلت كيت مذكرة إلى أوين:

عزيزي أدريان ،

أرجو منك استخدام حالتي لتوضح للناس مدى أهمية عمليات الفحص التصويري. أريد أن يعرف المزيد من الناس عنها. أنا مؤيدة ومناصرة كبيرة لعمليات الفحص بالتصوير. لم أكن مستجيبة للعلاج وبدا أنني كنتُ يائسة، لكن الفحص والتصوير أظهرا للناس أنني كنت هناك.

لقد كان مثل السحر الذي وجدني.


عندما تكون مستيقظًا، يتعين على عقلك أن يعي سلسلة من المعلومات من خلال حواسك. ولتحقيق أقصى استفادة من الموارد المحدودة للمعلومات في معالجة البيانات، طوّر أسلافنا عقلًا يمكنه التركيز على اقتراب الرمح أو الأسد المتربص بدلاً من التركيز على الامتداد الواسع لمناظر السافانا الطبيعية.  يمكن للمرء أن يفكر في الأمر على أنه نقطة انتباه تنير أو تضيئ المعلومات الحسية الرئيسية في الدماغ، والتي تدخل بعد ذلك في الانتباه الواعي. هذا ما يتنبّه عليه العقل في العالم الخارجي، مع الوعي بتركيزه ودرجة يقظته التي تضبط حدته.

يُعد ستيفن لوريس ، الذي يقود مجموعة علوم الغيبوبة في جامعة لييج في بلجيكا ، أحد الباحثين عن مصدر هذه الإضاءة. لقد جلس أمامي ممسكًا بعقل بلاستيكي صغير، يتكون من جزر زرقاء على سطحه، واحدة في المقدمة وأخرى في الخلف. كان يقسمها إلى قسمين، ويكشف عن نقطة زرقاء أخرى بعمق، كشفت هذه بدورها عن المِهاد، وهو هيكل ذو جانبين يقع فوق جذع الدماغ ويعمل كمحطة نقل للمعلومات الحسية الواردة. وقال موضحًا :”لا يوجد شيء مثل (منطقة الوعي) في الدماغ”. لكن قم بإسقاط فحوصات الرنين المغناطيسي الوظيفي للمرضى الخضريين الذين يستيقظون وهم غير مدركين من فحوصات أولئك الذين يستيقظون ويدركون تمام الإدراك، ستجد الفرق يتلخص في “شبكة الوعي أو الانتباه” ، وهي المناطق المميزة باللون الأزرق على الدماغ البلاستيكي.

وصف لوريس تجربة فكرية قائلًا: “إذا استخدمت مشرطا لإزالة المناطق الزرقاء، فستظل مستيقظًا وتتنفس وتتحرك ولكنك لن تكون مدركًا. وأوضح أن الأمر ينطبق على شبكات مماثلة من الثدييات الأخرى بدرجات متفاوتة ، ومن غير المرجح أن تكون الفكرة التقليدية القائلة بأننا وحدنا في حين أن جميع الحيوانات الأخرى تتحرك آليًا بدون وعي، هي فكرة صحيحة. وأضاف “بالنظر إلى دراساتنا عن المرضى الخضريين، فقد كنا نميل إلى الاستخفاف بالوعي في الماضي”.

تتوافق فكرة شبكة الوعي هذه مع نظريات الوعي المختلفة ، مثل “مساحة العمل العالمية” (global workspace) التي اقترحها لأول مرة عالم الأحياء العصبي أمستردام برنارد المولود في باريس. تشير خلاصة النظرية إلى أن الوعي ينبثق من الخلايا العصبية الموزعة في جميع أنحاء القشرة في شبكةٍ تمزج المعلومات الحسية وتصفّي المعلومات المتناقضة أو غير الضرورية لإنشاء صورة موحدة للواقع.

هذه الفكرة تُكمّل عمل نيكولاس شيف في كلية طب وايل كورنيل في نيويورك، الذي بدأ به عند التدريس في مدرسة فريد بلوم، كطبيب أعصاب. إن حياة شيف العملية هي عمل متوازن بين وضع اهتمامات مرضاه وأسرهم في المقام الأول، والمضي قدمًا نحو العلم في صراعه مع اضطرابات الوعي. كان يقول “هناك الكثير لا نعرفه “. وأضاف معترفًا : “صراحةً ، أنا مخطئ في كثير من الأوقات”.

بدأ شيف في تجميع هذه الدوائر العصبية، بناءً على التجارب الرائدة التي أُجريت على القطط في الأربعينيات من القرن الماضي. والتي أظهرت كيف يُمكن إحياء الحيوانات من التخدير عن طريق تحفيز المِهاد ، الذي يلعب دورًا حاسمًا في أوركسترا الدماغ المعقدة. تشير الدراسات إلى أن الجمهرة المستهدفة للخلايا العصبية (الخلايا العصبية في المهاد) ، التي تصدر إشعاعًا من هذا المحور إلى القشرة الخارجية (قشرة المخ) وكل ركن من أركان الدماغ ، لها دور رئيسي في الاستيقاظ والتنبيه . وعلى نفس المنوال ، فإن لها دورًا رئيسيًا في الغيبوبة أيضًا: فهي أكثر عُرضة من الخلايا العصبية الأخرى للضرر ، مثل تجويع الأكسجين ، مما يساعد على تفسير السبب الذي قد يجعل تلف الدماغ يؤدي إلى فقدان الوعي.

يهتم شيف بكيفية ارتباط وظيفة التتابع التي تُمثل المهاد ببنية محيطة تسمى المخطط ، وبالقشرة الأمامية. ومن بين هذه المناطق العميقة من الدماغ توجد منطقة تُسمى المجمع الإنسي الخلفي (the posterior medial complex) ، وهي شبكة يكون نشاطها ضعيفًا في العقول الخضرية.

CC-BY: Bret Syfert/Wellcome Images

 

المهاد والفص الجبهي أكثر نشاطًا أيضًا في المرضى الواعين والمرضى المُنحبسين. وقد قام شيف ولوريس معًا بتحديد ثلاث دوائر دماغية عريضة – تلك الموجودة في المهاد، و الفص الجبهي والمجمع الإنسي الخلفي – التي تعد مفتاحًا للوعي.

في اللقاءات العلمية، حدد شيف نسخة أكثر تفصيلاً من هذا الهيكل العصبي ، تسمى “الدائرة المتوسطة” ، والتي تتكون في الواقع من دائرتين تربطان المهاد بالقشرة الدماغية. تحفز بعض الوصلات التي تتضمنها الدائرة المتوسطة نشاط الأعصاب، والبعض الآخر يقلله أو يمنعه. إجمالاً ، أعلى مستوى من الوعي يبرز باعتباره تحالفا ديناميكيا لهاتين الشبكتين التفاعليتين المتوازيتين. هذه النظرية التي يضعها شيف ولوريس على المحك، تكشف أيضًا عن طريقة يمكن للمرء من خلالها بدء تشغيل الدماغ المتوقف. على مر السنين، أظهرت سلسلة تجارب لافتة للنظر كيف يمكن استعادة إقناع العقل بالوعي.


في عام 1995، درس شيف حالة امرأة تبلغ من العمر 81 عامًا تعاني من وعي مضطرب. وقد عانت من إهمال حيزي نصفي نتيجةً لتعرضها لسكتة دماغية حادة. إذ لم تكن قادرة على تمييز يدها اليمنى على أنها يدها. تم رش الماء البارد في أذنها ، كاختبار قياسي لمعرفة مدى توازن استجابتها. ومما أثار دهشة شيف، أن الماء قد غير كل أعراضها تقريبًا : لقد صرخت “هذه يدي”. اعتقد شيف أن البرد قد حفّز أذنها الداخلية ، التي تتحكم في إحساس التوازن من خلال الجهاز الدهليزي ، وبدورها -الأذن الداخلية-  حفّزت المهاد الذي يربط بين الشبكات التي تمزقت بفعل السكتة الدماغية. بعد مرور أربع دقائق ، وبعد أن دفأ الماء ، فقدت المرأة الإحساس بيدها مرة أخرى.

لقد ساعدتهُ الحالة على تطوير أساسيات علم الأعصاب لكيفية زيادة الوعي في الدماغ المتوقف في طي النسيان عن طريق تحفيز المهاد. مسلحًا بهذا الفهم ، قدّم شيف نظرةً ثاقبة لاكتشاف مفارقة مفادها أن بعض المرضى في الحالات الخضرية يمكن إيقاظهم عن طريق مسكن/مخدر الزولبيديم . واحدة من الحالات الأكثر شهرة وانتشارًا هي حالة لويس  فيلجوين من جنوب أفريقيا، الذي بقيَ خضريًا بسبب حادث سير. وذات يوم من عام 1999 أعطى والي نيل، وهو طبيب عام يعمل بالقرب من جوهانسبرغ، لويس المخدر لتخفيف الطريقة التي كان يحك بها جلده في فراشه. وبدلًا من أن يسترخِي، جلس فيلجوين في وضع مستقيم ، وابتسم قائلًا: “مرحبًا يا أمي. هل أنا في المستشفى؟ ” . يعتقد شيف أن الدواء يثبّط  ما يسمى بـ” الخلايا العصبية الشوكية المتوسطة ” في جزء من الدائرة المتوسطة التي تربط النواة المخططية والكرة الشاحبة والمهاد. يقول شيف، كما أن القليل من الكحول يمكن أن يحفّز وينشط الطنين في البداية، فيمكن أن يساعد الزولبيديم في “تشغيل الدماغ بدلاً من إيقافه” .

أظهرت دراسة أجراها شيف ولوريس كيف أن الموجات البطيئة لنشاط العصب، من النوع الذي يُنظر إليه أثناء النوم أو التخدير ، تغسل المخ قبل إعطاء الدواء، ولكن بعد ذلك تفسح التزامنية البطيئة الطريق أمام فرقعة موجات المخ عالية التردد التي تظهر عادة في المرضى الواعين. تحكي صور PET نفس القصة، وتكشف عن كيفية تكثيف الدواء لعملية الأيض في الدماغ.  تحدث تأثيرات مماثلة عن طريق مركب آخر، وهو عقار أمانتادين المضاد لشلل الرعاش. وجد فريق لوريس في لييج أن حوالي نصف المرضى في حالة الحد الأدنى من الوعي يظهرون تحسنًا معتدلاً في الوعي نتيجةً لتلقي الدواء.

يمكن رفع شبكة الوعي كهربائيًا. فقد اختبر لوريس وزملاؤه مؤخرًا تحفيز التيار المباشر عبر الجمجمة (tDCS) ، حيث تستخدم أقطاب فروة الرأس لتمرير تيار ضعيف مباشر عبر الجمجمة لتغيير استثارة أنسجة المخ الكامنة. طبّق فريق من جامعة لييج طريقة الـ tDCS لمدة 20 دقيقة على جزء من الدوائر المتوسطة لـ 55 شخصًا كانوا في حالة واعية أو خُضرية. وقد وجدوا أن 15 منهم أظهروا بصيصًا من الوعي نتيجةً لذلك.  كما أظهر البعض ردودًا على الأوامر، على الرغم من مرور عدة سنوات على إعلانهم في حالة الحد الأدنى من الوعي. الوضع الدرامي كان بما يتعلق بمريضين تم إعلانهما في حالة الحد الأدنى من الوعي قبل بضعة أشهر، إلا أن أسلوب tDCS مكّنهما من الإيماء بأعينهما أو تحريكها ردًّا على ستة أسئلة.

يوفر هذا الأسلوب طريقة قوية للبحث عن الدوائر التي يجب معالجتها لإيقاظ الدماغ الصامت. يقول لوريس موضحًا ” من الناحية النظرية على الأقل ، يقدم أسلوب tDCS  طريقة أخرى لإعادة تنشيط الدوائر لمساعدة الدماغ التالف على استعادة بعض الوظائف، حتى بعد عدة سنوات من تعرضه لأضرار جسيمة”. ومع ذلك، فإن النتائج ليست رائعة مثل تلك التي شوهدت في حالة تم فيها تحفيز المهاد مباشرةً.

في عام 2005 ، طبّق شيف فهمه الناشئ لدوائر الوعي على جيم * ، وهو رجل يبلغ من العمر 38 عامًا تعرض للضرب والسرقة وتُرك واعيًا بحدٍّ أدنى. ظلت عيون جيم مغلقة، إذ لم يُظهر أي إشارة على وعيه حتى تتمكن عائلته من اكتشافها. بدت حالته ميؤوسًا منها. في نهاية المطاف ، أعطت والدة جيم أمر “عدم الإنعاش” للأطباء، لكن شيف كان يفكر بطريقة مختلفة.

كان شيف قد قام في وقتٍ سابقٍ بمسح / تصوير جيم عن طريق التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي في عام 2001.  لعب فريقه أدوارًا لموضوعات، بما فيها جيم، وهي عبارة عن شريط صوتي يتذكر فيه أحد أقاربه أو شخصًا يحبه. أظهر جيم أنماطًا شبه طبيعية في مناطق معالجة اللغة في دماغه وهذا ما قاله شيف أن بعض شبكات جيم العصبية ما زالت تعمل. في فحوصات الرنين المغناطيسي الوظيفي المفصلة، أظهر جيم أنه على الرغم من وجود دماغ شديد النشاط، كان يحافظ بقوة على الشبكات اللغوية واسعة النطاق. فعندما سمع قصة تعني شيئًا ما له، أضاء دماغه، مما شجع شيف على إحياء الفكرة التي بحث فيها لمدة عقد. ماذا لو قاموا بتنشيط مهاد جيم عن طريق تحفيز الدماغ العميق؟

تم زرع جهاز تنظيم ضربات الدماغ في رأس جيم. وبفضل نبضات الكهرباء المنتظمة التي وصلت إلى المهاد ، تمكن من استخدام الكلمات والإيماءات، والاستجابة بشكل واثق للطلبات، وتناول الطعام بشكل طبيعي، والاحتساء من الفنجان، والقيام بمهام بسيطة مثل تصفيف شعره. يعتقد شيف أنه بمجرد إعادة تنشيط المخ مع العالم ، فإنه يسرّع عمليات الإصلاح. على مدى السنوات الست المقبلة، وقبل وفاة جيم لأسباب لا صلة لها بوضعه، أبقى ذهنه فوق حالة الحد الأدنى من الوعي. يقول شيف: “كان بإمكانه التحدث في جمل قصيرة بشكل واثق وثابت ويستطيع التعبير عن رغباته. كما كان بإمكانه مضغ وابتلاع وتناول الآيس كريم والتسكع. لقد أخبرتنا عائلته أنه عاد بينهم”. وقد أخذت هذه الحالة مكانًا في الصفحة الأولى لصحيفة نيويورك تايمز. يقول شيف أخبرتني والدته في الوقت الذي عاد فيه جيم “صليتُ من أجل معجزة” ، وأن “الجزء الأكثر أهمية هو أنه يستطيع أن يقول (أمي وأبي ، وأنا أحبك )، بارك الله في هؤلاء الأطباء الرائعين. ما زلتُ أبكي في كل مرةٍ أرى فيها ابني ، لكنها دموع الفرح”.

© Cédric Gerbehaye/Agence VU


في الحرم الجامعي جنوب لييج ، يدرس ستيفن لوريس المرضى الخضريين في الأبحاث التي تعود إلى عقود. كان يعمل هناك كجزء من مركز أبحاث السيكلوترون في التسعينيات، وقد فوجئ عندما كشفت فحوصات الدماغ PET أنه يمكن للمرضى أن يستجيبوا لذكر أسمائهم: والأصوات ذات المغزى أنتجت تغييرًا في تدفق الدم داخل القشرة السمعية الأولية. وفي الوقت نفسه، وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، وجد نيكولاس شيف أنه في داخل الأدمغة المصابة كارثيًّا تقع مناطق عمل جزئية، وكتلة من النشاط العصبي المتبقي. ماذا يعني كل هذا؟ 

في ذلك الوقت، اعتقد الأطباء أنهم يعرفون الإجابات بالفعل: لم يكن أي مريض في حالة إنباتية مستديمة واعيًا.  بغض النظر عن أن التحديق في الصور أدى إلى تنشيط الدماغ، فقد وجدوا عيبًا في ذلك، إذ يمكنك القيام بذلك في قرد مخدّر. استنادًا إلى التجربة السابقة، من غير المرجح أن يتعافى المخ الذي يفتقر إلى الأكسجين نتيجة نوبة قلبية أو سكتة دماغية إذا لم يحدث علاجه في الأشهر القليلة الأولى. لقد عانى هؤلاء المرضى من مصير اعتبرهُ كثير من الناس أسوأ من الموت نفسه: كانوا في عِداد الموتى وظيفيًّا. اعتقد الأطباء بنوايا طيبة، أنه من المقبول تمامًا إنهاء حياة مريض خضري عن طريق الجوع وسحب الماء. لقد كان هذا هو عصر ما يسميه لوريس “العدمية العلاجية”.

ما اقترحه أوين ولوريس وشيف كان إعادة التفكير في بعض المرضى الذين كانوا يعتبرون في حالة خضرية. يمكن تصنيف عدد قليل منهم على أنهم واعين تمامًا ومنحبسين . وقد عارضت المؤسسة الطبية هذا بإصرار. يقول شيف: “لا يمكنك تخيل البيئة في أواخر التسعينيات”. مضيفًا “العداء الذي واجهناه تجاوز مجرد التشكيك البسيط”.  توقف لوريس ناظرًا للخلف وابتسم برفق قائلاً ” الأطباء لا يحبون أن يقال لهم أنهم على خطأ”. تحدث شيف ولوريس وأوين حول شخصيات منعزلة في المؤتمرات الأكاديمية ، في محاولة يائسة منهم لشرح ما توصلوا إليه من نتائج لأقرانهم ، الذين ظلوا غير مقتنعين ، بل وحتى عدائيين. لقد أُدينت أفكار الثلاثة بأنها مضيعةٌ للوقت.

ثم جاء عام 2006. كان أوين ولوريس يحاولان إيجاد طريقة فعّالة للتواصل مع المرضى في الحالة الخضرية، بمن فيهم جيليان *. في يوليو من عام 2005 ، كانت هذه الفتاة البالغة من العمر 23 عامًا تقطع طريقًا وتتحدث عبر هاتفها المحمول، ثم صدمتها سيارتين. ومع ذلك ، وعلى الرغم من أنها شُخّصت في حالة خضرية ، إلا أن هناك شيئًا ما حولها لفت انتباه مارتن كولمان من مجموعة أبحاث ضعف الوعي بجامعة كامبريدج ، والذي قام بدورهِ بتقديم حالتها للدراسة من قِبل أوين.

بعد خمسة أشهر، سمحت ضربة غريبة من الصدفة لجيليان بفتح صندوقها. وقد نشأ المفتاح من دراسة منهجية بدأها أوين مع لوريس في عام 2005. لقد طلبوا من المتطوعين الأصحاء تخيل القيام بأشياء مختلفة ، مثل الغناء أو استحضار وجه أمهاتهم. ثم كان لدى أوين فكرة أخرى. فقد قال ” لقد كان لدي حدس. لقد طلبت تحكمًا صحيًا لتخيل لعب التنس.  ثم طلبت منها أن تتخيل المشي في غرف منزلها. ” تخيل لعبة التنس ينشط جزءًا من قشرة الدماغ ، تسمى القشرة الحركية الإضافية، و التي تُعنى بالمحاكاة العقلية للحركات. لكن تخيل المشي في أرجاء المنزل ينشط التلفيف المجاور للحُصين و الفص الجداري الخلفي ، والقشرة الحركية الجانبية. كان نمطا النشاط مختلفين مثل “نعم” و “لا” . لذا ، إذا طُلب من الناس تخيل التنس بقول “نعم” والمشي في أرجاء المنزل مقابل “لا” ، يمكنهم الإجابة على الأسئلة عبر الرنين المغناطيسي الوظيفي. 

طلب أوين من جيليان أثناء التحديق في دماغها “الخضري” باستخدام الماسح الضوئي للدماغ أن تتخيل نفس الأشياء، وقد رأى أنماط التنشيط مماثلةً على نحوٍ مدهش للمتطوعين الأصحاء. لقد كانت لحظة كهربائية، ويمكن لأوين أن يقرأ عقلها.

إن حالة جيليان التي نُشرت في مجلة Science في عام 2006 ، تصدرت عناوين الصحف في جميع أنحاء العالم. وقد أحدثت النتيجة دهشة وتساؤلا، وبطبيعة الحال أثارت جدلاً وعدم التصديق. يقول أوين: “بشكل عام ، تلقيتُ نوعين من البريد الإلكتروني من زملائي”. هما  “إما قالوا (هذا مذهل – أحسنت! ) أو( كيف يمكنك أن تقول أن هذه المرأة واعية؟) “.

كما تقول الفكرة السائدة، الادعاءات الاستثنائية تتطلب دليلًا استثنائيًا. لقد كان رد المشككين بأنه من الخطأ القيام بهذه “الاستدلالات الجذرية” عندما ينبغي أن يكون هناك تفسير أكثر وضوحًا. أشار دانييل غرينبرغ، عالم نفسي في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، أن “نشاط الدماغ كان ناجمًا بغير وعي عن الكلمة الأخيرة من التعليمات التي تشير دائمًا إلى العنصر المراد تخيله”.

يقول باراشكيف ناشيف، طبيب أعصاب في كلية لندن الجامعية  حاليًا ، إنه اعترض على ورقة أوين التي قدمها عام 2006، ليس بسبب عدم معقوليتها أو التحليل الإحصائي الخاطئ فيها، وإنما بسبب “أخطاء في الاستدلال”. على الرغم من أن الدماغ الواعي، عندما يتخيل لعبة التنس، يُطلق نمطًا معينًا من التنشيط، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن نفس نمط التنشيط يدل على الوعي. يقول ناشيف أن نفس منطقة الدماغ يمكن تفعيلها في العديد من الظروف، مع أو بدون أي علاقةٍ واعية. علاوة على ذلك، كان يجادل بأن جيليان لم يُعرض عليها حقًا خيار حقيقي للتفكير في لعب التنس. وتمامًا كما يمكن أن يكون عدم الاستجابة ناتج بسبب عدم القدرة على الاستجابة أو عن قرار بعدم التعاون، فإنه يمكن أن تكون الاستجابة المباشرة على تعليمات بسيطة قرارًا واعيًا أو رد فعل. يقول ناشيف إنه سئم من القول مرارًا وتكرارًا لدى وسائل الإعلام أن القضايا المفاهيمية العميقة مع التقنيات المستخدمة لإعادة تعريف هذه الهالة من الوعي ما تزال دون حل.

يقول أوين إن ما نحتاج إليه هو فلسفة أقل وبيانات أكثر. أجرى كل من أوين و لوريس وزملائهما دراسة حالة  نُشرت في عام 2010 لـ 54 مريضًا في حالة تشخيص سريري لكونهم في حالة خضرية أو في حالة الحد الأدنى من الوعي؛ وقد استجاب خمسة منهم بنفس طريقة استجابة جيليان. كان من المفترض أن أربعة منهم في حالة خضرية عند دخولهم للمستشفى. اكتشف أوين وشيف ولوريس تفسيرات بديلة لما لاحظوه ، على سبيل المثال ، إنهم يعترفون بأن مناطق المخ التي يدرسونها عندما يستجوبون المرضى يمكن تنشيطها بطرقٍ أخرى. لكن ورقة عام 2010 استبعدت مثل هذه السلوكيات التلقائية كتفسير، إنهم يقولون: عمليات التنشيط تستمر لفترة طويلة جدًا للدلالة على أي شيء آخر غير المقصود. إن أوين ممتنٌ لنقّاده. لقد حفزوه، على سبيل المثال، حفزوه لتطوير طريقة طرح الأسئلة على المرضى الذين يعرفون كيفية الإجابة فقط. وعلق قائلا: “لا يمكنك التواصل بغير وعي – هذا غير ممكن”.  “لقد فزنا بهذه الحجة”.

منذ الورقة العلمية التي نشرها أوين في عام 2006 ، تشير الدراسات في بلجيكا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وكندا إلى أن نسبة كبيرة من المرضى الذين تم تصنيفهم على أنهم في حالة خضرية في السنوات الأخيرة قد تم تشخيصهم على نحو خاطئ – ، وبحسب تقديرات أوين فإن النسبة تصل إلى 20 %. بينما شيف ، الذي يزن مدى التشخيص الخاطئ بطريقة مختلفة ، يذهب إلى أبعد من ذلك. فيقول بناءً على الدراسات الحديثة أن حوالي 40 % من المرضى الذين يُعتقد أنهم خضريين، يدركون جزئيًا عند فحصهم عن كثب. من بين هذه المجموعة من المرضى المفترضين في حالة خضرية، أولئك الذين كشفتهم الماسحات الضوئية ليكونوا قادرين على التواصل يجب تشخيصهم على أنهم منحبسون، وما إذا كانوا واعين تمامًا أو إذا  كانت حالتهم في الحد الأدنى من الوعي وما إذا كانت قدراتهم قد اشتدت أو تضاءلت. لكن شيف يعتقد أن البقية سيتعين تعريفهم بطريقة أخرى تمامًا، لأن الوعي لا يعني بالضرورة القدرة على استخدام التصور العقلي. كما أن كونك على دراية كافية باتباع أمر لا يعني امتلاك القدرة على التواصل.

في عام 2009 ، سأل فريق لوريس أحد المجموعة الأصلية المكونة من 54 مريضًا أنه درس هو وأوين – المريض 23 – سلسلة من الأسئلة بنعم أو لا. لقد كان التمرين المعتاد: أجب بنعم لتخيل لعب التنس، وبلا للتنقل في أرجاء المنزل. تمكن لييج المريض، الذي كان في حالة خضرية  لمدة خمس سنوات، من الإجابة على خمسة من ستة أسئلة حول حياته السابقة، وكلها كانت صحيحة. هل كان في إجازة إلى مكان معين قبل إصابته؟ هل كان فلان الفلاني هو اسم والده؟ . قال لوريس إنها كانت لحظة مثيرة. وأضاف أوين، الذي ساعد بتسجيل نتائج الاختبارات بشكل مستقل : “لقد ذُهلنا”. وقال معقبًا ” بإظهارنا أنه كان واعيًا ومدركًا، فقد نقل المريض 23 نفسه من فئة (لا تُنعشه) إلى فئة (لا تسمح له بالموت) . هل أنقذنا نحن حياته؟ لا ، لقد أنقذ حياته بنفسه “.

© Cédric Gerbehaye/Agence VU

حدّق أوين في سكوت روتلي البالغ من العمر 39 عامًا ، وهو مستلقٍ على النقالة قائلاً: “هذه هي فرصتك الكبيرة،  فقط افعل ما بوسعك”. كان سكوت قد درس الفيزياء في جامعة واترلو بأونتاريو في كندا، لكن مسيرته المهنية الواعدة في مجال الروبوتات انتهت بعمر السادسة والعشرين عندما اصطدم بسيارةِ شرطة. منذ ذلك الحادث، وفي 20 ديسمبر 1999 ، تم تشخيص حالة سكوت على أنها حالة خضرية من قِبل طبيب أعصاب محنّك هو براين يونغ، وفي عام 2012 تم تأكيد تشخيصه من قِبل فريق أوين ، باستخدام الأساليب التقليدية مرةً أخرى.

لقد بقي فم سكوت مفتوحًا، لما كان يتحدّث إليه أوين، وعلى ما يبدو أنه كان غير مدرك، بنفس الطريقة التي كان عليها قبل 12 عامًا منذ وقوع الحادث.  وقد تم تصوير هذه المقابلة من قبل طاقم عمل من بي بي سي. وكان المراسل فيرجس والش موجودًا هناك ليشهد اللحظة التي حاول فيها أوين الوصول إلى داخل عقل سكوت. يعترف أوين الآن أنه كان يشك في أن عمليات المسح ستكشف عن أي شيء على الإطلاق.

قام الفريق بمسح -تصوير- سكوت عدة مرات. وما أدهشهم هو أن نمط نشاط الدماغ أظهر أن سكوت كان يعرف بالضبط من هو وأين كان، وأنه كان يختار الإجابة عن أسئلة الفريق بنشاط. قال أوين وهو يسترجع تلك اللحظات: “لقد توقف قلبي عندما سألنا عما إذا كان سكوت يعاني من الألم بعد 12 عامًا”. مضيفًا: “لحسن الحظ ، كان الجواب لا.”

على الرغم من أن زميلة أوين، لورينا ناسي، تحكي كيف أن تجربة إخبار عائلة روتلي بوضعه كانت “عاطفية للغاية”، فوجئ طاقم بي بي سي بافتقارهم النسبي إلى الاحتفالات. كان والدا سكوت، جيم وآن، وأخوه ريتش، مقتنعين دائمًا بأنه كان واعيًا. وليس أوين من كان مقتعنًا. أصروا على أنه يمكنه رفع إبهامه أو تحريك عينيه للإشارة ، على الرغم من أن الاختبارات القياسية قد وصلت دائمًا إلى نفس النتيجة القاتمة: كان سكوت لا يستجيب.

كان لدى سكوت نفس أخصائي الأعصاب – يونغ – لأكثر من عقد من الزمان وظهر في حالة خضرية في كل تقييم ، بما في ذلك أكثر من عشرات التقييمات المنفصلة التي قام بها فريق أوين الخاص به. ربما لاحظت الأسرة علامات خفية للوعي كان لا يمكن اكتشافها تقريبًا، حتى بالنسبة للعين المدربة. أو ربما أوهموا أنفسهم بذلك، كما تفعل العديد من العائلات من أجل الاطمئنان.  يقول أوين: “في كلتا الحالتين، كانت كلمة العائلة ضد كلمة فريقي، وكلمتهم ضد جيش من المتخصصين على مدار سنوات عديدة”. وبينما رأت الأسرة علامة على الإدراك، رأى الأطباء فقط تفكيرا بالتمني. “لقد أظهرت عمليات المسح أنهم كانوا على حق، ربما لأسباب خاطئة – لن نعرف أبدًا – لكن قصة سكوت تعلمنا قيمة التدابير الموضوعية. والحاجة إلى القليل من التواضع”. 

هناك أدلة غير مؤكدة على أنه عند إعادة الاتصال مع شاغلي صندوق المعيشة، فإنهم يشعرون بالضياع، وحتى الانتحار. لقد تعرضوا للإحباط بسبب عجزهم المطلق، على مر الأشهر، وحتى السنوات، قد يستغرق الأمر الاعتراف بمحنتهم. ومع ذلك، فإن روح الإنسان مرنة، لدرجة أنه يمكن أن يعتاد على الحياة في هذه الحالة التي ما بين الحياة والموت. في دراسة استقصائية للمرضى الذين يعانون من متلازمة المُنحبس، وجد لوريس أنه عندما يتم إنشاء خط اتصال، فإن الغالبية يتأقلمون مع وضعهم، وحتى أنهم يصبحون راضين بذلك (مرةً أخرى استغرقت هذه الرؤى بعض الوقت لتتقبلها المؤسسة الطبية والعلمية -وحتى نشرها في مجلة علمية- مما يعكس القلق السائد بشأن الآثار المترتبة على المستشفيات ودور الرعاية).

السؤال المهم هو اكتشاف مدى وعي هؤلاء المرضى. تُظهر الدراسات التي أُجريت على أعداد كبيرة من مرضى يعانون من إصابات في الدماغ، وكيف كان أداؤهم على مر السنين، أن فرقًا كبيرًا يحدث في فرصة الشفاء إذا كان المريض واعيًا في الحد الأدنى من الوعي وليس خضريًا. السابق لديه فهم مجزأ ووعي وقد يتعافى بما يكفي للعودة إلى العمل في غضون عام أو عامين.

ومع ذلك، ما تزال هناك مفاجآت، مثل حالة رجل الإطفاء في نيويورك دون هربرت، استيقظ بعد عشر سنوات من حالة واعية في الحد الأدنى ناجمة عن إصابة خطيرة في الدماغ، تعرض لها أثناء نضاله في حريق في عام 1995. في العام الماضي، أوصى شيف بسحب الرعاية من رجل قضى في غيبوبة لمدة ثمانية أسابيع بعد سكتة قلبية. يقول شيف: “لقد كنت مخطئًا! لقد عاد هذا الرجل الآن إلى العمل”. وقد استخدم شيف تقنية تسمى التصوير بالانتشار؛ لإظهار كيف يُمكن للمخ تجديد الأسلاك بنفسه حتى بعد عقود من الإصابة.

من المهم للغاية عدم إغفال التأثير على العائلات. لنأخذ جميل مثالاً على ذلك، وهو عامل بناء يبلغ من العمر 41 عامًا، فاقدٌ للوعي بعد الإصابة بأزمة قلبية. أصبحت عائلته مقتنعة بأن لديه بصيصًا من الوعي، وأنفقت ما يقارب من 14000 يورو في صراعها مع تشخيص الطبيب الصارم، ونقله إلى فريق لييج وستيفن لوريس لإجراء تشخيص مفصل. للأسف، كشفت عمليات المسح الخاصة بهم عن عدم وجود علامات على الوعي. الأسرة أخذت الأخبار بشكل سيئ؛ فأخته ليلى تصر على أن جميل يمكنه سماع ما يقولونه. وكما أوضحت فإنها قد تعبت من السفر والجراحة قبل إجراء عمليات المسح، وقد تعهدت الأسرة بجمع أدلة بالفيديو لإظهارها إلى لوريس.

لم يغير باراشكوف ناشيف وجهة نظره منذ أن انتقد عمل أوين لأول مرة، وحدد أساس عدم ارتياحه في ورقة أكثر تفصيلا نشرت في عام 2010. يقول : “لكل قريب لديه من يعيش في (حالة إنباتية مستديمة)؛ فإن المريض يعطي أملاً (ربما يكون مزيفًا).  إن هناك شخصًا آخر مثقلًا بالذنب المتمثل في استسلامه لسحب العلاج من شخص قد يكون -على ما يبدو- يعتقد أنه كان على قيد الحياة أكثر مما يبدو”. ويضيف: “هناك تكاليف معنوية للقبول الخاطئ كما هناك تكاليف للاستبعاد الخاطئ”.

قال لي: “أجد السيرك الإعلامي الذي يحيط بالمسألة بأكملها مأساويًا إلى حد ما، وأن أقارب هؤلاء المرضى يشعرون بالأسى بما فيه الكفاية أساسًا”.

يقضي كل من لوريس وأوين وشيف الكثير من الوقت مع العائلات، ويتفهمون هذه الحساسيات بشكل جيد. أوين يعترض على أنه من سنوات خبرته في التعامل مع العائلات، إنهم ممتنون أن الأطباء والعلماء يهتمون ويفعلون كل ما في وسعهم. إنه يقول بإصرار إن “هؤلاء المرضى قد تم انتقاصهم على مر السنين”. لقد أظهرت دراسة حديثة أن الكثير من الناس يمنحون “حقوقًا معنوية” للجثة أكثر من إعطائها لشخصٍ في حالة إنباتية. ظهرت هذه النتائج المفاجئة عندما طلب فريق من جامعة ماريلاند وجامعة هارفارد من 201 شخص قراءة قصص عن حادث سيارة عاش فيها بطل القصة أو مات أو أصبح في حالة إنباتية مستديمة. لقد أُعتبرت الأخيرة -الوقوع في حالة إنباتية مستديمة- أنها أسوأ من الموت.

يصر أوين أن على الأطباء واجبًا أخلاقيًا في توفير التشخيص الصحيح، حتى لو كانت النتائج تسبب الشعور بالذنب أو القلق أو الضيق. “يجب أن نعطي كل مريض أفضل فرصة لإجراء تشخيص دقيق، حتى نتمكن من منحهم الرعاية المناسبة التي تتوافق مع هذا التشخيص”.

تكمن مجموعة واسعة من إصابات الدماغ المختلفة تحت تصنيف مظلة “الخُضري/ الإنباتي”، ونتيجة لذلك يقبل بعض النقاد الأكثر صراحة أن بعض المرضى الخضريين لا يتناقصون كما تشير التدابير التقليدية. تترأس، لين تيرنر ستوكس، مجموعة من الكلية الملكية للأطباء تهتم بمراجعة إرشادات المملكة المتحدة حول “اضطرابات الوعي الممتدة”. إنها غير مقتنعة بأن الحالات الاستثنائية التي حددها أوين ولوريس وشيف شائعة بشكل خاص، أو أن إجراءات كافية اتُخذت لإنشاء ماسحات ضوئية للمخ كأداة قياسية للتشخيص الروتيني، خاصةً عند أخذ تكلفة هذه الوسائل وملائمتها بعين الاعتبار. عندما يتعلق الأمر بتوسيع نطاق هذه الاختبارات لتشمل جميع المرضى في الحالات الخضرية كالممارسة المعتادة؛ فإنه “لا يوجد دليل بعد على ذلك” كما أوضحت.

تقول تيرنر ستوكس إنه على الرغم من كل العمل الشاق منذ بحث بلوم وجينيت الرائد، لا تزال هناك حاجة إلى القيام بواجب أساسي لتنسيق المعايير والأدوات والجداول الزمنية لتقييم هؤلاء المرضى، إذ يجب القيام بالمزيد لضمان تقييم حالة مريض خضري في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، وسدّ الفجوات في فهم هذه المجموعة المعقدة للغاية من المرضى، لا سيما كيف يمكن أن تتغير أدمغتهم شفاءً مع مرور الوقت، لكنها تؤكد أنها حذرة وليست متشككة ببساطة، ووصفت أعمال أوين ولوريس وشيف بأنها “مهمة ومثيرة للاهتمام”.

تقول لين: “لقد بدأنا للتو في خدش السطح” (ما زلنا في أول الطريق)، وأضافت: “لكن ليس لدي شك في أن (هذه التقنيات) سيكون لها مكان في تقييم المرضى في نهاية المطاف”.

© Cédric Gerbehaye/Agence VU

يجري تحسين فن قراءة العقل باستمرار؛ فقد توصل أوين ولورينا ناسي إلى طريقة أكثر فاعلية للتواصل مع المرضى من خلال جعلهم يركزون انتباههم أثناء وجودهم في الماسحة الضوئية. أولاً، تُطرح أسئلة نعم أو لا، ثم يُدار تسجيل لكلمة “نعم” تتكرر عدة مرات تتخللها أرقام مشتتة وعشوائية، وتسجيل مشابه مع كلمة “لا”. يتعين على المشارك حساب عدد الإجابات الصحيحة التي يسمعها وتجاهل الإجابات الخاطئة. يظهر هذا الجهد العقلي “الانتباه الانتقائي السمعي” بشكل مميز عندما فحصت ناسي وأوين الدماغ؛ للتمكُّن من فك شفرة الاستجابات بشكل صحيح استنادًا إلى تغييرات النشاط داخل شبكة انتباه الدماغ.

أظهر سكوت روتلي في دراسات المتابعة باستخدام هذه الطريقة، أنه يعرف اسمه، كما أنه يميزه عن الآخر، وأنه كان في مستشفى وليس في أي مكانٍ آخر، مما يشير إلى أنه يتمتع بمستوى أعلى من الوعي الذاتي. يقول أوين: “لم يثبت ذلك فقط أنه كان في الواقع مدرك تمامًا، ولكنه كشف أيضًا عن أنه يتمتع باحتياطيات معرفية أكثر ثراءً مما يمكن افتراضه استنادًا إلى تشخيصه على أنه في حالة خضرية. وأضاف: “كان لديه معرفة بالسيرة الذاتية وواعيًا بموقعه بالزمان والمكان”.

ومع ذلك، هناك العديد من القضايا المتبقية لحلها، وكما يقول شيف، فإنه يتم بذل جهد قليل نسبيًا لاستكشاف وظائف المخ بشكل منهجي في هؤلاء المرضى، بعد التشخيص الأولي. هناك أيضًا مرضى واعون جدًا قد لا يتمكنون من تخيل التنس وما إلى ذلك، في حين يتمكن عدد قليل من المرضى الخضريين الاستثنائيين من ذلك. صادف فريق شيف مريضًا بقي خضريًا، أو في حالة منخفضة للغاية من الوعي الأدنى، لأكثر من عام واحد، لم يستجب للرنين المغناطيسي الوظيفي، ولكنه استعاد في وقتٍ لاحق القدرة على إجراء محادثة (مع أنه هل كان  حقا في حالة خضرية هو سؤال آخر بالطبع). وتشير دراسة أجرتها مجموعة لوريس عام 2014 إلى أن تقنية PET قد تكون أفضل من التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي في التنبؤ باحتمال استيقاظ المريض. ويقدّر أيضًا أن الإجراء التشخيصي القياسي يفتقد إلى علامات الاستجابة في حوالي ثلث المرضى الذين يصنفون على أنهم واعون بالحد الأدنى، وهو ما يلاحظه أوين بما يتفق مع النتائج التي توصل إليها مع شيف.

في الواقع، هناك قيود أخرى ناتجة عن استخدام الدواء أثناء التجارب أو التنوع الكبير للمرضى الذين عادة ما ينهارون في مجموعات (لمنع الأطباء من تنفيذ نفس الإجراءات على نفس المريض مرارًا وتكرارًا). عندما يتعلق الأمر بالمرضى الأصغر سنًا، هناك حد لعدد فحوصات PET التي يمكن إجراؤها في فترة معينة؛ لأن جهاز التتبع الإشعاعي يجب حقنه في الجسم. يعيق التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي أيضًا حقيقة أن آلات التصوير الضخمة التي تقدر بملايين الدولارات -المحصورة والمغناطيسية- غير مناسب للمرضى الذين تتأثر أجسامهم بالتشنج أو أعيد بناؤها باستخدام البراغي واللوحات والدبابيس وغيرها من المعادن.

لكن البدائل الأكثر ملاءمة قيد التطوير؛ فمثلًا يدرس لوريس توسع بؤبؤ العين، المرتبط بالفكر (كلما كان البؤبؤ أوسع، كان الشغف العاطفي لدى المريض أعلى، في حين رُبِطَت التوسعات الأكثر دقة بالوظائف العقلية مثل صنع القرار). هناك طريقة أخرى تتمثل في زرع أقطاب دقيقة في يد المريض لقياس نشاط العضلات “دون العتبة”، والتي تعمل عندما يُطلب منهم التحرك.

ربما يكون البديل الواعد هو التخطيط الكهربائي للدماغ (EEG)، الذي يكشف عن تشققات النشاط الكهربائي في المخ من خلال أقطاب كهربائية متصلة بفروة الرأس. يُعد هذا الجهاز رخيصًا وسهل الحمل نسبيًا وسريعًا (مع ملي ثانية من التأخر، مقارنةً بـ 8 ثوانٍ للـ fMRI)، ما يعني أنه يمكن لفريق البحث طرح ما يصل إلى 200 سؤال في 30 دقيقة. يمكن أن تطبق هذه الطريقة أيضًا مع المرضى الذين ينتشلون وينتقلون، أو الذين أعيد زرع بنائهم (زراعة الأعضاء ومنها الدماغ). يقول أوين -قام مع فريقه بتجهيز سيارة جيب- مؤكدًا “هذه مجموعة من المرضى الضعفاء، ونقلهم ليس بالأمر السهل”. مضيفًا: “الأفضل أن نقوم بتعبئة معداتنا فير(EEJeep) وزيارتهم بدلاً من ذلك”.

تم اختبار كاشف الوعي EEG بجانب السرير في مستشفيات أدينبروك وكامبريدج  ومستشفى جامعة لييج. يبدو الأمر مشرقًا وواعدًا ولكن تظل الشكوك قائمة، حتى بين المؤمنين بالفكرة، مع شكوك فريق شيف فيما إذا كانت منهجية EEG المحددة والمستخدمة مع الكاشف تعمل حقًا. يعترف لوريس أنه “يجب على المرء أن يكون حذرًا من تأثير السلمون الميت”، في إشارة إلى دراسة تافهة على ما يبدو للأسماك المتوفاة التي شكلت نقطة جدية حول حدود الرنين المغناطيسي الوظيفي. كافحت المنهجية لتمييز نشاط الدماغ الحقيقي عن “الضوضاء” في الخلفية المحيطة، مما يشير إلى أن سمك السلمون الأطلسي الميت الذي وُضِعَ في الماسح الضوئي كان يفكر حقًا. يقول لوريس: “لا نريد أن نتحمس للأسماك الميتة، لكن من ناحية أخرى، لا نريد أن نكون محافظين للغاية ونطالب بالإحصاءات التي تجعلنا نفوت الأشياء”. تَسبب النزاع في بعض التوترات -رغم توحيدها ضد منتقديها، إلا أن الجماعات لا تزال قادرة على المنافسة- لكن شيف يشدد على أن الأمر كله يعود بالنفع الأكبر: “نحن جميعًا مُموَّلون على منحة متعددة الجنسيات من أجل التحقق من صحة الأساليب ومشاركتها والموافقة على عملها؛ لهذا السبب دفعنا انتقاداتنا بقوة وفي النهاية كان الأمر أفضل للجميع”.


من الطبيعي التفكير اليوم في الانتقال بين الحياة والموت مثل تساؤل “كيف يكون الدماغ؟” بدلًا من “كيف يكون القلب؟”. لا يزال لدى المريض في الحالة الخضرية الدائمة جذع دماغي فعال ويمكنه التنفس دون مساعدة، قد يملكون درجة من الوعي ولديهم فرصة ضئيلة للتعافي. على سبيل المقارنة، يكشف مسح PET لشخص ميت دماغيًا عن وجود فراغ أسود داخل الجمجمة، مشكلًا منظرًا طبيعيًا عصبيًا قاحلًا مع عدم وجود فرصة للعودة إلى النشاط مرة أخرى: لا يمكن لأجسامهم البقاء على قيد الحياة دون مساعدة صناعية.

على الرغم من أنها أصبحت نادرة، إلا أنه لا تزال هناك قصص تقشعر لها الأبدان تغطي بوضوح الحدود بين الحياة والموت. في أكتوبر 2009، تم قبول كولين بيرنز في مركز سانت جوزيف الصحي في نيويورك بعد تناولها جرعة زائدة من المخدرات.  لقد أعلن الأطباء الفتاة البالغة من العمر 39 عامًا ميتةً، بينما كانت في غيبوبة سببتها المخدرات. لحسن الحظ بالنسبة لـ “بيرنز”، استيقظت قبل دقائق من إجراء أول شق لقطف أعضائها. يقول لوريس: “تذكر أنه ليس هناك مريض واحد أظهر المعايير السريرية لموت الدماغ وقد استعاد وعيه” مضيفًا: “عندما يدير المريض ذو الدماغ الميت هذا العمل الفذ، يتضح أنه لم يُفحَص بشكلٍ صحيح، ولم تُطبَّق عليه معايير موت الدماغ بشكل صحيح”. يعتقد شيف أن مجموعة من الأجهزة والأدوية والعلاجات الخلوية، التي تضع الأسس لجيل جديد من التشخيص والعلاج، سوف تنير المنطقة المُضللة بين الوعي واللاوعي. وكما أكد فإننا “لم نصل إلى هذا الحد بعد”. لقد أظهر الكثير من العمل حتى الآن قيمةً لفحوصات الدماغ على مجموعات المرضى، لكنهم في النهاية يحتاجون إلى أساليب يمكن الاعتماد عليها تعمل على أساس كل مريض، مما يعني تعريفات ومعايير دقيقة ومتقنة. إنهم بحاجة إلى طرق للتعامل مع القبول الخاطئ والاستبعاد الخاطئ، لفهم تأثير منظومة محيرة من إصابات الدماغ، من تجويع الأكسجين إلى الضربات وجروح الطلقات. يقول شيف: “سيتعين علينا إجراء بعض الدراسات الصغيرة المدهشة لإظهار ما هو ممكن في موضوع أو موضوعين قبل أن ينجز الجميع أشياء بسيطة يمكن أن تساعدهم اليوم”. أخيرًا، يعتقد شيف أنه سيكون هناك “تحول ثقافي”، كما يعتقد لوريس أننا قد نحتاج إلى البدء باللغة المستخدمة لوصف هؤلاء المرضى إذ إنه يريد استبدال مصطلح “الخُضري” المُثقَل بـمصطلح “اليقظة غير المستجيبة” المحايد.

إن البحث يتقدم إلى الأمام، على الرغم من الشكوك والصعوبات في التعامل مع هذه المجموعات المتنوعة من المرضى، وتحديات توحيد التشخيص. إنه يُحدث فرقًا بالفعل، مما يمكّن عددًا قليلًا من المرضى من إخبار أطبائهم عمّا إذا كانوا بحاجة إلى تخفيف الألم.

مرة أخرى على سكايب، يبتسم أوين ويفكر في ما إذا كان سيخبرني عما يخطط له بعد ذلك. أصبحت شريكة (زوجة) أوين، جيسيكا غراهن، وهي عالمة أعصاب أيضًا، حاملًا في بداية عام 2013. ما الذي سيحدث عندما يغفو الوعي في الدماغ النامي (دماغ الجنين)؟  

أرسل إليّ أوين مقطعًا مصورًا عن طفلهما الذي لم يولد بعد، ومونتاج من شرائح الرنين المغناطيسي الوظيفي من خلال رأس طفلهما، وهو يلف ويدور في رحم جيسيكا. وكتب: “يقوم زملائي بأداء الرنين المغناطيسي الوظيفي على بطن زوجتي كل أسبوع لبضعة أسابيع حتى الآن لمعرفة ما إذا كان بإمكاننا تنشيط دماغ الجنين”، وأضاف: “إنه رائع”.

 

– توفي سكوت روتلي في سبتمبر 2013 وعائلته إلى جانبه.

– لا تزال آن، صديقة أدريان أوين، في حالة خضرية.

– وُلد  جاكسون، طفل  أدريان أوين وجيسيكا غراهن، في 9 أكتوبر 2013.

– *تم تغيير بعض الأسماء لحماية الهويات.

– توضيح: شارك الكاتب (روجر هايفيلد) وأدريان أوين في السابق في تأليف ورقة بحثية عن الذكاء البشري نشرت في صحيفة  نيورون (Neuron) .


بقلم : روجر هايفلد | ترجمة : موزة الريامي | تدقيق الترجمة : مريم الغافري | تدقيق لغوي : محمد الشبراوي | تحرير : بسام أبو قصيدة | المصدر

Exit mobile version