“خلال أربعين عامًا في الممارسة الطبية، وجدت أن نوعين فقط من” العلاج “غير الدوائي لهما أهمية حيوية للمرضى الذين يعانون من أمراض عصبية مزمنة: الموسيقى والحدائق.”
“أعمل مثل البستاني” هذا ما كتبه الرسام العظيم خوان ميرو في تأمله حول الوتيرة المناسبة للعمل الإبداعي. ولا يمكن أن يكون الأمر محض مصادفة أن فريجينا وولف قد راودتها رؤيتها المثيرة بشأن ما يعنيه أن تكون فنانًا أثناء سيرها وسط أحواض الزهور في حديقة سانت آيفز.
وفي الحقيقة، أن تقوم بأعمال البستنة -وحتى مجرد أن تكون في الحديقة- ليس سوى انتصارٍ للمقاومة ضد السباق القاسي للحياة الحديثة، التي تركز بشكل قهري على الإنتاجية على حساب الإبداع والصفاء الذهني والصحة العقلية؛ فنتذكر بأننا مخلوقات عالقة في شبكة الوجود العظيمة التي من خلالها، كما لاحظ ذلك عالم الطبيعة العظيم جون موير منذ زمن بعيد حين قال: “نحاول انتقاء أي شيء بمفرده، لنجده مرتبطاً بكل شيء آخر في الكون”؛ ليرجعنا إلى ما هو أنبل؛ الأكثر طبيعية في أنفسنا. ثمة شيء إنساني عميق في الاستماع إلى حفيف شجرة تورقت حديثًا، ومشاهدة تودد نحلة طنانة لزهرة ما، والركوع على سجادة التربة لصنع حفرة لوضع شجيرة، وتحريك دودة الأرض المذعورة أو اثنتين بلطف لإبعادها عن الطريق.
ولقد أدرك والت ويتمان هذه الحقيقة حين فكر في ما قد يجعل الحياة جديرة بأن نعيشها أثناء تعافيه من سكتة دماغية أصابته بالشلل: “بعد أن استنفدت ما هو موجود في الأعمال والسياسة والعيش المشترك والمحبة، وهلم جرا- لم تجد أيا منها ما يرضيك نهائيًا، أو يدوم أبدا- ماذا يبقى؟” الطبيعة تبقى، لتبرز من خباياها الساكنة صلات التقارب بين الرجل أو المرأة وبين الهواء الطلق والأشجار والحقول وتغيرات الفصول- الشمس نهارًا ونجوم السماء ليلا.”
وتطرق طبيب الأعصاب والمؤلف المحبوب أوليڤر ساكس (9 يوليو 1933 – 30 أغسطس 2015) لهذه المكافآت النفسية والفسيولوجية المنقطعة النظير في مقال قصير جميل بعنوان “لماذا نحتاج الحدائق”، من مجموعة Everything in Its Place: First Loves and Last Tales (public library) – المجموعة العجيبة المنشورة بعد وفاته والتي قدمها لنا ساكس بشأن قوة المكتبات في تغيير الحياة. فكتب:
“بصفتي كاتبًا، أرى أن الحديقة ضرورة للعملية الإبداعية. وبصفتي طبيبًا، فإنني أخذ مرضاي إلى الحدائق كلما تسنى لي ذلك. فلقد خضنا جميعا تجربة التجول في حديقة مزدهرة أو في صحراء سرمدية، أو المشي على ضفاف نهر أو محيط، أو تسلق جبل وعندها نجد أنفسنا هادئة ونشطة ومنغمسة عقليا ومنتعشة جسديا وروحيا. وتعد أهمية هذه الحالات الفسيولوجية على صحة الفرد والمجتمع أساسية وواسعة المدى. خلال أربعين عامًا من الممارسة الطبية، وجدت أن نوعين فقط من “العلاج” غير الدوائي لهما أهمية حيوية للمرضى الذين يعانون من أمراض عصبية مزمنة: الموسيقى والحدائق.”
بعد أن عاش وعمل في مدينة نيويورك لمدة نصف قرن – في مدينة “أصبحت تُحتمل في بعض الأحيان … بسبب حدائقها فقط” – يسرد ساكس مشاهدته لتأثيرات الطبيعة المقوية على مرضاه الذين يعانون من إعاقات عصبية: رجل مصاب بمتلازمة توريت لا تظهر عليه الأعراض أبدًا أثناء تنزهه في الصحراء، في حين أنه يعاني من تشنجات لفظية وإيمائية لاإرادية شديدة في البيئة الحضرية. وامرأة مسنة مصابة بمرض باركنسون، والتي غالبًا ما تجد نفسها متجمدة في مكان آخر، تبدأ بالتحرك بسهولة في الحديقة، وليس ذلك فقط؛ بل يمكنها أيضًا التسلق صعودًا وهبوطًا في الصخور دون مساعدة. كما أن العديد من الأشخاص المصابين بالخرف المتقدم ومرض الزهايمر، والذين لا يستطيعون تذكر كيفية إجراء العمليات المدنية الأساسية مثل ربط أحذيتهم، يعرفون فجأة بالضبط ما عليهم فعله عند تسلم الشتلات ووضعها أمام حوض الزهور. فيروي ساكس:
“لا أستطيع أن أقول بالضبط كيف تمارس الطبيعة تأثيراتها المهدئة والتنظيمية على أدمغتنا، لكنني رأيت في مرضاي القوى المنعشة والشفائية للطبيعة والحدائق، حتى لأولئك الذين يعانون من إعاقات عصبية شديدة. وفي كثير من الحالات، تتفوق الحدائق والطبيعة على أي دواء.
ويستطرد ساكس بعد أكثر من نصف قرن من تأكيد عالمة الأحياء البحرية والرائدة في مجال البيئة راشيل كارسون من أن “بداخلنا تجاوبا متجذرا للكون الطبيعي، وهو ما يشكل جزءا من إنسانيتنا”: “من الواضح أن الطبيعة تستدعي شيئًا عميقًا فينا. فتعد البيوفيليا، حب الطبيعة والكائنات الحية، جزءًا أساسيًا من الحالة الإنسانية. كما أن الهورتوفيليا، الرغبة في التفاعل مع الطبيعة وإدارتها ورعايتها، مغروسة بعمق فينا. فيصبح الدور الذي تلعبه الطبيعة في الصحة والشفاء أكثر أهمية للأشخاص الذين يعملون لأيام طويلة في مكاتب بلا نوافذ، أو لأولئك الذين يعيشون في أحياء المدينة دون الوصول إلى المساحات الخضراء، أو للأطفال في مدارس المدينة، أو لمن في المؤسسات مثل دور رعاية المسنين. فتأثيرات الطبيعة على الصحة ليست فقط روحية وعاطفية بل جسدية وعصبية. وليس لدي شك في أنها تعكس تغييرات عميقة في فسيولوجيا الدماغ، وربما حتى بنيته.
بقلم: ماريا پوپوڤا | ترجمة: لمياء العريمية | تدقيق: مريم الغافرية | المصدر