عنوان الكتاب: حكايات القطِّ الشقي
مؤلف الكتاب: مارسيل إيميه
دار النشر: المركز الثقافي العربي
سنة الطبعة: 2019
رقم الطبعة: 1
عندما راح الوالدان يتهجّمان على القطِّ ويقرِّعانه، أجابهما مُدافعًا: “أنتما دومًا تبحثان عن مُبرِّر لتوجيه اللوم. النهار مخصَّص للنوم والاسترخاء. وحين أركض في العلية طوال الليل أطارد الفئران لا تأتيان خلفي للثناء علي.”! بمثل هذه العبارات الموجزة لفظًا النافذة عُمقًا والصادمة حقيقةً؛ يُقدِّم مارسيل إيميه ـ الأديب والمسرحي الفرنسي ـ عالمًا فلسفيًّا ساحرًا في مجموعته القصصية “حكايات القطِّ الشقي”، يرسُم فيه سلوكيات الإنسان وعيوب المجتمع، مُتكئًا على أسلوب سردي يجمع بين البراعة والفكاهة والمرح، وهو يحكي مغامرات الأختين “دلفين ومارينيت” مع حيوانات المزرعة التي تتواطأ معهما كثيرًا لمواجهة عالم الكبار، لاسيما الأبوان اللذان يُظهران قسوتهُما على البنتين والحيوانات في أحيان كثيرة.
في البدء حين تواجهُ غلاف الكتاب الخارجي، ستُدهشك تلك العتبة المكتوبة في منتصفه “كتبت هذه الحكايات للأطفال من 4 إلى 75 سنة”!؛ إذ إنها تُعيد تصنيف مرحلة الطفولة وتمنحُها امتدادًا يكاد يُلغي المراحل اللاحقة، فماذا بعد الـ 75؟ بل أيظلُ الطفل قارًا في دواخلنا حتى هذا العمر لكي يخاطبه مارسيل من خلال حكاياته الشقيَّة؟ أم أنها بداية إدراك الحياة ونهاية المقدرة على خوض غمارها؟ إنه العمر الذي سيثمر فيه الاستماع لأفكار مارسيل الفلسفية، المطروحة بمكر ودهاء، عن العدالة والاختلاف وتقبُّل الآخر والإخلاص والخيانة وقيمة الحياة! تقع الحكايات في كتابين كلُّ واحد منهما يضمُّ (224) صفحة بمجموع 15 حكاية، وفور أن تتصفح عناوينها ـ وأغلبها يحمل أسماء حيوانات ـ وترى بعض رسوماتها الجميلة ـ المرسومة بريشة فليب دوما ـ سيتبادر إلى ذهنك أنك ستقضي وقتًا مُمتعًا يذكِّرك بكتابات أخرى تتوقَّع أن تجد شيئًا منها في هذه المغامرات الطريفة، كرواية “مزرعة الحيوان” لجورج أورويل، والحكايات العجيبة للأخوين غريم، و”حكايات أمي الإوزة” لشارل بيرو، وكذلك حكايات أندرسون وأوسكار وايلد أيضًا؛ وفعلًا ستجد روحًا قريبة منها في هذه المزرعة التي تنطقُ حيواناتُها بحكمة وتتصرَّف بفطنة، وتفكر وتحاور وتتصارع وتنتقد تصرفات بعضها، ثم تجتهد بوفاء لإنقاذ الطفلتين من عقوبات الوالدين وإخراجهما من المآزق التي تقعان فيها مثل ما حدث في حكاية “البقرات” و”علبتا التلوين”.
في هذه المزرعة هناك الخروف والحصان والبقرات والبط والإوز والديك بل والفيل والفهدة أيضًا، ولكلٍّ منهم موقف ومغامرة ورؤية ودور في حياة “دلفين ومارينيت” بين أن يكون من الأصدقاء أو الوشاة الذين ينالون شرَّ الجزاء؛ لذلك كان جديرًا أن تحمل الحكايات عنوانًا آخر مثل “مزرعة الحيوانات العجيبة” أو “مغامرات دلفين ومارينيت” أو “حكايات مزرعة الحيوان”؛ إذ لم يكن للقطِّ – الذي إن أراد مضايقة الأبوين التجأ إلى موهبته العجيبة فمرَّر قائمته فوق أذنيه ليتساقط المطر مُكبِّلًا خروج الأبوين ومُتلفًا الحقول! ـ غير حكايةٍ واحدة وحضورٍ ضئيل في غيرها من الحكايات خلاف الحيوانات الأخرى التي تستجيب على نحو أكبر للطفلتين وتقاسمهُما الأوقات والأحاديث وخرق توصيات الكبار. ولكن ماذا لو أرادت الحيوانات المفترسة أن تتحامل على طبيعتها وتعيش بطيبة مع غيرها من الحيوانات الأليفة؟ هل ستنجح؟ أيمكن أن يتغلب الإنسان على طبعه، وإلى أي مدى؟ تلك إحدى المسائل التي طرحها مارسيل في حكاياته، كحكاية “الفهدة” التي التقت بذكر البط في سفره وتعلمت منه مفهوم “الجغرافيا” وأحدثت بوجودها (المفترس/ اللطيف) في المزرعة تغييرًا جذريًّا في حياة الحيوانات والأبوين، ثم ما لبثت أن خضعت لذاتها ولم تتمكَّن من السيطرة على غضبها من خنزير المزرعة الذي اختفى عن الأنظار دون أن يعلم أحد بمصيره رغم الشكوك!.
لقد ظل “الذئب” كذلك يتمزَّق بين محاولته العدول عن ممارسة ما يراه البشر “شرًّا” والتأقلم مع حيوانات المزرعة وعدم التهام الطفلتين، لكنه، وبعد أوقات من اللعب السعيد، لم يتمالك نفسه هو الآخر والتهم “دلفين ومارينيت” حتى استطاع الأبوان تخليصهما منه. ستتحدث هذه الحكايات كذلك عن حبِّ التعلُّم والاطلاع وقلق المعرفة، سيختلف “الثوران” وسيقتنع الأبيض منهما بكلام “دلفين ومارينيت” عن أهمية العلم “فأولئك الذين لم يتعلموا يستحقون الشفقة” كما قال نائب المحافظ، وسيتعلم القراءة والكتابة ويحفظ أشعار هوغو، ولكن أليس التعلُّم يفترض الارتقاء عن منزلة “الثور”؟ أيُّ خلل سيصيب تنظيم الوجود إن تعلَّم الحيوان وشغله العلم عن مهامه المفترضة والمُؤطَّرة سلفًا؟ أليس يستحق حينها، ما دام لم يعد مفيدًا فيما يُراد له، أن يُذهَب به إلى الجزار ويؤكل على العشاء؟! في حكاية “المسألة”، تقع الطفلتان في حيرة وتعجزان عن حلِّ الوظيفة، وستجتمع لأجلهما كلُّ الحيوانات وتبتدع حلًّا ظريفًا، وستحضر الحصة مع الطفلتين وتدافع عن حلِّ “المسألة” مستندةً إلى حجة تصدَّت بها الدجاجة للمعلمة: “إذا كنا لا نستطيع الوثوق بالنَّص، فالمسألة نفسها لا يعود لها معنى”! فحديقة البلدية في النَّص هي حديقة البلدية في المدينة ولا يمكن إلا أن يكون عدد الأشجار فيها هو ذاته المطلوب في “المسألة” صدقت أوصاف الحديقة في النَّص أم لم تصدق! لعل أصدق التضحيات هي أشدها إيلامًا، وتضحية “الكلب” جنت عليه حين ارتضى أن يأخذ عاهة صاحبه الضرير الذي ما إن رأى النور حتى هجره “من دون كلمة وداع”!، أما القطُّ الذي اعتاد القرب من الطفلتين فسيشعر بالغيرة لذلك الاهتمام الذي حظي به الكلب، غيرةٌ تدفعه لأخذ عاهة الكلب تكفيرًا وطلبًا لاسترجاع المكانة التي كان يملكُها في قلب الطفلتين، لكن الكلب انشغل بأعمال المزرعة عن “القطِّ الطيب”، ولم تهتم به الفتاتان، وتحت قسوة التهديد أخذت الفأرة عاهة القطِّ. لقد ظل الكلب سعيدًا وهو يبصر الحقول ويستمتع بعمله الجديد، ولكن ماذا عن الوفاء الذي فُطِر عليه؟ ألن يدفعه إلى العودة للحياة المألوفة حين يرى صاحبه الأول في حالة يرثى لها؟ وكيف سيجابه الحنين؟ تختزل هذه الحكاية لحظات حرجة في حياة الإنسان تفضي إليها قراراته ومشاعره ورغباته وصدماته بمآلاتها غير المتوقعة. وعلى الرغم من أن هذه الحكايات كُتبت قبل ما يتجاوز الخمسين عامًا، فإنها لم تفقد سحرها أمام ما نشاهده من أفلام أو نقرؤه من قصص عجائبية، إذ سيظل الإنسان/ الطفل مشدوهًا إزاء حكايات الحيوان التي تعرِّضه لاكتشاف ذاته وتفكيره وعيوبه.
تُرى أي حكاية من مغامرات “دلفين ومارينيت” أعجبتك؟ وأي حيوان من حيوانات المزرعة راق لك؟!