طائر مهاجر | قصة قصيرة لـ إليف شفق

ترجمة رولا عبيد

طائر مهاجر | قصة قصيرة لـ إليف شفق by نادي كلمة للقراءة

 

 

يُنْذِرُ الشِّتَاءُ بِقُدُومِهِ إِلَى هَذِهِ البَلْدَةِ المَهْجُورَةِ ، مِثْلَ سُلْطَانٍ لَهُ تَشْرِيفَاتٌ وَتَنْظِيمَاتٌ، فَيُرْسِلُ مَبْعُوثِيهِ مِنَ الرِّيَاحِ العَاتِيَةِ وَالعَوَاصِفِ الرَّعْدِيَّةِ ، قَبْلَ أَسَابِيعَ ، كَيْ يَعْلَمَ الجَمِيعُ أَنَّ مَوْعِدَ وُصُولِهِ قَدْ حَانَ ، لَكِنْ لَيْسَ هَذَا العَامَ. هَذِهِ المَرَّةَ ، هَبَطَ الشِّتَاءُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِدَّةِ سَاعَاتٍ. وَكَأَنَّهُ كَانَ مُصِرًّا عَلَى أَنْ يُدَاهِمَنَا. عَلَى غَيْرِ اِنْتِظَارٍ اِسْتَيْقَظْنَا فِي وَقْتٍ مُبَكِّرٍ مِنْ الصَّبَاحِ ، وَنَحْنُ نَشْعُرُ بِبَردٍ قَارِسٍ ، وَعِنْدَ مُنْتَصَفِ النَّهَارِ كَانَتْ الشَّوَارِعُ قَدْ اِرْتَدَتْ مِعْطَفًا أَبْيَضًا وَفِي وَقْتِ العَصْرِ، لَمْ يَعُدِ الثَّلْجُ يَتَسَاقَطُ عَلَى شَكْلِ نُدَفٍ رَقِيقَةٍ, إِنَّمَا باتَ يَسْقُطُ بِكَثَافَةٍ ، وَأَيْقَنَّا, نَحْنُ – الطَّلَبَةُ الَّذِينَ تَمَكَّنَّا مِنَ الوُصُولِ إِلَى الجَامِعَةِ – أَنَّنَا مُضْطَرُّونَ إِلَى البَقَاءِ دَاخِلَ المَبْنَى حَتَّى تُصْبِحَ الشَّوَارِعُ مُهَيَّأَةً لِلسَّيْرِ مَرَّةً أُخْرَى.

كَانَ الثَّلْجُ يَتَهَشَّمُ تَحْتَ قَدَمَيَّ ، وَكَانَتْ فَرْدَتَا حِذَائِي ثَقِيلَتَيْنِ كَأَنُهْمَا جِرْدَلانِ مِنْ الرَّمْلِ، كَتِلْكَ الَّتِي تُسْتَخْدَمُ فِي الحِمَايَةِ مِنْ الحَرِيقِ. وَأَنَا فِي طَرِيقِي إِلَى المَقْصَفِ الَّذِي يَتَرَدَّدُ عَلَيْهِ الطَّلَبَةُ وَالأَسَاتِذَةُ وَالمُسَاعِدُونَ، فُوجِئْتُ عِنْدَمَا وَجَدْتُ المَقْصَفَ قَدْ امتلأَ عَنْ آخَرِهِ، وَبَدَا كَأنَّ كُلَّ وَاحِدٍ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَفْضَلُ مَكَانٍ لِلاِنْتِظَارِ إِلَى أَنْ يَهْدَأَ الطَّقْسُ.

هُنَاكَ ، عِنْدَ طَاوِلَةٍ فِي رُكْنِ المَقْصَفِ ، رَأَيْتُ شَخْصًا غَرِيبًا يَحْتَلُّ الكُرْسِيَّ الَّذِي اِعْتَدْتُ الجُلُوسَ عَلَيْهِ، غَازِيًا مَكَانِي وَمُحَاطًا بِأَصْدِقَائِي ، كَان أَوَّلَ شَيْءٍ لَاحَظْتُهُ هُوَ شَعْرُهُ الأَشْقَرُ النَّاعِمُ وَالمُتَقَصِّفُ ، الَّذِي كَانَ فَاتِحًا إِلَى دَرَجَةٍ أَنَّهُ بَدا فِضِّيًّا خِلَالَ الإِضَاءَةِ الشَّاحِبَةِ المُتَسَرِّبَةِ عَبْرَ النَّافِذَةِ ، وَقَدْ بَدَا بَيْنَ النَّاسِ الَّذِينَ تَرَاوَحَتْ أَلْوَانُ بَشَرَتِهِمْ وَأَلْوَانُ شُعُورِهِمْ بَيْنَ دَرَجَاتِ البُنِّيِّ المُخْتَلِفَةِ كَأَنَّهُ رَسْمٌ فِي كِتَابِ تَلْوِينٍ لِلأَطْفَالِ نَسِيَ الطِّفْلُ أَنْ يُلَوِّنَهُ. وَفِي أَثْنَاءِ اِقْتِرَابَيْ مِنْ المَجْمُوعَةِ، كَانَ الغَرِيبُ يَمِيلُ فَوْقَ دَفْتَرٍ، وَيَقُولُ شَيْئًا لَمْ أَفْهَمَهُ؛ بِسَبَبِ الضَّجِيجِ.

صَفَّقَ أَصْدِقَائي وَضَحِكُوا, وَعِنْدَمَا وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ كَانَتْ الضِّحْكَاتُ قَدْ هَدَأَتْ ، رَغْمَ أَنَّ وُجُوهَهُمْ كَانَتْ مَا تَزَالُ مُشْرِقَةً.. قَالَتْ يَاسْمِين، صَدِيقَتي الَّتِي عَرَفْتُهَا مُنْذُ أَنْ كُنَّا فِي الاِبْتِدَائِيَّةِ : “آيْلا، تَعَالَيْ وَاِنْضَمِّي إِلَيْنَا، فَلَدَيْنَا زَائِرٌ يَتَعَلَّمُ اللُّغَةَ التُّرْكِيَّةَ!.” لِمَاذَا يُشَكِّلُ لِي شَخْصٌ غَرِيبٌ يَأْتِي إِلَى مَكَانٍ كُلُّ وَاحِدٍ فِيهُ يُحَاوِلُ الخُرُوجَ مِنْه لُغْزًا؟ حَسَنًا ، لَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ لَدَيْه رَغْبَةٌ مُلِحَّةٌ لِلمُغَادَرَةِ، لَكِنْ – عَلَى الأَقَلِّ – أَنَا .. فَجَامِعَتُنَا لَيْسَتْ بِهَذِهِ الرَّوْعَةِ، وَلَنْ يَزْعُمَ -حَتَّى عَمِيدُ الجَامِعَةِ- غَيْرَ ذَلِكَ. وَلَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَمْنَعَ نَفْسِي مِنْ التَّفْكِيرِ بِأَنَّنِي أُضِيعُ وَقْتِي هُنَا، بَيْنَمَا تَنْتَظِرُنِي حَياتِي الحَقِيقِيَّةُ فِي مَكَانٍ آخَر..

أَخَذَ أَصْدِقَائي يَضْحَكُونَ بِصَوْتٍ خَافِتٍ, عِنْدَمَا اِسْتَدَارَ الغَرِيبُ نَحْوِي، وَقَالَ بِلَكْنَةٍ لَافِتَةٍ لِلنَّظَرِ: “مَرْحَبًا اِسْمِي جِيرَارْد ” وَأَنْتِ مَا اِسْمُك؟” كَمْ نَعْشَقُ الغُرَبَاءَ وَهُمْ يَبْذُلُونَ جُهْدًا كَبِيرًا عِنْدَ نُطْقِهِمْ بَعْضَ الكَلِمَاتِ بِالتُّرْكِيَّةِ، وَيَكُونُونَ مُسْتَعِدِّينَ لِفِعْلِ أَيِّ شَيْءٍ يُؤَكِّدُ لِهُمْ أَنَّ نُطْقَهُمْ جَمِيلٌ، حَتَّى وَلَوْ كُنَّا لَا نَفْهَمُ كَلِمَةً مِمَّا يَقُولُونَ!. عَلَى عَكْسِ الجَمِيعِ – لَمْ أَبْتَسِمْ – فَمَدَّ “جِيرَارْد” يَدَهُ لِمُصَافَحَتِي وَأَخْذِ يَنْتَظِرُ..أَنَا لَا أُصَافِحُ الرِّجَالَ، فَأَنَا مِنْ عَائِلَةٍ مُتَدَيِّنَةٍ… مُتَدَيِّنَةٍ جِدًّا. مُنْذُ أَنْ بَلَغَتُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ العُمْرِ وَأَنَا أَلْبَسُ الحِجَابَ, وَأَشُدَّهُ جَيِّدًا تَحْتَ ذِقْنِي; تَفْصِيلٌ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ إِلَّا أَنْ يَرَاهُ, وَرَغْمَ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ “جِيرَارْد” أَنْ يَلْتَقِطَ الرِّسَالَةَ. هَزَزْتُ رَأْسِي بِأَدَبٍ فِي مُحَاوَلَةٍ خَرْقَاءَ مِنِّي كِي لَا أَجْرَحَ شُعُورَهُ. مَا إِنْ لَاحَظَ خَطَأَهُ حَتَّى سَحْبَ يَدَه ، وَزَحَفَ طَيْفٌ مِنْ أَطْيَافِ اللَّوْنِ الوَرْدِي عَلَى خَدَّيْهِ المَنْثُورَيْنِ بِالنَّمَشِ، كنثرات القِرْفَةِ المرشوشةِ عَلَى سَطْحِ كُوبٍ مِنْ اللَّبَنِ السَّاخِنِ فِي أَيَّامٍ بَارِدَةٍ مِثْلَ هَذِهِ الأَيَّامِ. لَمْ أُشَاهِدْ فِي حَيَاتِي مِنْ قَبْلُ رَجُلا يُحَمِّرُ وَجْهُهُ خَجَلًا. وَهَذَا الضَّعْفُ قَرَّبَهُ مِنِّي أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ آخَرَ.. وَكَيْ أُعَوِّضُهُ عَنْ الإِهَانَةِ الَّتِي سَبَّبْتُهَا لَهُ, اِبْتَسَمَتُ لَهُ وَعَرَّفْتُهُ بِاسْمِي: “آيْلا.” وَرَدَّدَ اِسْمِي, بِصَوْتٍ حَذِرٍ: “آ… يْلا.” جَلَسْتُ مَعَ بَاقِي المَجْمُوعَةِ عَلَى الطَّرَفِ, وَأَنَا أَرَمَقُ “جِيرَارْد” بِنَظْرَةٍ جَانِبِيَّةٍ: كَانَ كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ فَاتَحُ اللَّوْنِ ؛ بَشَرَتُهُ، وَمَفَاصِلُ أَصَابِعِهِ، وَعيْنَاهُ الرَّمَادِيَّتَانِ الخَضْراوَانِ المُنَقَّطَتَانِ بِمَسْحَةٍ مِنْ اللَّوْنِ الكَهْرُمَانِيِّ. إِنَّهُ – بِبَسَاطَةٍ – فَاتِحٌ جِدًّا, بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الجُزْءِ مِنْ العَالَمِ. وَالغَرِيبُ أَنَّهُ يُثِيرُ فِي نَفْسِي رَغْبَةً دَاخِلِيَّةً لِحِمَايَتِهِ, رَغْمَ أَنَّنِي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُحَدِّدَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ، أَوْ مِمَنْ!.

عِنْدَمَا كُنْتُ طِفْلَةً، قَرَّرَتْ وَالِدَتِي أَنْ تُبْهِجَنِي بَعْدَ أَنْ خَضَعْتُ لِعَمَلِيَّةِ اِسْتِئْصَالِ اللَّوْزَتَيْنِ ، فَأَهْدَتْنِي كَتْكُوتًا خَرَجَ لتوّهِ مِنَ البَيْضَةِ. قَضَيْتُ اليَوْمَ كُلَّهُ وَأَنَا أُمْسِكُ هَذَا المَخْلُوقَ الرَّقِيقَ بَيْنَ كَفَّيَّ ، وَلَمْ أَتَحَرَّكْ مِنْ شدِّةِ خَوْفِي عَلَيْهِ، وَكُنْتُ أسْتَمِعُ إِلَى خَفَقَاتِ قَلْبِهِ الرَّقِيقَةِ وَهِيَ تَدُقُّ بَيْنَ أَضْلُعِهِ. عِشْتُ فِي خَوْفٍ شَدِيدٍ عَلَيْهِ مِنْ اِحْتِمَالِ أَنْ تَأَكُلَهُ قِطَّةٌ، أَوْ يَجْلِسَ عَلَيْهِ أَحَدٌ. كُنْتُ شَدِيدَةُ الخَوْفِ عَلَيْهِ إِلَى دَرَجَةِ أَنَّهُمْ اضطّروا فِي النِّهَايَةِ إِلَى أَخْذِهِ مِنِّي. وَهَذَا الرَّجُلُ الغَرِيبُ الأَشْقَرُ يُذَكِّرُنِي بِذَاكَ الكَتْكُوتِ الأَصْفَرِ. أُرِيدُ أَنْ أُطْبِقَ يَدَيَّ حَوْلَهُ دُونَ أَنْ أَلْمَسَهُ كَيْ أَكُونَ وَاثِقَةً -فَقَطْ- مِنْ أَنَّهُ فِي أَمَانٍ.

فِي اليَوْمِ التَّالِي، وَبَعْدَ أَنْ ذَابَ الثَّلْجُ وَتَلَطَّخَ بِالطِّينِ، قَابَلْتُ يَاسَمِينَ بَعْدَ المُحَاضَرَةِ الأُولَى. أَخَذَتْ تُعَبِّرُ لِي عَنْ مَشَاعِرِ الرَّيْبَةِ الَّتِي تَنْتَابُهَا عِنْدَمَا تُقَابِلُ أَشْخَاصًا لَا تَعْرِفُ أَسْمَاءَ عَائِلَاتِهِمْ وَلَا أَصْلَهُمْ وَفَصْلَهُمْ،

قَائِلَةً: “يا ترى ، مَا السَّبَبُ الحَقِيقِيُّ وَرَاءَ وُجُودِ هَذَا الرَّجُلِ الهُولَنْدِيِّ هُنَا ؟

– فَأَجَبْتُهَا: لَقَدْ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ حَصَلَ عَلَى مِنْحَةِ تَبَادُلِ الطَّلَبَةِ فِي إِطَارِ بَرْنَامَجٍ يَدْعَمُهُ الاِتِّحَادُ الأُورُوبِّيُّ.

– فَأَجَابَتْ يَاسَمِينُ بِصَوْتٍ فِيه نَبْرَةُ اِحْتِجَاجٍ: نَعَمْ بِالطَبْعِ وَلَكِنْ ، إِذَا كَانَ الاِتِّحَادُ الأُورُوبِّيُّ لَا يُرِيدُ لتركيّا أَنْ تَنْضَمَّ إِلَيْهِ فَلِمَاذَا يُرْسِلُ طَلَبْتَهُ إِلَيْنَّا؟

– ألستِ تُبَالِغِينَ؟

لَكِنَّهَا تَجَاهَلَتْ اِعْتِرَاضِي، وَقَالَتْ مُكْمِلَةً حَدِيثَهَا: أَلَمْ يَخْطُرْ فِي بَالِكِ أَبَدًا أَنْ يَكُونَ مِنْ المُبَشِّرِينَ بِالدِّيَانَةِ المَسِيحِيَّةِ؟.

جَفَلْتُ بُرْهَةً ، ثُمَّ قُلْتُ: هَلْ تَعْتَقِدِينَ ذَلِكَ؟

هَزَّتْ رَأَّسَهَا بِالإِيجَابِ وَشُعُورٌ بِالغَضَبِ يَتَمَلَّكُهَا مَرَّةً أُخْرَى ، رَاوَدَنِي الشُّعُورُ الطُّفُولِيُّ ذَاتُهِ بِالهَلَعِ مِنْ عَدَمِ قُدْرَتِي عَلَى حِمَايَةِ الضَّعِيفِ ، وَأَنَا أُحَاوِلُ أَنْ أَقُولَ شَيْئًا لِلدِّفَاعِ عَنْهُ : “مِنْ الوَاضِحِ أَنَّهُ يُحِبُّ اللُّغَاتِ ، وَسَيُصْبِحُ مُخْتَصًّا فِي عَلَمِ اللُّغَوِيَّاتِ.. “

لَكِنَّ يَاسَمِينَ حَكَّتْ أَنْفَهَا فِي حَرَكَةِ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اِقْتِنَاعِهَا: “وَلِمَاذَا لَا يَكُونُ جَاسُوسًا؟”

فَقُلْتُ مُعْتَرِضَةً: “وَمَاذَا سَيَفْعَلُ جَاسُوسٌ فِي هَذِهِ البَلْدَةِ؟.”

رَدَّتْ يَاسَمِينُ: “وَمَا يَدْرِيكِ؟”, ثُمَّ أَخَذَتْ تُرَدِّدُهَا لِنَفْسِهَا فِي قَنَاعَةٍ تَامَّةٍ: “وَمَا يَدْرِيكِ؟.” ثُمَّ صَمَتْنَا لِأَنَّنَا رَأْيْنَا “جِيرَارْد” يَجْلِسُ وَحْدَهِ عَلَى المِقْعَدِ. وَعِنْدَمَا لَمَحَنِي رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الهَوَاءِ مُسْتَسْلِمًا وَكَأَنَنِي أَرْفَعُ سِلَاحًا فِي وَجْهِهِ، لَكِنَّنِي فَهِمْتُهُ فَلَنْ يُحَاوِلَ مُصَافَحَتَي مَرَّةً أُخْرَى. وَالآنَ جَاءَ دَوْرِي كَيْ يَحْمَرَّ وَجْهِي خَجَلًا..

بِالتَدْرِيجِ بَدَأْنَا أَنَا وَ “جِيرَارْد” الحَدِيثَ كَيْ يَتَعَرَّفَ أَحَدُنَا بِالآَخِرِ، وَبَدَأْتُ أَتَشَوَّقُ إِلَى رُؤْيَتِهِ مَرَّةً أُخْرَى كُلَّ صَبَاحٍ. وَحَذَّرَتْنِي يَاسَمِينُ الَّتِي كَانَتْ كَالصَّقْرِ لَهَا عَيْنَانِ حَادَّتَانِ وَطَبِيعَةٌ لَا تَقِلُّ شَرَاسَةً عَنْهُ قَائِلَةً: “مَاذَا تَفْعَلِينَ يَا آيْلًا هَلْ فَقَدْتِ عَقْلَكِ؟.”

– إِنَّهُ صَدِيقِي, وَعَقْلُكِ هُوَ الوَسِخُ!

– لَكِنَّهُ رَجُلٌ، وَرَجُلٌ غَيْرُ مُسْلِمٍ. يُمْكِنُكِ التَّخَلِّي عَنْهُ، سَتُصْبِحُ سِيرَتُكِ عَلَى كُلِّ لِسَانٍ. وَمَاذَا عَنْ وَالِدِكِ…؟ لَمْ تَكُنْ فِي حَاجَةٍ إِلَى أَنْ تُكْمِلَ جُمْلَتَهَا. تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتْرُكَهَا كَمَا هِيَ “وَكَأَنَهَا سكاكر تَعَرَّضَتْ لِلذُّبَابِ, وَلَا أَحَدَ يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَهَا.”

قُلْتُ لَهَا بِحَزْمٍ: “لَا شَيْءَ يَدْعُو لِلخَوْفِ, إِنَّنِي أَعْرِفُ نَفْسِي.”

رَفَعَتْ يَاسَمِينُ كَتِفَيْهَا ثُمَّ خَفَضَتْهُمَا فِي حَرَكَةٍ تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ – مِنْ خِلَالِهَا بِوُضُوحٍ – أَنَّهَا فِي حَالِ تَوَرَّطْتُ مَعَهُ فِي يَوْمٍ مِنْ الأَيَّامِ ، فَلَنْ تَكُونَ إِلَى جَانِبِي.

فِي وَقْتٍ لَاحِقٍ مِنْ الفَصْلِ الدِّرَاسِيّ ، عِنْدَمَا أَصْبَحَتْ صَدَاقَتُنَا مَتِينَةً ، طَلَبَ مِنِّي “جِيرَارْد” أَنْ أَعِدَهُ بِأَنْ أُصَحِّحَ لَهُ أَخْطَاءَهُ فِي اللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ فَقَالَ: “لَا تُجَامِلِينِي وَإِلَّا كَيْفَ سَأُحَسِّنُ لُغَتَيْ؟.” تَحْتَ بَشَرَتِهِ الحَسَّاسَةِ، وَوَجْهِهِ الخَجُولِ، كَانَ يُخْفِي ثِقَةً غَرِيبَةً بِنَفْسِه ، مِثْلَ مَدِينَةٍ تَحْتَ الأَرْضِ ، دَاخِلَ مَدِينَة.. ذَاتَ مَرَّةٍ فِي اِسْتِرَاحَةِ الغَدَاءِ، أَخَذْنَا نَتَذَكَّرُ – بِحَمَاسٍ – أَوَّلَ يَوْمٍ اِلْتَقَيْنَا فِيه. كَانَتْ أَسَابِيعُ قَدْ مَضَتْ عَلَى مشهدِ الثَّلْجِ وَالبَرْدِ والكانتين. أَخْبَرْتُهُ كَيْفَ بَدَا لِي شَعْرُهِ الفِضِّيُّ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ رَأَيْتُهُ فِيهَا، كَالزَّبَدِ الفِضِّيِّ لِلأَمْوَاجِ الهَائِجَةِ عَلَى بَحْرٍ مِنْ الأَجْسَادِ السَّوْدَاءِ، فَقَالَ وَهُوَ يَضْحَكُ إِنَّهُ وَرِثَ شَعْرَهُ عَنْ وَالِدَتِهِ، بِالإِضَافَةِ إِلَى أَسْنَانِهِ البَشِعَةِ وَنَظَرِهِ الضَّعِيفِ وَعَاطِفَتِهِ المُفْرِطَةِ الَّتِي لَا شِفَاءَ مِنْهَا ، ثُمَّ أَضَافَ:

– عِنْدَمَا رَأَيْتُكِ فِي المَرَّةِ الأُولَى ظَنَنْتُ – خَطَأً – أَنَّكِ مِنْ النَّاسِ ذَوِي النُّفُوسِ الغَاضِبَةِ.

– وَلِمَاذَا اعْتَقَدْتَ ذَلِكَ؟

– كُنْتِ عَابِسَةً جِدًّا، وَالنَّاسُ العَابِسُونَ يُخِيفُونَنِي. هَزَّتْنِي كَلِمَاتُهِ غَيْرُ المُتَوَقَّعَةِ وَالصَّادِقَةُ حَتَّى النُخَاعِ. وَعِنْدَمَا لَاحَظَ أَنَّ تَعَابِيرَ وَجْهِيْ قَدْ تَغَيَّرَتْ قَرَّبَ كُرْسِيَّهُ نَحْوِي لِيُبْدِيَ تَعَاطُفَهُ ، وَهُوَ حَرِيصٌ عَلَى عَدَمِ لَمْسِي ، ثُمَّ قَالَ: – لَكِنِّي, بَعْدَ أَنْ تَوَطَّدَتْ صَدَاقَتُنَا فَهِمَتُ أَنَّ انْطِبَاعِيَ الأَوَّلَ كَانَ خَاطِئًا .. جَلَسْنَا فِي صَمْتٍ لِبُرْهَةٍ. مَا لَمْ أَسْتَطِعْ قَوْلَهُ لَهُ هُوَ أَنَّنِي أَعْرِفُ النُّفُوسَ الغَاضِبَةَ لِأَنَّ وَالِدِي كَانَ أَحَدَهُمْ. كَانَ وَالِدِي رَجُلًا صَعّبَ المِرَاسِ وَمُشَاكِسًا ، وَفِيمَا مَضَى عِنْدَمَا كَانَ دَائِمَ التَّرَدُّدِ عَلَى الأَمَاكِنِ السَّيِّئَةِ السُّمْعَةِ كَانَتْ قِصَصُهُ تَصِلُ إِلَيْنَّا وَ – رُغْمَ ذَلِكَ – كُنَّا نَدَّعِي الجَهْلَ بِهَا ، وَبَقِيَ غَاضِبًا كَمَا كَانَ حَتَّى بَعْدَ أَنْ نَدِمَ عَلَى حَيَاتِهِ السَّابِقَةِ وَاخْتَارَ طَرِيقَ التَّدَيُّنِ . وَلَكِنْ ، فِي كِلْتَا الحَالَتَيْنِ كَانَ دَوْمًا غَاضِبًا. وَكَأَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ أَفْكَارِي سَأَلَنِي “جِيرَارْد” عَنْ عَائِلَتِي وَعَنْ أَبَوَيَّ تَحْدِيدًا، سَأَلَنِي عَنْ الإِيمَانِ، وَعَن اللهِ، بِحَذَرٍ شَدِيدٍ كَمَنْ يَدْخُلُ عَالَمًا يَلُفُّهُ الغُمُوضُ وَهُوَ خَائِفٌ مَنْ قَولِ شَيْءٍ خَاطِئٍ أَوْ القِيَامِ بِحَرَكَةٍ خَاطِئَةٍ وَغَيْرُ قَادِرٍ – فِي الوَقْتِ ذَاتِهِ – عَلَى كَبْحِ فُضُولِهِ. وَأَمَامَ إِصْرَارِهِ الخَجُولِ ، وَجَدْتُ نَفْسِي أَبُوحُ لَهُ بِأَشْيَاءَ لَمْ أُفَكِّرْ فِي حَيَاتِي أَنْ أَقُولَهَا لِشَخْصٍ آخَرٍ ، أَوْ -عَلَى أَقَلِّ تَقْدِيرٍ- لِشَخْصٍ غَرِيبٍ. كَانَتْ جَدَّتِي أَكْثَرُ الأَفْرَادِ تَقْوَىً فِي عَائِلَتِنَا عَلَى الرَغْمِ مِنْ أَنَّ طَرِيقَةَ إِيمَانِهَا مُخْتَلِفَةٌ عَنْ طَرِيقَةِ وَالِدِي. بَدَأْتُ – شَيْئًا فَشَيْئًا – أُحَدِّثُهَا عَنْ “جِيرَارْد”, كُنْتُ فِي أَشَدِّ الحَاجَةِ إِلَى فَتْحِ قَلْبِي لِأَحَد ، فَقَالَتْ جَدَّتي: – لَا تَتَعَلَّقِي بِهِ يَا حَبِيبَتي.

– لِأَنَّهُ مَسِيحِيٌّ؟

– لِأَنَّهُ طَيْرٌ مُهَاجِرٌ; اليَوْمَ هُنَا, وَغَدًا غَيْرُ مَوْجُودٍ..

لَمْسَتُ فِي كَلِمَاتِهَا خيًطا مِنْ الأَمَلِ، فَتَعَلَّقَتْ بِهِ وَقُلَتْ: – لَكِنَّكِ لَا تُمَانِعِينَ لِأَنَّهُ يَعْتَنِقُ دِيَانَةً أُخْرَى، أَقْصِدُ أَنّهُ إِذَا كَانَ جَادًّا فَبِإِمْكَانِهِ أَنْ يُصْبِحَ مُسْلِمًا فِي أَيُّ وَقْتٍ أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟.

عَبَرَتْ وَجْهَهَا نَظْرَةُ خَوْفٍ وَقَالَتْ: – هَذَا الحَدِيثُ لَنْ يَرُوقَ لِوَالِدِكِ.

– وَلَكِنَّكِ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا فَأَنْتِ وَالِدَتُهُ وَمِنْ المُفْتَرَضِ أَنْ يَسْتَمِعَ إِلَيْكَ!.

اِرْتَسَمَتْ اِبْتِسَامَةٌ خَفِيفَةٌ عَلَى وَجْهِ جَدَّتِي وَهِيَ تَقُولُ: – لَا أَحَدَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُرَقِّقَ قَلْبَ وَالِدِكَ إِلَّا اللهُ ، وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَكِنَّنَا لَا نَعْرِفُ مَتَى! وَحَتَّى ذَلِكَ الحِينِ عَلَيْنَا أَنْ نَدْعُوَ اللهَ وَنَنْتَظِرَ وَأَنْ نَمْتَنِعَ عَنْ القِيَامِ بِأَيِّ شَيْءٍ يَجْعَلُ دَمَهُ يَفُورُ غَضَبًا.

عَلَى الرَغْمِ مِنْ أَنَّنَا كُنَّا فِي فَصْلِ الرَّبِيعِ سَرَتْ بُرُودَةٌ فِي الهَوَاءِ فَاِرْتَجَفْتُ وَكَأَنَنِي أَنَا العَجُوزُ المَنْخُورَةُ العَظْمِ لَا جَدَّتي.. فِي اليَوْمِ التَّالِي حَاوَلْتُ أَنْ أُعْطِيَ “جِيرَارْد” فُرْصَةً لينأى بِنَفْسِه عَنِّي لَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْ. وَقَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ وَقْتُ الظَّهِيرَةِ كُنَّا نَتَحَدَّثُ وَنَضَحَكُ مَعًا مَرَّةً أُخْرَى.. أَخَذَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْنا ، فَمَنْظَرُ رَجُلٍ أُورُوبِّيٍّ أَشْقَرٍ يَمْشِي بِقِرَبِ فَتَاةٍ مُحَجَّبَةٍ إِلَى دَرَجَةٍ يَسْتَطِيعَانِ مَعَهَا أَنْ يَتَبَادَلَا الأَسْرَارَ هَمْسًا لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَشْهَدًا لَا يُفَوَّتُ.

فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ فِي غُرْفَةِ النَّوْمِ الَّتِي نَتَقَاسَمُهَا أَنَا وَأُخْتِي فَاطِمَة أُمْضِي اللَّيْلَ وَأَنَا أُفَكِّرُ – جَاهِدَةً – فِي أَسْبَابٍ تَمْنَعُنِي مِنْ حُبِّ جِيرَارْد وَأَتَسَاءَلُ: فِي حَالِ حَدَثَ أَنْ تَزَوَّجْنَا: كَيْفَ سَيَكُونُ شَكْلُ أَوْلَادِنَا يَا تُرَى؟ هَلْ سَيَرْثُونَ لَوْنَ عَيْنَيَّ السَّوْدَاوَيْنِ أَوْ شَعْرَهُ الأَشْقَرَ؟ رُبَّمَا سَنَعِيشُ فِي هُولَنْدَا وَالأَفْضَلُ أَنْ نَسْكُنَ فِي حَيٍّ يَكْتَظُّ فِيه المُسْلِمُونَ. بِالطَبْعِ حِينَئِذٍ سَيَكُونُ “جِيرَارْد” قَدْ أَصْبَحَ مُسْلِمًا، وَسَيَكُونُ عَلَيْهِ تَغْيِيرُ اِسْمِهِ.. كَانَتْ أُخْتي فَاطِمَةَ الَّتِي لاَ بُدَّ أَنَّهَا قَرَأَتْ مُدَوَّنَاتِي قَدْ عَرَفَتْ بِالقِصَّةِ:. – سَيَقْتُلُكِ وَالِدِي. مَزَّقْتُ كُلَّ الأَوْرَاقِ الَّتِي دَوَّنْتُ فِيهَا اِسْمَه. دَمَّرْتُ الهَدَايَا الَّتِي قَدَّمَهَا لِي; هَدَايَا صَغِيرَةً تَافِهَةً ، وَكُلَّ المُلَاحَظَاتِ وَالأَحْرُفِ وَالرُّسُومَاتِ الَّتِي دَوَّنَهَا بِخَطِّ يَدِهِ الدَّقِيقِ وَكُلَّ نُقْطَةٍ فَوْقَ “Ü” أَوْ “Ö” مَلَأَهَا بِالحِبْرِ. وَاِكْتَشَفْتُ أَنَّهُ مِنْ اُلْمُمْكِنِ مَحْوَ أَشْهُرٍ فِي غُضُونِ سَاعَةٍ.

عَزَمَ “جِيرَارْد” عَلَى قَضَاءِ إِجَازَةِ عِيدِ الفَصْحِ فِي بَلَدِهِ. فَفِي الشِّتَاءِ المَاضِي لَمْ يَشْعُرْ بِالعِيد لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ حَوْلَهُ أَيَّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ الاِحْتِفَالِ بِعِيدِ المِيلَادِ. أَخْبِرْنِي عَنْ تَقَالِيدِ عِيدِ الفَصْحِ ، وَعَنْ الشكُولَاتَة وَالبَيْضِ الَّتِي يُقَدِّمُهَا الأَرْنَبُ البَرِّيُّ الهُولَنْدِيّ وَ – مَعَ ذَلِكَ – تَجَنَّبَ أَيَّ حَدِيثٍ عَنْ نَبِيِّهِ أَوْ عَنْ كِتَابِهِ المُقَدَّسُ. كُنْتُ أَسْتَمِعُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ يَقُولُهُ ، وَأسْتَمِعُ – أَيْضًا – إِلَى صمتِهِ.. وَقَبْلَ أَنْ يُغَادِرَ أَعْطَانِي كِتَابًا لِجُبْرَان خَلِيل جُبْرَان هُوَ “المَحْبُوبُ”،  وَقَالَ لِي:. “لَدَيَّ مِنْهُ نُسْخَةٌ مُمَاثِلَةٌ وَإِذَا قَرَأْنَا الكِتَابَ ذَاتَهُ فِي الوَقْتِ ذَاتِهِ فَسَنَتَوَاصَلُ وَعِنْدَمَا نَلْتَقِي – مَرَّةً أُخْرَى – سَنَتَحَدَّثُ عَنٍ التَّجْرِبَةِ .. لَمْ أَكُنْ قَدْ بَلَغْتُ السَّابِعَةَ مِنْ عُمُرِي عِنْدَمَا بَدَّدَ وَالِدي كُلَّ أَمْوَالِنَا عَلَى فَتَاةِ لَيْلٍ، وَقَامَ حُرَّاسُهَا بِضَرْبِهِ فِي المَلْهَى اللَّيْلِيِّ الَّذِي تَعْمَلُ بِهِ، ثُمَّ أَحَسَّ بِالخَطَأِ الَّذِي اِرْتَكَبَهُ فِي حَيَاتِهِ وَقَرَّرَ أَنْ يُكَرِّسَ بَاقِي عُمُرَهُ كَيْ يُعَدِّلَ كِفَّةَ مِيزَانِهِ وَيُكَفِّرَعَنْ الذُّنُوبِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا فِي السَّابِقِ. فِي البِدَايَةِ اِخْتَفَتْ مَنَافِضُ السَّجَائِرِ مِنْ المَنْزِلِ ثُمَّ جُمِعَتْ زُجَاجَاتُ النَّبِيذِ الفَارِغَةُ تَحْتَ الحَوْضِ وَبِيعَتْ آخِرَ الأُسْبُوعِ إِلَى صَبِيَّةٍ مِنْ الغَجَرِ. اِبْتَهَجَتْ وَالِدَتي فَلَنْ تَشُمَّ بَعْدَ الآنَ رَائِحَةَ دُخَانٍ وَكَحُولٍ وَعَطِرٍ رَخِيصٍ وَلَمْ يَعُد عَلَيْهَا غَسِيلُ بُقَعِ القَيْءِ الَّتِي تَجِفُّ عَلَى مُلَابِسِه ، وَلَنْ يَنْظُرَ الجِيرَانُ إِلَيْهَا بِازْدِرَاءٍ بَعْدَ الآنَ. بَعْدَ مُدَّةٍ عُدْتُ مِنْ المَدْرَسَةِ لِأَجِدَ, فِي الخِزَانَةِ الحَائِطِيَّةِ مَكَانَ التِّلْفَزِيونِ مَزْهَرِيَّةً زُجَاجِيَّةً فِيهَا وَرُودٌ بلَاسْتِيكِيَّةٌ بَدَلًا مِنْ التِّلِفِزْيُونِ. سَأَلْتُ وَأَنَا أُحَاوِلُ أَنْ أَضْبِطَ أَعْصَابِي: – أَيْنَ التِّلِفِزْيُونُ؟ هُنَاكَ بَرْنَامَجٌ أَحْرِصُ عَلَى مُتَابَعَتِهِ وَقَدْ وَعَدْتُ صَدِيقَتي الَّتِي ذَهَبَتْ لِزِيَارَةِ جَدَّيْهَا أَنْ أُتَابِعَ الحَلَقَةَ وَأُخْبِرَهَا بِآخَرِ أَحْدَاثِهَا. كَانَتْ وَالِدَتِي تُحَدِّقُ بِي وَكَأَنَهَا لَا تَعْرِفُ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ أَتَحَدَّثُ!. – أَعْطَاهُ وَالِدُكِ لِشَخْصٍ.

– وَمَتَى سَيُعِيدُهُ؟

فَأَجَابَتْ وَالِدَتي فِي مُنْتَهَى الهُدُوءِ: “لَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى تِلِفِزْيُونٍ.”

صَرْخَتُ, وَرَكَلَتْ المَزْهَرِيَّةَ بِقَدَمِي وَمَلَأتُ البَيْتَ ضَجِيجًا بِقَدْرِ مَا أَسْتَطِيعُ ، وَعِنْدَمَا عَادَ وَالِدِي إِلَى المَنْزِلِ فِي ذَلِكَ المَسَاء جَلَسْتُ كَالفَأْرَةِ فِي مَكَانِي. حَاوَلَتْ كُلٌّ مِنْ فَاطِمَةُ وَوَالِدَتِيْ الاِسْتِمَاعَِ لِاِعْتِرَاضَاتِي اليَوْمَ كُلَّه وَهُمَا تَتَبَادَلَانِ النَّظْرَاتِ. كَانَتَا تَعْرِفَانِ أَنَّنِي لَنْ أتجرَّأَ  عَلَى رَفَعِ رَأْسِيْ أَمَامَ وَالِدِي وَلَا تَقَدِرُ أَيٌّ مِنْهُمَا عَلَى فِعْلِ ذَلِك، فَمَهْمَا بَلَغَ جُنُونُنَا أَوْ اِنْفَجَرْنَا ثَائِرِينَ كُنَّا نَحْرِصُ عَلَى أَلَّا يَصِلَ شَيْءٌ إِلَى مَسَامِعِ وَالِدِنَا ، لَمْ يَضْرِبْنَا فِي حَيَاتِهِ. لَا أَذْكُرُ, فِي أَيِّ مَرْحَلَةٍ مِنْ حَيَاتِي أَنَّهُ ضَرَبَنِي لَكِنَّنَا كُنَّا نَرْتَعِدُ خَوْفًا مِنْهُ ؛ فَلَدَيْه طَرِيقَةٌ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ،  يَخْتَرِقُكَ بِنَظَرِهِ وَيُحَدِّقُ بِكَ بِنَظْرَاتٍ حَادَّةٍ وَمُرْعِبَةٍ إِلَى دَرَجَةٍ تَجْعَلُكَ تَبْكِي ، وَإِذَا وَبَّخَكَ وَأَنْتَ عَلَى هَذَا الحَالِ فَلَنْ يَتَفَوَّهَ بِالكَلِمَاتِ بَلْ بِأَسْهُمٍ مُؤْلِمَةٍ وَصَاعِقَةٍ مِنْ الغَضَبِ. كَانَتْ أُمِّي أَكْثَرَنَا خَوْفًا مِنْهُ وَيَسْرِي خَوْفُهَا كَالفِيرُوسِ إِلَيْنا نَحْنُ أَوْلَادُهَا.. بَعْدَ صَلَاةِ الجُمُعَةِ دَفَعَتْنِي وَالِدَتي جَانِبًا, إِلَى دَرَجَةٍ أَنَّ شَعْرَهَا اِنْفَلَتَ مِنْ الدَّبَابِيسِ الَّتِي كَانَتْ تَشْبِكُهُ بِهَا. كَانَتْ قَبْضَةُ يَدِهَا عَلَى ذِرَاعِيْ شَدِيدَةً إِلَى حَدٍّ آلَمَنِي. لاَ بُدَّ أَنَّ فَاطِمَةَ قَدْ أَخْبَرَتْهَا. – هَلْ تُرِيدِينَ أَنْ يَبْصُقَ النَّاسَ فِي وُجُوهِنَا؟ أَلَا تخْجلِينَ؟
لَمْ يَكُنْ لَدَيَّ أَيُّ شَيْءٍ أُخْفِيهِ، أَنَا أُحِبُّهُ وَرَغْمَ أَنَّهُ لَمْ يُعَبِّرْ لِي عَنْ شُعُورِهِ بَعْدُ, أَنَا مُتَأَكِّدَةٌ مِنْ أَنَّهُ يُحِبُّنِي أَيْضًا. وَدُونَ أَنْ أُفَكِّرَ قِلَّتُ: – يُرِيدُ الزَّوَاجَ مِنِّي وَسَوْفَ يَعْتَنِقُ الإِسْلَامَ! فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ، لَمْ تَكُنِ الحَقِيقَةُ عَلَى نَفْسِ قَدرِ أَهَمِّيَّةِ الشّجَاعَةِ نَفْسِها: فَتَحَتْ أُمِّي فَآهَا وَأَغْلَقَتْهُ وَكَأَنَّ الكَلِمَاتِ قَدْ ضَاعَتْ مِنْهَا ثُمَّ قَالَتْ لِي مُتَوَعِّدَةً: – سَتَكُفِّينَ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ الآنَ. هَلْ تَسْمَعِينَنِي؟ وَإِلَّا فَإِنَّ وَالِدَكِ سَيَقْتُلُكَ وَيَقْتُلُنِي.

فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كُنْتُ أَنَامُ عَلَى فَتَرَاتٍ مُتَقَطِّعَةٍ لَكِنِّي كُنْتُ أَطُوفُ فِي حُلُمٍ هَادِئٍ ، كَان هُنَاكَ رَجُلٌ لَمْ أَكُنْ أَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ إِلَيْهُ لِأَعْرِفَ أَنَّهُ “جِيرَارْد”. كُنَّا فِي مَكَانٍ غَرِيبٍ، لَا هُوَ بِكَنِيسَةٍ وَلَا هُوَ بِجَامِعٍ, لَكنَهُ مَكَانٌ آخَرُ مُقَدَّسٌ. كَانَ يُمَسِكُ يَدَي وَعِنْدَمَا لَاحَظْتُ أَنَّ أَصَابِعَهُ كَانَتْ مُمْتَلِئَةً بِالبُثُورِ أَصَابَنِي الجُفُول. فَقَالَ لِي: “كَيْفَ سَنَعِيشُ مَعًا إِذَا كُنْتِ لَا تُحِبِّينَنِي؟ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةَ فَقَطْ رَأَيْتُ مَلَابِسِي. كُنْتُ أَرْتَدِي فُسْتَانَ فَرَحٍ طويلٍ مُزْدَانًا باللآلئ. كُنَّا نَتَزَوَّجُ. فِي الصَّبَاحِ اِسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا أَشْعُرُ بِسُرُورٍ وَصَفَاءٍ ذِهْنِي. سَوْفَ أُخْبِرُ وَالِدِي وَلَكِنْ فِي البِدَايَةِ يَجِبُ أَنْ أَخْبِرَ “جِيرَارْد” بِكُلِّ شَيْءٍ. وَلأنهُ لَمْ يَكُنْ لَدَيْنا كُمْبيُوترٌ فِي المَنْزِلِ ، فَقَدْ قَرَّرْتُ أَنْ أُرْسِلَ لَهُ رِسَالَةً إِلِكْتْرُونِيَّةً مِنْ كُمْبيُوترِ الجَامِعَةِ. وَلأنهُ لَيْسَ لَدَيَّ خِبْرَةً مَعَ الشَّبَابِ، لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ مَاذَا سَأَقُولُ لَهُ! بَعْدَ تَرَدُّدٍ طَوِيلٍ، أَخْبَرْتُهُ أَنَّنِي أُحِبُّهُ، وَأَنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُحِبُّنِي أَيْضًا وَأَنَّهُ عِنْدَمَا يَعُودُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِنَ إِسْلَامَهُ وَأَنَّهُ -عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ قَدْ يَجِدُ ذَلِكَ مُخِيفًا- سَيَكُونُ سَعِيدًا فِي هَذَا العَالَمِ ، وَ -رُبَّمَا- فِي العَالَمِ الآخَرِ. قَضَيْتُ بَاقِي الأُسْبُوعِ وَأَنَا اِنْتَظِرْ جَوَابُهُ. وَأَخِيرًا وَجَدْتُ رِسَالَةً فِي حِسَابِي البَرِيدِيِّ كَلِمَاتٌ مِنْ لُغَةٍ اِنْدَثَرَتْ. قَالَ إِنْ هُنَاكَ سُوءُ تَفَاهُمٍ وَإِنَّهُ يَعْتَذِرُ إِنْ كَانَ هُوَ السَّبَبُ فِيهُ. وَإنَّ لَدَيْه صَدِيقَةً وَإِنَّ الزَّوَاجَ هُوَ آخَرُ مَا يُفَكِّرُ فِيه ، أَمَّا عَنْ إِسْلَامِهِ فَهُوَ سَعِيدٌ بِدِيَانَتِهِ  وَلَا يُفَكِّرُ فِي تَغْيِيرِهَا ، وَهُوَ لَنْ يَعُودَ لِأَنَّهُ تَلَقَّى مِنْحَةً جَامِعِيَّةً فِي مَكَانٍ آخَرَ وَلَنْ يَنْسَى أَبَدًا الوَقْتَ الَّذِي أَمْضَاهُ فِي تُرْكِيا وَسَيَتَذَكَّرُنِي دَوْمًا.

لَا أَذْهَبُ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ إِلَى الكانتين ، وَأَتَجَنَّبُ لِقَاءَ يَاسَمِين ؛ لِأَنَّنِي لَا أَحْتَمِلُ سَمَاعَهَا وَهِيَ تَقُولُ لِي مَرَّةً أُخْرَى: “سَبَقَ أَنْ قُلْتُ لَكِ ذَلِكَ.. ” كُنْتُ مِثْلَ ضُلْفَةِ شُبَّاكٍ فِي عَاصِفَةٍ مَاطِرَةٍ تَضْرِبُ فِي الشُّبَّاكِ بِعُنْفٍ ،  أُقْدِمُ عَلَى مُخَاطَرَةٍ ثُمَّ أَتَرَاجَعُ ، وَأُحَاوِلُ أَنْ أَبْدَأَ مِنْ جَدِيدٍ ، ثُمَّ أَتَرَاجَعُ مَرَّةً أُخْرَى.

لَا شَيْءَ تَغَيَّرَ فِي حَيَاتِي ، وَ – فِي الوَقْتِ ذَاتِهِ – لَمْ تَعُدْ حَيَاتي هِيَ نَفْسُهَا..

Exit mobile version