مقتطفات من الطفولة | لـ فدوى طوقان

من سيرتها الذاتية | رحلة جبلية .. رحلة صعبة

مقتطفات من طفولة فدوى طوقان by نادي كلمة للقراءة

لم تكنِ الظروفُ الحياتيةُ التي عاشتْها طفولتي مع الأسرةِ لتلبّي حاجاتيَ النفسيةَ، كما أنّ حاجاتيَ الماديةَ لم تعرفْ في تلكَ المرحلةِ الرضى والارتياحْ. وإذا كانتِ الطفولةُ هي المرحلةُ الحاسمةُ التي ترسِمُ الشخصيةَ وتقرِّرُها لِما لها من أهميةٍ في حياةِ الفرد؛ فإنَّ طفولَتي، لسوءِ الحظِّ أو لحسنِ الحظِّ، لم تكن بالطفولةِ السعيدةِ المدللة.

لقد ظللتُ أتلهّفُ للحصولِ على دميةٍ تُغمِضُ عينَيها وتفتَحُها. وكنت استعيضُ عن دميةٍ خرجتْ من مصنعٍ بدميةٍ تصنعُها لي خالتي أم عبدُ الله أو ابنةُ الجارةِ علياءُ من مُزَقِ القِماشِ وقُصاصاتِهِ الملونة.

ولم أكن أحبُّ ملابسي لا قِماشًا ولا تفصيلا. فقد كانت أمي تخيطُ بنفسِها ولم تتقن هذه الصَّنْعَة، وكانتِ ابنةُ عمي شهيرةُ تلبسُ دائمًا أجملَ مما ألبسُ بما لا يقاس، إذ كانت أنَّها تبعثُ بملابِسِها إلى خَيَّاطةٍ مُحترفة.

أما بنتي فكانت عليلةً مُنهَكَةً بحمى الملاريا التي رافقت سنيَّ طفولتي. وكان شُحوبي ونُحولي مصدرًا للتندُّرِ والفكاهةِ وإطلاقِ النعوتِ الجارحةِ عليّ: تعالِي يا صفراء! روحي يا خضراء!

كنتُ أسمعُ عن أشياءَ مثيرةٍ تُميّزُ “ليلةَ القَدْرِ” دونَ سواها من ليالي العام. فهناكَ مثلا شجرةٌ في السماءِ تحملُ أوراقًا خضراءَ بعددِ أهلِ الأرضِ؛ فإذا كانت ليلةُ القدرِ تساقطتْ أوراقُ أولئكَ الذين سيموتونَ في ذلك العام، ونَبتَتْ أوراقٌ جديدةٌ للمواليدِ الذين يُولَدون. ومِن مَيزاتِ ليلةِ القدرِ انفتاحُ السماءِ للدعواتِ التي تصعدُ من القلوبِ الملهوفةِ؛ فتُستجَابُ وتتحققُ الأمانِي، وهكذا كنتُ أنزوي في ليلةِ القدرِ عندَ ركنٍ في ساحةِ الدارِ المكشوفةِ، أو عندَ شجرةٍ من أشجارِ النَّارِنْجِ، وأرفعُ وجهي إلى السماءِ ضارعةً إليها أنْ تجعلَ لخدِّي لونًا جميلاً مُشَرَّبًا بالحُمْرة حتى يَكُفُوا عن تسميتي بـ “الصفراءِ والخضراءِ”؛ فقد كانت تلك التسميةُ تجرَحُ إحساسي إلى درجةٍ كبيرةٍ.

كان ضَعْفُ شهيتي للطعامِ من ضمنِ أعراضِ ضَعْفِيَ الجسديَّ العامَّ، فلم أكن طِفلةً شَرِهَةً بحالٍ من الأحوالِ. وهذا يُذكِّرُني بحادثةٍ عابرةٍ ولكنْ كان لها وَقْعٌ مؤلمٌ على نفسي. فقد كانت تُجاورُ دارَنا واحدةٌ من دكاكينَ عديدةٍ تصْطفُّ على جانبَيِّ السوقِ القديمِ، الذي يمتدُّ من شرقيِّ البلدةِ إلى غربِها في خطٍّ طويلٍ مستقيمٍ. كانت تلك الدكانُ خاصةً ببيعِ الحلوى والكنافةِ النابُلْسيّةِ. وقفتُ في ظهيرةِ أحدِ الأيامِ على آخرِ درجةٍ من درجاتِ بابِنا الخارجيِّ في السوقِ أراقبُ مجموعةً من النحلِ كانت تحومُ على سدرِ الكنافةِ المعروضِ أمامَ الدكانِ. كان النحلُ يَحومُ ويَحطُّ ثم يَطيرُ ويَحومُ مرةً أخرى متنقِّلا على الكنافةِ من مكانٍ إلى آخرَ. كان المنظرُ مسليًّا لي وكنتُ خاليةَ الذهنِ من أمرِ الكنافةِ ولا أعيرُها أيَّ انتباهٍ، ثم فوجئتُ بشقيقيَ الكبيرِ يسوقُني من يديَ إلى البيتِ، قال ونحن نَرقى السُّلمَ: لا يليقُ بكِ الوقوفُ هكذا أمامَ سدرِ الكنافةِ فإذا كنتِ ترغبينَ في تناوُلِها أخبِري أمَّكِ وهي تحقِّقُ لكِ رغبَتَكِ.

نظرتُ إليهِ باستغرابٍ ولم أقلْ شيئًا، لم أحاولْ أن أصحِحَ ظنَّهُ الخَطَأَ، فقد كنتُ دائمًا عاجزةً عن الدفاعِ عن نفسي؛ فما يفترِضُهُ الآخرونَ هو الصحيحُ ولو كان خطأً، أو هذا ما يجبُ أن أُسلِّمَ به. غيرَ أنني شعَرْتُ في هذا الموقفِ بمهانةٍ كبيرةٍ. وطأطأتُ رأسيَ ونظرتُ إلى الأرضِ وأنا حزينةٌ أن يظُنَّ بي شقيقِي صفةَ الشَّرَهِ، بينما الطعامُ على مختَلَفِ أصنافِهِ هو آخرُ ما كنتُ أفكرُ فيهِ، وذلك لوفرتِهِ في البيتِ الذي كان يعجُّ دائمًا بالولائمِ.

كنتُ أتلهفُ للحصولِ على شيءٍ غيرَ الطعامِ.. حَلَقٌ ذهبيٌّ أو سِوَارٌ أو فستانٌ جميلٌ ثمينٌ أو دميةٌ من دُمى المصانعِ. كنتُ أتلهفُ للحصولِ على حبٍّ أبويٍّ واهتمامٍ خاصٍّ وتحقيقِ رغباتٍ لم يُحقِّقَاها لي في يومٍ ما.

في بلادِنا فلسطينَ يربِطُ الناسُ السعدَ والنحسَ بالمولودِ الجديدِ أو بالفرسِ الجديدةِ أو بالزوجةِ الجديدةِ أو بالمنزلِ الجديدِ. فيكون هذا الجديدُ مبعثَ تفاؤلٍ أو تشاؤمٍ بحسبِ ما يرافقُهُ من أحداثٍ سعيدةٍ أو تعيسةٍ.

تُرى هل ربطتْ أمي مَقْدَمِي إلى العائلةِ بالنحسِ الذي طرأَ عليها، أعني إبعادَ الإنجليزِ لأبي إلى مِصرَ مَنْفِيًّا عن عائلتِهِ ووطنِهِ؟

لستُ أدري فقد يحدُثُ هذا لا شعوريًا، فما أحبُّ أن أظلمَ أمي، ولكنها على أيةِ حالٍ لم تكن متفرِّغَةً لي ولا مشتاقةً إليَّ، بل أسلمتْنِي إلى صَبيَّةٍ كانت تعملُ في المنزلِ اسمُها (السُّمْرَةُ) لترعاني، وكان على أمي وظيفةُ إرضاعي فقط.

في فترةِ الفطامِ كانت تأخذُني السُّمرة لأنامَ معها في بيتِها المجاورِ، وقد رَوتْ لي فيما بعدُ كيفَ كان يكفِيها حينَ أبكي أن تُرَبِّتَ على كتِفَيَّ وعلى ظهري وتهمسَ في أذُنيَّ قائلة: (أنا السُّمْرة! أنتِ معي!) فأكفَّ عن البكاءِ مطمئنةً لوجودي معها وفي حضنِها، وقد ظللتُ أحبُّها كما أحببتُ أولادَها فيما بعدُ، وكانت قد أطلقتْ على واحدةٍ من بناتِها اسم فدوى.

كثيرا ما سمعتُ أمي تذكرُ طرائفَ ونوادرَ عن طفولةِ إخوتي، مما كان يُثيرُنا نحن الصغارُ؛ فنضحكُ ، وكنتُ أنتظرُ دائمًا أن تروي شيئًا عن طفولتي نادرةً أو حادثةً طريفةً طرافةَ الحوادثِ التي ترويها عنهُم، ولكن دَوريَ الذي كنت أنتظرُهُ لم يكن ليأتِيَ قطُّ.. فأبادِرُها بالسؤالِ وبلهفةِ الطفولةِ: احكي لنا يا أمي شيئا عني ماذا كنتُ أفعل؟ ماذا كنتُ أقول؟ بالله احكي! ولكنها لم تكن لتَبُلَّ غَليلي ولو بذكْرِ طُرْفةٍ تافهةٍ. وأَنكَمِشُ في داخلي وأُحِسُّ بلاشَيئِيَّتِي: أنني لا شئَ وليسَ لي مكانٌ في ذاكرتِها..

هنا كنتُ أشعرُ بشعورٍ غيرِ مريحٍ ولكني لم أكن أستطيعُ توضيحَهُ.

إن المشاعرَ المؤلمةَ التي نكابِدُها في طفولتِنَا نظلُّ نَحُسُّ بمذاقِها الحادِّ مهما بلغَ بنا العُمُرُ.

ومن الذكرياتِ التي تركتْ في نفسي أثرًا لسنواتٍ غيرِ قليلةٍ، ما يرتبطُ بذكرى ابنةِ عمي (شَهيرة). كانت تكبُرُني بأربعِ سنواتٍ، وحين ماتت في الرابعةَ عشرةَ من العُمُرِ بمرضِ الروماتزمِ لم يهزُّني موتُها بل تلقيتُهُ بشعورٍ حياديٍّ.

كانت تعذِّبُنِي بترفُّعِها وتعالِيها عنِّي، ترشُقُنِي باستمرارٍ بنظراتٍ عدائيةٍ قاسيةٍ. وقد نشأنا في نفسِ الدارِ والبيئةِ، ولم أكن لأهتدِي لسببِ كُرهِها لي؛ فقد كانت مُدللةً من قِبلِ والدَيها وتتمتعُ بالحبِّ والاهتمامِ الذَين ظللتُ أتوقُ إليهِما في طفولتي. كان لها قِرْطانِ ذهبيانِ يتدلَّيانِ على جانبَيّ عُنُقِها الأبيضِ، وكنتُ أحبُّ حركةَ القِرْطينِ وهما يرقصانِ كلما حركتْ رأسَها، وكم تمنيتُ لنفسيَ مثلَ هذينِ القِرطينِ البرَّاقَينِ الراقصينِ، ولكن هيهاتَ فما كنتُ أحدًا ليُعْنَى بتلبيةِ حاجاتيَ الماديةِ، دَعكَ من حاجاتيَ النفسيةِ.

كانت غرفتُنا تواجهُ غرفةَ زوجةِ عمي وبناتِها الثلاثِ. ولم يكن من تقاليدِ البيتِ أن ينامَ الوالدانِ في نفسِ الغرفةِ. فللأبِ دائمًا غرفةُ نومِهِ الخاصةِ، أما الأمُّ فكانت تنامُ مع أطفالِها في غرفةٍ أخرى.

لم يكن يفصلُ غرفَتَنا عن غرفةِ زوجةِ عمي وبناتِها سوى ساحةٍ صغيرةٍ مسقوفةٍ تتوسطُها بِرْكةٌ تتدفقُ المياهُ من نافورتِها. وفي كلِّ صباحٍ قبلَ ذهابِنا إلى المدرسةِ، كانت زوجةُ عمي تُجْلِسُ (شهيرة) أمامَها وتُمَشِّطُ شعرَها الطويلَ. وفي الوقتِ ذاتِهِ، أكون قد اتخذْتُ مِقْعَدِي أمامَ أمي لتُمشِّطَ شعري. كنتُ وأنا في مِقعدي ذاكَ أنظرُ إلى زوجةِ عمي وهي تُدللُ شعرَ شهيرةَ، تمشطُهُ على مهلٍ وتتهامسُ معها بحدثِ الأمِّ المهتمةِ بإشباعِ عاطفةِ ابنتِها بشكلٍ تلقائيٍّ وغريزيٍّ. وكان هذا كلهُ يحدثُ أمامَ بصرِي وسمعِي، بينما كنتُ أتلقى الضرباتِ على ظهري من قبضتَيّ أمي العصبيتينِ بسببِ ضيقِها بتملمُلِي بين يديها. كان تمشيطًا سريعًا عصبيًا مُوجِعًا؛ فلم تكن لتتعاملَ مع خُصلاتِهِ المعقدةِ الطويلةِ بتمهُّلٍ ورِفقٍ.

وبسبب شهيرةَ، وقعَ عليَّ الظلمُ من أمي أكثرَ من مرةٍ. كانت ابنةُ عمي تستعملُ ضدي أحيانًا سلاحَ الافتراءِ حتى لقد عاقبتْني أمي ذاتَ يومٍ بِدَعْكِ شفتَيَّ ولساني بِزِرٍّ من الفُلفُلِ الحارِّ، ورفعتُ صوتيَ بالبكاءِ المظلومِ، وأنا أُقسمُ لها أنني بريئةٌ، ولكنْ المفجعِ أنه ليسَ هناكَ دفاعٌ ممكنٌ ضد الافتراءاتِ. لقد عانيتُ من أمي في مثلِ هذهِ المواقفِ، وبقيتُ على مدى سنواتٍ طويلةٍ أراني في الحلُمِ وجهًا لوجهٍ مع أمي، حتى بعد وفاتِها هي صامتةٌ، وأنا يغمرُنِي شعورٌ بالقهرِ المكتومِ وإحساسٌ عنيفٌ بالغيظِ والظلمِ، أحاولُ الصراخَ لأعبّرَ لها عن ظلمِها لي، ولكنّ صوتي يظلُّ مخنوقًا في حلقي فلا يصلُ إليها. هذا الحُلمُ واحد من كوابيسَ كثيرةٍ كانت تعترِيني في أثناءِ نومِيَ باستمرارٍ.

كثيرا ما يتسرْبَلُ الحبُّ البَنَوِيُّ بملابسِ الكُرهِ. فبالرغمِ من أنني كنتُ شديدةَ الحساسيةِ لمعاملةِ أمي التي كانت تبدو لي فظّةً وقاسيةً، غيرَ أنني كنتُ في نفسِ الوقتِ شديدةَ الالتصاقِ بها نفسيًّا، وأخافُ أن تموتَ وتترُكَنا وحدَنا، وفي ليالي القدْرِ كنتُ أدعو اللهَ أن يُبقي ورقةَ حياتِها خضراءَ عالقةً على الشجرةِ التي في السماءِ.

Exit mobile version