وَفْقًا لِدراسةٍ بارزةٍ أجرتْهَا ألينْ لانجرْ.. اقتربَ أحدُ القائمينَ على التجربةِ من بعضِ الأفراد، وهم يَهُمون باستخدامِ آلةِ تصويرٍ تعملُ بالعملاتِ المعدنية، طالبًا أحدَ الطلباتِ الثلاثةِ التاليةْ:
(١) عفوًا، لدي خمسُ صفحاتٍ؛ هل يمكنني استخدامُ ماكينةِ تصويرِ المستنداتْ؟
(٢) عفوًا، لدي خمسُ صفحاتٍ؛ هل يمكنني استخدامُ ماكينةِ تصويرِ المستندات؛ لأنني في عَجَلَةٍ من أمريْ؟
(٣) عفوًا، لدي خمسُ صفحاتٍ؛ هل يمكنني استخدامُ ماكينةِ تصويرِ المستنداتِ، لأنني يجبُ أن أحصلَ على بعضِ النسخْ؟
الطلبُ الأولُ لا يقدمُ أيَّ سببْ، بينما الطلبُ الثاني يقدمُ سببًا مقبولًا اجتماعيًا، أما الطلبُ الثالثُ فهو غريبْ؛ إنه يقدمُ سببًا ليسَ في حقيقتِهِ سببًا، فإذا كنتَ تطلبُ استخدامَ آلةِ تصويرِ المستنداتْ، فمنَ الواضحِ أنكَ يجبُ أنْ تحصلَ على بعضِ النسخْ. الاكتشافُ المثيرُ للدهشةِ هو أنَّ الأشخاصَ وجدوا هذا السببَ الذي لا يُعَدُ سببًا أمرًا مقنعًا؛ فقد أذعنَ ستونَ بالمئةِ من الأشخاصِ للطلبِ عندَ عدمِ تقديمِ سببْ، لكن ثلاثةً وتسعينَ في المئة أذعنوا عندَ إضافةِ ذلكَ «السببِ» غيرِ المنطقيْ، وهي تقريبًا النسبةُ نفسُهَا عندَ إضافةِ السببِ الحقيقيْ. ما الذي يحدثْ؟
توضحُ لانجرْ أنَّ الأشخاصَ لا يفكرونَ أثناءَ هذا الحوارِ الذي يبدو معقدًا، فالبشرُ مستعدونَ لتقديمِ صنائعَ بسيطةٍ للغرباءْ، خاصةً إذا طلبَ الغريبُ طلبَهُ بطريقةٍ مهذبَةْ، وقدَّمَ سببًا لطلبِهِ المزعِجْ. ما يبدو أنَّ التجربةَ توضِّحُهُ هو أنَّ الشخصَ يسمعُ كلمةَ «لأنني» في الطلبْ؛ ومن ثَمَّ يعلمُ أنَّ الغريبَ قدَّمَ سببًا، «لكنَّ الشخصَ لا يكلِّفُ نفسَهُ عناءَ تقييمِ جودةِ ذلكَ السببْ.»
فكرةُ أننا نتصرفُ دونَ التفكيرِ في تصرفاتِنَا، كما لو كنا نعملُ ببرنامجِ تشغيلٍ آلي. حتى عند انخراطِنَا في سلوكياتٍ معقدة، هي فكرةٌ مألوفةٌ لدى مُعْظَمِنَا. من الواضحِ أنكَ لا تحتاجُ إلى التوجيهِ الواعي لحركاتِ يديكَ عند غلقِ أزرارِ القميصِ في الصباحِ أو ربطِ الحذاء؛ لقد سيطرتَ «بالفعلِ» عن وعيٍ على هذه الحركاتِ في سنِ الثانيةِ أو الثالثةْ، لكنها الآنَ أصبحتْ تلقائيةْ. والسلوكياتُ الروتينيةُ يمكنُ أن تكونَ أكثرَ تعقيدًا من حركاتٍ بسيطةٍ مثلَ ربطِ الحذاءْ؛ فربّمَا وجدتَ نفسَكَ على الأرجحِ تقفُ بسيارتِكَ عند مدخلِ السياراتِ في منزلِكَ، وتُدْرِكُ أنكَ كنتَ في حلمِ يقظةٍ طِوالَ طريقِك إلى المنزل، قَلِقْتَ بشأنِ مشكلةٍ مَا أو تخيلتَ إحدى الرِّحْلاتِ، وفي الوقتِ نفسِهِ التزمْتَ بقوانينِ المرورْ، ضغطتَ على مكابحِ السيارةِ ليعبُرَ المارةُ، وانعطفْتَ المنعطفاتِ الصحيحةَ، وهكذا. يبدو الأمرُ كما لو أنَّهُ يوجدُ برنامجُ كمبيوترٍ في ذهنِكَ تشغِّلُهُ عندما تركبُ السيارةَ، ويعملُ برنامجُ «الوصولِ إلى المنزلِ» دونَ إشرافٍ منكْ، ويتركُكَ حرًا لتفكرَ في أشياءَ أخرى.
يصبحُ برنامجُ التشغيلِ الآليِّ ملحوظًا بصفةٍ خاصةْ، عندما يعملُ في لحظةٍ نتمنى فيها ألا يعملَ. إذا كنتَ ترغبُ في المرورِ على المتجرِ الكبيرِ في طريقِكَ إلى المنزل، فربّمَا تجدُ نفسَكَ أمامَ منزلِكَ دونَ أن تكونَ قد توقفْتَ عند المتجرِ الكبيرْ. إنَّ برنامجَ «الوصولِ إلى المنزلِ» يأمرُ بالانعطافِ صوبَ اليسارِ عندَ شارعِ إيلْم، وأنتَ لم تقاطِعْهُ لتحرِصَ على الانعطافِ يمينًا كي تذهبَ إلى السوقْ. أو لنستخدِمِ المثالَ الذي قدمَهُ ويليامْ جيمْس، عالمُ النفسِ العظيمُ في القرنِ التاسعِ عَشْرَ، عندما قال: «معروفٌ عنْ الأشخاصِ الشارديِ الذهنِ للغايةِ أنَّهُم عندمَا يذهبونَ إلى غرفِ النومِ لارتداءِ ملابِسِهِم لِتناوُّلِ العشاءْ، أنهم يخلعونَ ملابِسَهُم قطعةً تِلْوَ الأخرى، وفي النهايةِ يرقدونَ في الفراشِ ببساطةٍ لأن هذا هو الأمرُ المعتادُ عند تأديةِ الحركاتِ القليلةِ الأولى في ساعةٍ لاحقةْ.»”
هذه الظاهرةُ المتمثلةُ في أنَّ الوعيَّ قد يُسْهِمُ قليلًا أو لا يسهمُ مطلقًا في بَدْءِ السلوكياتِ المعقدةْ، واتخاذِ القراراتِ المعقدةِ أحدثَتْ نوعًا من الثورةِ في علمِ النفسِ الاجتماعي. لقد اكتشفَ الباحثونَ أنَّ المزيدَ والمزيدَ من التفكيرِ الذي يقودُ حياتَنَا الاجتماعيَّةَ يَحْدُثُ خارِجَ نِطَاقِ وعيِّنَا.
إليكم مثالاً آخرْ: عندما تتحدثُ مع شخصٍ لديه لَكْنَة، هل لاحظْتَ مِن قبلُ أنكَ نفسَكَ تُقَلِّدُ تلك اللكنةَ، دونَ أن تلاحِظَ تمامًا أنكَ تفعلُ ذلك؟ هذا مثالٌ على ظاهرةٍ أكثرَ عموميةً: يُقَلِّدُ البشرُ بعضَهُم بعضًا أثناءَ التفاعلاتِ الاجتماعية. في إحدى التجاربِ التي توضِحُ هذه الظاهرة، رافَقَ كلَّ شخصٍ من الخاضعينَ للتجربَةِ شخصٌ آخرْ ظنوا أنَّه يخضعُ للتجربةِ معهم، لكنَّه في واقعِ الأمرِ كانَ مساعدَ باحثْ. طُلِبَ من الثنائي وَصْفُ محتوياتِ صورٍ فوتوغرافيةٍ غامضة، وأثناءَ المهمةِ بدأَ مساعدُ الباحثِ يمارسُ واحدةً أو اثنتين من العاداتِ العصبية، كهَزِّ القدمِ أو لَمْسِ الوجه، فقلَدَ الخاضعونَ للتجربةِ على نحوٍ غيرِ واعٍ سلوكَ مساعدِ الباحثْ..
لماذا نُقَلِّدُ؟ التقليدُ يولِّدُ الأُلْفَةَ، ونحنُ نحبُ الأشخاصَ الذين يشبهونَنَا. في رسالةِ بولسْ الرسولْ الأولى إلى أهلِ كورِنْثُوس يقول بولسْ: «صِرْتُ لليهودِ كيهوديِّ لأربَحَ اليهودَ. تَحْتَ الناموسِ لأربحَ الذين تحتَ الناموسْ، و صِرْتُ للضعفاءِ كضعيفٍ لأربحَ الضعفاءْ.» التشابُهُ يساعدُ في الإقناعِ حتى عندما يكونُ مَبْنِيًا على أمرٍ تافهٍ مثلَ امتلاكِ التشنُّجِ العصبيِ اللاإراديِ نفسِه، أو أخذِ عينةِ أيسْ كريم من حجمٍ مشابِه.” إننا بلا وعيٍّ يُقَلِّدُ بَعْضُنَا بَعْضًا لتسهيلِ التفاعلاتِ الاجتماعيةْ.
يتمثلُ الأمرُ في أنَّ لدينَا نَمَطَيْنِ من التفاعلاتِ الاجتماعية: نَمَطًا واعيًا يتضمنُ الاستخدامَ المنطقي للأدلةِ؛ فعلى سبيلِ المثالْ: عندمَا يضعُ النادِلُ الفاتورَةَ على الطاولةِ ويقولُ: «آمَلُ أنْ تكونَ قد استمتعتَ بوجْبَتِكَ!» أقولُ لنفسي إنَّ شريحَةَ اللحْمِ كانتْ يابسَةً بعضَ اليُبْسِ، لكنَّ السلطَةَ أُعِدَتْ على طريقةِ الخبراءْ. وبالمقارنَةِ على نحوٍ واعٍ بينَ الجيدِ والسيئْ، أُقَدِّمُ للنادِلِ تعليقًا محسوبًا مثلَ: «أجلْ، كانتْ جيدةً جدًا.» في النمطِ الثاني، النمطِ التلقائي، ألاحِظُ فَحَسبْ دلالاتٍ أو إشاراتٍ معينةً.
تعليقَ النادلِ لي على أنه ينتمي لفئةِ التفاعلاتِ الاجتماعيةْ، وهي في هذه الحالةِ «مجاملةٌ اجتماعيةْ». قد تكونُ الفئاتُ الأخرى على هذا النحوِ: «أحدُ المعارفِ يطلبُ معروفًا صغيرًا»، أو «إنجازُ مهمةٍ مع أحدِ الغرباء». بمجرَّدِ أنْ نُحَدِّدَ الفئةَ، يمكنني التصرفُ على نحوٍ ملائمٍ للموقفِ (إسداءُ المعروفِ، أو تقليدُ الغريبِ) بقليلٍ من التفكيرِ الواعي أو دونَه. في بعضِ الأحيانِ تسيرُ هذه العمليةُ العقليةُ على نحوٍ خاطئْ، فنُصَنِّفَ على نحو خاطئٍ ما قاله الشخصْ، أو يكونَ السلوكُ الصادرُ تلقائيًا غيرَ مناسبٍ بالمرة. في أكثرِ من مرةٍ، وضعَ النادلُ الفاتورةَ على الطاولةِ وقالَ لي بنبرةِ وداعْ: «استمتعْ ببقيةِ الحلوى!» وأجبتُ قائلًا: «شكرًا، وأنتَ كذلكْ.» لقد حوَّلَ عقلي اللاواعي تعليقَ النادِلِ إلى مجاملةٍ اجتماعيةْ، ثم ولَّدَ عقلي اللاواعي ردًا يَنْفَعُ عادةً، لكنَّهُ كانَ في هذهِ الحالةِ غيرَ مُلائِمْ.