1.
ترجّلتُ من سيارتي الجديدةِ نحوَ الفيلا مثقلةً بالمشترياتِ بعدَ تسوّقٍ كلّفني الملايينَ من الدراهمِ وساعاتٍ من الزمنِ.. استقبلتني الآنسةُ ميرسيدس مبتسمةً كعادتِها، وأخذت مني الأكياسَ لترتّبَ الملابسَ والأحذيةَ الجديدةَ في الدولابِ.. رائحةُ «الباييلا» التي تُعِدُّها ماريا تجعلُني شرِهَةً بشكلٍ مُقلِقٍ. جلستُ إلى سُفرةِ الطعامِ مُنبهرةً بالملذّاتِ المغريةِ لمعدتي الفارغةِ. آه يا ماريا! الأزمةُ تشتدُّ خِناقاً بإسبانيا وتخشَيْنَ مِن غضبي، وها أنتِ تتعمَّدين إثارةَ إعجابي باستمرارٍ.. حرَصْتُ على أن يكونَ كلُّ خدمي من الإسبانِ، أعشقُ لغتَهمُ الجميلةَ، وطعامَهُمُ اللذيذَ، والغموضُ الذي يلفُّ تاريخَنا المشتَرَكَ.. أحلامٌ قد تغدو حقيقةً إذا ما حصلتُ على رخصةٍ لزراعةِ الحشيشِ. دمْدمْتُ لنفسي وجرْعاتٌ كبيرةٌ من التفاؤلِ تفتِكُ برزانَتي.
2.
ضبطتْني قريبتي متلبِّسةً، أختلسُ النظرَ لأُصُصِ النباتات التي رصّتْها أمي بعنايةٍ فوقَ سطحِ المنزلِ. لم تربُطْني علاقةٌ قويةٌ بالنباتاتِ من قبلُ، اللهمَّ بعضَ نظراتِ الإعجابِ بين الفينةِ والأخرى. لكنَّ قلبي باتَ يخفُقُ بقوّةٍ للنباتاتِ ولكلِّ ما هو أخضرُ.. وفي كلِّ نبتةٍ أصبحتُ أرى في ما يرى النائمُ حِزَمًا من الأوراقِ النقديةِ. قرأتُ في عيونِ قريبتي الفضوليةِ استغرابَها من علاقتي الغراميةِ بالنباتاتِ، فقلتُ لها بشكلٍ صريحٍ: «أفكرُ في زراعةِ القُنَّبِ الهندي». لم تلقَ هذه الجملةُ الأنيقةُ أيّةَ ردّةِ فعلٍ، ظنّتْني سأزرعُ نبتَةً هنديةً.. استجمعتُ كلَّ ما أوتيتُ من شجاعتي وقلتُ لها: أقصدُ الكِيفْ. كادت مقلَتاها تنفجران من الدهشةِ، وأبقتْ فمَها مفتوحاً حتى تبدّى لي بلعومُها المتدلّي بشكلٍ مقرِفٍ. هممتُ أن أشرحَ لها أنها لم تفهم نيَّتي، أردتُ أن أُطلِعَها على مستجداتِ النقاشِ حولَ تقنينِ زراعة القُنَّبِ الهنديِّ لأغراضٍ طبيةٍ وصناعيةٍ.. تذكرتُ أن قريبَتي لا تكتَرِثُ بما يسمّى بالأخبارِ، بل إنني أكادُ أجزمُ أنها لا تعرف معنى كلمةَ أخبارٍ. ضحِكتُ لأوحي لها بأن الأمرَ مُجَرَّدَ نكتةٍ ثقيلةِ الدمِ، فراحتْ تثرثرُ وأنا أهزُّ رأسي مبديةً اهتمامي بقصصِها المملّةِ، وشردتُ بخيالي من جديدٍ.. أخالُ فرحتي وأنا أستلمُ رُخصةَ زراعةِ القُنَّبِ الهنديِّ عِوَضَ عُشبةِ الشَّيْبَةِ التي تحرصُ أمي على زراعتِها، وربما قد تتفتَّقُ عبقريتي وأصنعُ مسكّناً لآلامِ الشعبِ في انتظارِ عقاقيرِ الإصلاحاتِ.
3.
قريبتي أوّلُ الحاضراتِ في أعراسِ أبناءِ تجّارِ المخدِّراتِ، ترتدي أفخمَ الملابسِ، تتجمَّلُ بكلِّ ما لديها من حُلِيٍّ، تلتهمُ سمكةً كبيرةً محشوّةً بكلِّ أصنافِ فواكهِ البحرِ، تنهشُ لحمَ الخروفِ المشويِّ بوحشيةٍ.. وعندما تُنهي طعامَها تتفرّغُ للرقصِ على جثثِ ضحايا المخدِّراتِ من شبابِنا. لها ثلاثُ بناتٍ متزوجاتٍ بعِليةِ القومِ، فالصِّهْرُ الأولُ يملُكُ سلسلةَ مقاهٍ لتدخينِ المخدِّراتِ الخفيفةِ في أمستردام، تُصِرُّ قريبتي دائماً على إخبارِنا أن صِهرَها يبيعُ مخدراتٍ «حلالٍ» حسبَ القانونِ في هولندا! الصِّهرُ الثاني سياسيٌ لا يُشَقُّ له غبارٌ، كوَّنَ ثروةً كبيرةً من مُتاجرتِهِ سابقاً بالمخدِّراتِ لكنهُ تابَ وأصبحَ متديِّناً جداً، هو اليوم يملُكُ مجموعةً من المشاريعِ التجاريةِ، وأضحى وجهاً بارزاً في الأعمالِ الخيريةِ، والأدهى من هذا أنه تحوّلَ إلى كائنٍ سياسيٍّ بين عشيّةٍ وضحاها، وحَظِي بمنصبٍ برلمانيٍّ للأمةِ! الصهرُ الثالثُ صحافِيٌّ مغمورٌ، متخصّصٌ في نشرِ أخبارِ أباطرةِ المخدِّراتِ حسبَ العرضِ والطلبِ، جريدَتُهُ الصفراءُ تنْفَدُ سريعاً في مقهىً لا يرتادُهُ إلاّ السماسرةُ.. نسيتُ أن أخبرَكُم أن قريبَتي لا تربِطُني بها أيةُ علاقةٍ، أظنّها مُجَرَّدَ جنّيةٍ وقِحةٍ زارتْنِي في خيالي نافثةً سمومَها في تفاؤلي المُفرِطِ.