https://soundcloud.com/wordclub/enjoyment
حينئذ دَنَا منْهُ ناسِكٌ يزُورُ المدِينة مَرةً في السنةِ، وقال له: هاتِ حدِثنا عن اللذةِ. فَأَجابَ وقال:
اللذةُ أُنْشودةٌ سحريةٌ،
ولكِنَّهَا ليستْ حُريةً بذاتها.
اللذةُ زَهرةُ رَغْباتِكُمْ،
ولكِنَّها لَيْستْ ثَمرةً لها.
اللذةُ عُمقٌ يَنْشُدُ عُلوًّا،
ولكِنَّ لا هِي بِالعُمقِ ولا هِي بِالعُلُوِّ.
اللذةُ جَناحٌ قدْ أَفَلَتَ مِن قَفصِهِ،
ولكِنَّها ليْستْ فَضاءً حُرًّا طلِيقًا.
أَجلْ، إِنَّ اللذةَ بِالحقِيقةِ أُنشودةُ الحُريةِ.
وإنهُ لِيُطرِبُني أَْنْ تَتَرَنمُوا بِها في أَعماقِ قَلُوبِكُم، ولكنني لا آذَنُ لكم أن تستسلِمُوا بِقلوبكم للفناءِ. إن فريقًا مِن أحداثِكُم يَسَعُون وراءَ اللذةِ سَعِيهِمْ وراء كُل شيءِ؛ ولذلك يُحكَمُ عَلَيهِم بالقَصَاصِ والتأدِيبِ. أما أنا فلا أُدِيُنُهم، ولا أَحكَمُ عَليهِم، ولكنني أَسَأَلهُم أن يُفتشوا ويُنقَّبُوا؛
لأنهم سيجدون اللذةَ في تَفتِيشهِم،
ولكنهم لن يجِدُوها وحدَها فَقطْ،
فإن لها سبْعَ شقيقاتِ، أحقرَهُنَّ أَوْفرُ جمالًا مِنهَا.
وأَنتُم، أَلَم تسمعوا بِذَلِك الرَّجُلِ الذي كَانَ يَحْفَرُ الأرض لِكَيْ يَستَخرِجَ الجُذُورُ مِن أَعمَاقِهَا فَوجْدَ كَنزاً عَظِيمًا؟
وفريقٌ آخِر من شُيُوخِكُمْ يتذكَّرُونَ لِذَاتِ شَبَابِهِمْ آسفين، كأَنَّما هي جَرَائِمُ اِقْتَرَفُوهَا في أَوقَاتِ السُّكَّرِ والجُهَّالةِ.
ولكِنَّ الأسَفَ هو بالْحَقِيقةِ غَمَامَةٌ تَغُمُّ الفِكْرَ ولا تُؤَدِّبهُ؛ ولذلك يَجْدُرُ بِهِمْ أن يَتذكَّرُوا لِذَّاتِهِ بِالْحَمْدِ والثَّناءِ كما يَتذكَّرُونَ حِصادَ الصَّيْفِ.
ولكِن إذا كَانَ الأسَفُ يُعَزِّيهِمْ فلا بَأسَ أنْ يتعزُّوا بهِ. وهُنَالِكَ فَرِيقٌ ثَالِثٌ مِمَّنْ لَيْسُوا بالأحْداثِ لكي يُجَاهِدُوا مُفَتِّشَين عن لِذَاتٍ جديدةٍ، ولا بالشُّيُوخِ لكي يَتذكَّروا لذاتِ شبابِهِم، ولكِنَّهم لِشِدَّةِ خَوفِهِم من عَنَاءِ الجِهَادِ في التَّفْتِيشِ والألَمِ في التَّذْكَارَاتِ يُعْرِضُونَ عن جَمِيعِ اللَّذَّاتِ، لِئَلَّا يُهمِلُوا الرَّوْحَ أو يَجْدِفوا عَلَيْهَا. غَيْرَ أنَّ لَهُمْ مِن هذا الإعْرَاضِ بِعَيْنهِ لَذَّةً لِأَنْفُسِهِمْ؛ ولِذلِك فَهُم أيضاً يجِدونَ كَنَزًا لِذَوَاتِهِم معَ أنَّهُم يَحْفِرون لِأَجُلِ الجُذورِ بِأَيْدٍ مُرْتَعِشَةٍ.
ولكِن هَل لَكَ أنَّ تُخبِرَني – وأنتَ النَّاسِكُ الحَكِيمُ مِنْ هُوَ الَّذي يَسْتَطيعُ أن يكَدِّرَ على الرَّوْحِ صَفْوَهَا؟ أَيستطِيعُ البُلبُل أن يُعَكِّرَ صَفْوُ سِكِّينَةِ اللِّيلِ، أمِ الحُبَاحِبُ نُورَ السَّمَاءِ؟ وهلْ يَقدِرُ لَهِيبُ نَارِكَ أو دُخَانُهَا أن يُثْقِلَ كَاهِلَ الرّيحِ؟ أم هلْ تَعتقِدُ أنَّ الرَّوحَ بِرْكَةٌ هَادِئَةٌ وفي اِسْتِطَاعَتِكَ كُلَّمَا خَطَرَ لك أنَّ تُزْعِجَ هُدوءَهَا بِعصَاكَ؟
كُلمَا أَنكَرْتَ على ذاتك الَتَّمَتُّعَ بِلَذَّةٍ ما تُغْلِقُ بِيَدَيْكَ على تِلك اللذةِ في مُستودعاتِ كَيَانِكَ.
ومن يدري هَلْ تَعُودُ اللذةُ التي تَرفُضُهَا اليوْمَ فَتترقبُ عَوْدَتَكَ إليها في الغَد؟ لأن جَسَدَكَ يَعْرِفُ حَاجَاتِهِ الضَّرُورِيةَ وميراثَهُ الحقيقيَّ، فلا يَسْتَطِيعُ أحدٌ أن يخدعَهُ.
أجل، إن جَسَدَكَ هو قِيثارةُ نَفْسِكَ، وأنت وحدك تستطيع أن تُخْرِجَ مِنها أنغاما فَتانة أو أصواتاً مُشوشةً مُضطرِبةً.
ولعلك تَسأَلُ في قَلبِكَ قائلاً: «كيف نستطيعُ أن نُميـِِّزَ بين الصالِحِ والشِّريرِ من اللذاتِ؟» فاِذهب إلى الحقولِ والبساتينِ، وهنالك تَتَعلمُ أن لذةَ النحلةِ قائِمةٌ في امتِصَاصِ العَسَلِ من الزَّهرَةِ،
ولكن لذَّةَ الزَّهْرَةِ أيضا تقوُّم بِتَقديمِ عَسَلِهَا لِلنحلَةِ، والنحلةُ تَعتقِدُ أن الزهرَةَ ينبُوعُ الحياةِ،
والزهرةُ تُؤمِنُ بأن النحلةَ هي رَسولُ المحبةِ المُحَيِّيَةِ،
والنحلةُ والزهرةُ كلتاهما تعتقِدان أن اقتِبَالَ اللذةِ وتقديمِها حاجتان لا بد منهما واِفتِتَانٌ لا غِنى للحياةِ عنهُ.
أجل يا أبناءَ أورفليس، كُونوا في لِذَّاتِكُم كالنحلِ والأزهارِ.
المصدر: النبي | جبران خليل جبران